تهديد الأمن القومى من أجل حفنة جنيهات
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
عندما عقدت لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة في الدورة الماضية (2022/ 2023) مائدتها المستديرة حول المسرح الإقليمى – و في القلب منه مسرح (الثقافة الجماهيرية) – لم يكن هدفها من المائدة أن تدين أحداً، أو أن نبكى الظروف، أو تسعى لتمجيد الماضى.
وإنما أرادت استكشاف واقع الحال واقتراح طريق نحو الأفضل، طريق قابل للتنفيذ ويراعى ظروف الدولة، لذا حرصت اللجنة خلال الجلسات على عدم الغرق فى التفاصيل – ففيها يكمن الشيطان كما يقولون – والابتعاد عن أى مشكلات شخصية أو لها طابع فردى.
و فى نفس الوقت كانت لجنة المسرح تعلم أن ما قدمته من جهد ليس نهاية المشوار ولا هو القول الفصل، وأن جهدها هو مجرد خطوة فى طريق مزيد من الازدهار لمسرح (الثقافة الجماهيرية)، وتعلم أن خطوتها تلك مجرد حجر فى الماء الراكد وتتمنى أن يكون لها أجران لا أجر واحد.
ومع ذلك فقد انتبهت الى مشكلة كانت سحبها تتجمع والآن صارت عاصفة توشك بالإطاحة بمسرح (الثقافة الجماهيرية)!!
فقد كانت إحدى توصيات المائدة التي جاءت في اختصار ودون تفاصيل تنص على: مخاطبة الجهات المعنية بالإجراءات المالية (وزارة المالية – مصلحة الضرائب) لتسهيل إجراءات الصرف أو توحيدها، وإيجاد وسيلة تضمن الإنتاج بسرعة وسهولة، إلى أن تراجع هذه الجهات مدى ملاءمة هذه الاجراءات للعملية الإنتاجية الفنية.
جاءت هذه التوصية بسبب أن هناك منشور لوزير المالية ينص على أن (يلتزم الجهاز الادارى للدولة بالتعامل بالفاتورة الإلكترونية، وأنه يحظر التعاقد مع أى من الموردين أو المقاولين أو مقدمى الخدمات أيا كان نوعها إلا إذا كان مسجلا فى منظومة الفاتورة الإلكترونية).
نظام الفاتورة الإلكترونية
وهو قرار تطبقه حاليا الجهات الإنتاجية الحكومية على المهن الحرة من الفنانين والكتاب والموسيقيين وغيرهم، برغم أنهم ليسوا موردين ولا مقاولين ولا مقدمى خدمات بل هم مبدعون يخضعون لضرائب المهن الحرة غير التجارية.
ولا يملكون شركات لها أختام وتوقيع رسمى إليكترونى حتى يمكنهم التسجيل فى نظام الفاتورة الإلكترونية!!
وأيا كانت اعتراضاتنا على هذا القرار التي ذكرناها سابقا ونكررها الآن – و بالمناسبة هى اعتراضات لها وجاهتها ولم يسمع لها أحد – فهذا القرار يهدد جهازا ضخما مثل الهيئة العامة لقصور الثقافة بالتوقف عن النشاط ، ما أدراك ما معنى هذا التوقف؟
بمنتهى البساطة إنه تهديد للأمن القومى، فتوقف نشاط قصور الثقافة يعنى أنك تفتح الباب لكل خفافيش الظلام، وأن الحديث عن رؤية مصر 2030 في الثقافة مجرد لغو، والكلام عن تنمية البشر وبناء الإنسان مجرد سفسطة لا قيمة لها، و كل ذلك من أجل حفنة جنيهات.
إن واقع النشاط الفني للأقاليم والذى تقوم به هيئة قصور الثقافة منذ نشأتها تحت مسمى الجامعة الشعبية في النصف الأول من القرن الماضى و حتى الآن، أقل من طموحات الجميع – بما فيها مسئوليها – واليوم بسبب هذا المنشور يهدد هذا النشاط – على تواضعه – بالتوقف.
