بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
تحولت إلى بكاء مكتوم انفجر فجأة عاليا بنشيج وآهات.. ظننته كابوسا.. فتحت عينى فزعا.. كان (أبي) في الركن الآخر من الغرفة متقوسا في جلسته على الكنبة محاولا احتواء بكاءه على نفسه دون جدوى.
هرعت إليه و كل خلايا جسدى تنتفض خوفا: مالك يا أبا؟ مثبتا نظارته إلى الأرض استمر يهتز باكيا.. نروح لدكتور؟.. عاوز أروح القهوة يا إبراهيم.. لملمت بعضا من مخاوفحاضي: حاضر يا (أبي).
أحضرت له العكاز.. بدفعة خفيفة من يده أعلن رفضه لاستخدامه.. مازال الجبل شامخا بداخله.. رغم فوران البركان في أعماقه وتشقق الصخور، وصوت الانهيار القادم الذى لا تخطئه أذن عابر.
ارتديت ملابسى.. خفضت من كتفى تحت إبطه.. مد ذراعه على طول كتفى.. شعور هائل بالاحتواء غمر (أبي) الطفل بداخلى تحت بسط ذراعيه.. كان الطريق إلى المقهى المقابل للمنزل تقريبا على الجهة الأخرى من الطريق لا يتعدى الدقائق الخمس.
بخطواته الضيقة التي يشدها الوهن إلى بعضها بضيق ووصلات التوقف للراحة كل بضعة خطوات وصلنا بعد قرابة الساعة.. بمجرد أن لاح (أبي) للجالسين على المقهى شبحه مستندا إلى كتفى انتفض بعض الجالسين إلينا يساندونه بقلوبهم قبل أجسادهم.
بمجرد أن رفع ذراعيه عن كتفى كان القميص أسفلهما مضمخا بالعرق الذى تحول فجأة مع نسمة هواء إلى برد قارص.. خواء يلفنى على مهل.. وأنا أنظر إلى الجمع يعانون في إجلاسه إلى إحدى المقاعد.
كان في البعيد وحش هائل يترقبنى بنظراته النارية في تحد لا يرد.. تناثرت العبارات المرشوش على سطحها ابتسامات تحاول بث بعضا من الاطمئنان – ألف حمد الله على السلامة يا حضرة الصول – ألف لا بأس عليك يا عم محمود – أيوه كده رجع لنا أيام زمان الحلوة.
ارتفعت صيحات جماعية
بعد دقائق و أنا واقف إلى جوار (أبي) أربت على كتفه – أديك شفت حبايبك أهو ياحاج زى ما طلبت.. يا للا بينا بقى نرجع ع البيت؟.. ارتفعت صيحات احتجاج جماعية – بيت مين؟ .. احنا ما صدقنا يرجع لنا القعده الحلوة – روح انت يا أستاذ إبراهيم شوف وراك ايه وابقى ارجع بعدين خد الحاج.
كان صاحب المقهى قد أرسل لأبي (الجوزة) يعلوها كمية من المعسل الذى يفضله (أبي).. أوما (أبي) بوجهه لى مؤمنا على طلبهم بأن انصرف وأعود إليه فيما بعد.. حاولت أن أدفع لصاحب المقهى مبلغا تحت الحساب ليغضب غضبا شديدا – بقى يا إبراهيم أفندى ..عاوزنى على آخر الزمن آخد فلوس من ابوك؟.
دا خيره مغطينى ومغطى كل اللى قاعدين حواليه دول العمر كله .. دا احنا كنا عايشين على حسه.. اللى كان عنده مشكلة ما كانش بيحمل لها هم في وجود أبوك.. اتكل انت على الله والحاج في عينينا.
وأنا أغادر المقهى التفت ناحيته.. كان المعسل يتوهج خافتا.. يكاد ينطفئ.. عصا الجوزة بين شفتيه المرتعدتين فقط لاستحضار صورة لحظات ماضية.. لكنه يعلم والحاضرين وحتى الجوزة نفسها أن الأنفاس المتبقية في صدره من الضعف على أن تشعل المعسل مرة أخرى.
كانت نظراته البطيئة يتناقلها بين الصوانى الذاهبة والآيبة والصيحات العالية والتصفيقات بالأكف القوية تنادى هنا وهناك.. شرابا ساخنا أو باردا وكأنه ينسلخ من الإحساس بكل هذه التفاصيل.
كأن (أبي) ينظر إلى الزمن يبرق بينما هو جالس يلهث يستريح معلنا استسلامه وخروجه من السباق عند هذه الجولة مكتفيا بما قطعه من عمر.
موقعا للحياة في المقهى على حصيلة ماعرفه من الأحباب الذين تركته بينهم يحيطون به بعبارات السؤال والتشجيع والضحكات العالية التي تحاول إزاحة جبل الحزن الرابض في الخلفية.