فهناك أمر من وزارة المالية لجميع مراقبى الحسابات بكل المواقع بضرورة أن يقوم كل المتعاملين مع الهيئة بالتسجيل الضريبى، وهو أمر تصل تكلفته على المواطن الى 1600 جنيه كل عام.
هل تخيل صاحب القرار عاملا زراعيا – من أصحاب المهن المؤقتة – يهوى أيا من الفنون ( تمثيل/ غناء/ فنون شعبية) ويمارسه في قصر الثقافة منذ طفولته، أن يصبح مطالبا بدفع 1600 جنيه كل عام من أجل ممارسة هوايته والتي لا يتقاضى عنها طوال العام سوى أقل من نصف هذا المبلغ مخصوما منه الضرائب والدمغات؟
وأن يسدد عن هذا المبلغ الزهيد ضريبة قيمة مضافة، يكتب بها إقرارا شهريا، إلى جانب أن عليه كتابة إقرارا ضريبيا إلكترونيا كل عام؟!
هل يتخيل مصدر هذا القرار مصير كل فرق الأطفال في جميع ربوع مصر التي تمارس نشاطها من خلال قصور الثقافة، والتي يتقاضى أهليهم ما لا يغطى حتى ثمن المواصلات؟
كيف سيتم التعامل مع أهل هذه الأطفال؟، هل كل أب مطالب أن يسجل ابنه في المنظومة الضريبية ويتحمل مسئولية إدارة أعماله كقاصر؟، أم سيفضل في تلك الحالة أن يبقيه في منزله ويبتعد عن وجع الدماغ، ونترك الأطفال نهبا للتيك توك واليوتيوب وقنوات بير السلم؟
زيادة حصيلة الدولة من الضرائب
إن زيادة حصيلة الدولة من الضرائب أمر لا نعترض عليه، ولكن السؤال: هل تطبيق تلك المنظومة على المبدعين المتعاملين مع الدولة أو مع الهواة في الأقاليم هو ما سيضمن القضاء على الاقتصاد الأسود (الاقتصاد الموازى لاقتصاد الدولة)؟، والذى يقدر حجمه بحوالى 2 تريليون جنيه.
وتقدر الضرائب المستحقة عنه بأكثر من 330 مليار جنيه تضيع بين مصانع بير السلم والأسواق العشوائية والباعة الجائلين والمهربين، وصفحات البيع على وسائل التواصل الاجتماعى؟
وإذا أصرت وزارة المالية على تطبيق هذه القوانين على جهات الإنتاج فعليها أولا أن تجيب على تلك الأسئلة: كم تكلفنا الحرب على الإرهاب حاليا؟، وكم ستبلغ تكلفتها اذا توقف نشاط هيئة قصور الثقافة؟
و كيف نسعى لبناء الإنسان في ظل كل هذه العراقيل؟، وكيف نتحدث عن العدالة الثقافية؟ وعن أي انتماء للأجيال الجديدة نتحدث؟
مما سبق – و من وقائع كثيرة أخرى – يثبت دوما أنه لا يصح أن تسرى القوانين التى تتعامل بها وزارات مثل التموين والصناعة على المسرح وعلى الفن عموما، قلناها من قبل وقالها كثير من المسرحيين،على طول التاريخ المسرحى.
فعلى مدى كل مؤتمرات المسرح التى انعقدت منذ الستينات وحتى الآن طالب المسرحيون بالتحرر من تلك القوانين وأصروا على أن المسرح لن ينصلح حاله إلا بالحرية والتحرر من بيروقراطية سخيفة ولوائح عقيمة.
لكن بدلا من تنفيذ توصيات الفنانين – وهم أدرى بشعاب الفن – تعمل بعض أجهزة الدولة بعكس تلك التوصيات تماما، ونكتشف أنها تزيد المعوقات، وتهدد أمننا القومى بالخطر.