في البيت تمددت على الكنبة الخاصة بى أفكر في تصاريف الحياة الغريبة.. كتلك المذيعة التي أحبتني بجنون.. ذلك الحب الذى دفعها لأن تغلق أمامي كل الأبواب المفتوحة كى أظل فقيرا أحتاج إلى العمل معها وصحبتها الدائمة.
ملكية خاصة بها.. كان والدى يعرفها فقد زارتنا مرات عدة في الخفاء.. تذكرت (أبي) وسط لمة الحباب فداخلنى بعض الاطمئنان لأغفو لدقائق.. انتفضت فجأة لصوت طرقات شديدة على باب الشقة يصحبها ضجة.
عشرات الرجال يحملون (أبي)
اندفع إلى الصالة عشرات الرجال يحملون (أبي) وهو بينهم يئن بصوت مرتفع.. في رفق طرحوه على السرير.. العرق يتصبب من جبينه.. يسيل على عنقه.. الفم لم يكن بطبيعته.. كان منحرفا إلى جهة واحدة.
أسرع البعض باستدعاء صديقه القديم دكتور (فؤاد اسكندر).. أعلن بعد الكشف عليه أنها جلطة في المخ نالت من حركة الذراع والساق واللسان.. كان أبى يزوم دون كلمات واضحة فيستعين بنظراته يعبر بها.
أرسل الدكتور (اسكندر) بسرعة من يشترى دواء على نفقته الخاصة رغم علمه انه لاجدوى منه لكنه التشبث بخيال الأمل البعيد.. التففنا حوله نحن أبنائه التسعة تفلت منا الدموع و الآهات الحزينة.
كان بدنه كله بيننا يهتز ببكاء مكتوم، وهو يزوم بكلمات لا نفهمها.. لكننا نشعر بألم كل حرف منها: فوق الكنبة وأنا قاعد فوق الكنبة بفكر فى المصروف وازاى هانعيش خبطوا ع الباب وسمعت بكاء.. حسيت وكأنى عايز أجرى.. واخبى عنيّه بكف حديد.
لكنى جريت ع الباب فلمحتك وأنت بتبكى ورجلك رافضه تشيلك.. شفت دراعك مرمى فى وسط الناس، ولقيت بقك معووج فسندتك.. وطيت لاجل تبوس فى إيديّه وكنت كأنك واحد غيرك.
نظرة طفل حزين مجروح
كان فى النظره ذهول قعدتك فوق الكنبة.. وخرجت كل الناس فيه إيه؟.. أرجوك.. فيه إيه؟، مش قادر تنطق ليه؟ وتبص عليّ بنظرة طفل حزين مجروح.. يا حبيب الروح ما تقول تيجى تتكلم تنطق حرف، تزوم فتعيَّط أكتر أول مره أشوفك جوه الضعف.
كسير أنا أول مرة أشوفك بين الناس مكسور.. عصفور مش لاقى لحاف ملاح مش لاقى ضفاف علشان يداريه.. مالك يا عزيز ع القلب يا سيد الناس مش قادر ليه تنطق وتقول (محمود رضوان) مذهول بقى بعد العمر دا كله اتهان وأبص عليه فتقوللى عنيه (محمود رضوان) مشلول ويطول بيك المشوار.
ويطول .. ويطول وأنام فى الأوضه التانية ونص الليل يوصلنى بكاك ما كفايه يا (أبي) الحاج أنين.. ما كفايه وجع وألم وعياط ..اسمك بالذات كان مالى الدنيا تواضع.. مالى (المركز) بالبسمات ما ننام.. أرجوك وتسيبنى أكمل ليك (الأنة) بألف أنين.
أرجوك .. أرجوك الناس بتقوللى أبوك كان راجل طيب.. أصرخ.. أنا مش عايز حد يقوللى: دا كان (محمود رضوان) قاعد فى البيت من بعد ما كان قاعد بهدومه الميرى فى وسط الناس وتبص لدمعى تمد الإيد التانيه وتمسح لىّ دموعى بكل حنان.. يا عم الشيخ (محمود رضوان).
يا سيدنا الصول الناس بتقول عنك حكايات يتبسم بسمة طفل بريء.. وما عادشى يابويا الحاج زعيق.. على كل اتأخر نص دقيقة.. عشان الضيف وما عادشى رغيف يتحط بحتة لحمه لحد الأكل ما يجهز ليك وما عادشى أقفاص للفاكهه بتيجى وراك وبتملى البيت.
وما عادشى دخول وخروج من غير أسباب.. اتقفل الباب وانفتح الباب دخلوا الأولاد التسعه ولمُوا العشرة جنيه علشان ما يجيبوا لجسم سعادتك آخر توب اللقا مكتوب ووداع الروح مكتوب.. وأنا لسه بادوب فى هواك ولا أقدر أتوب وأراجع نفسى.. أقول قصرت فى حقك يا (أبي) كتير وألاقى الكون قدامى ذنوب.
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد