كتب: محمد حبوسة
إذا كان رمضان قد أصبح مع انتشار التليفزيون هو شهر الدراما بامتياز، فإنه أيضا يمكننا القول بأن هذا الشهر على قدر ما يحمله من زخم روحاني أصبح موسما سنويا لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي والفني بشكل واضح، ومثال ذلك المسلسل الخليجي (قلم رصاص).
فقد أثبت مسلسل (قلم رصاص) أنه أصبحت الدراما الاجتماعية من ضرورات الأمن القومي في ظل تناميها، ولكن ذلك مشروط بجودة التوظيف الأمثل من حيث الشكل والمضمون.
وذلك لأن تأثير الدراما بفعل التقنيات الحديثة أصبح كبيرا للغاية في الأجيال الحالية، والذي ينبع من أهميتها كمنتج إعلامي يعنى برصد الأحداث وتطوراتها وانعاكساتها على مجمل الحياة العربية العصرية، الأمر الذي أصبحت معه الدراما كمعادل بصري وثيقة تاريخية ومستندا بصريا للتاريخ بتقلباته.
ومع تجسد الأحداث اليومية في مسلسل (قلم رصاص) أصبحت الدراما تشكل النواة الأساسية للتاريخ الاجتماعي والإنساني الحديث، حتى أصبح السرد التليفزيونى هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث.
ولعل جرأة الطرح في مسلسل (قلم رصاص) تأتي تأكيدا لنبوءة أرسطو في (كتاب الشعر) التي تقول: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع).
ومن هنا فإن دراما (قلم رصاص) تدق ناقوس الخطر لإيقاظ الضمير ومواجهة أشكال الدراما الهابطة المدمرة والاحتفاء بكل أنواع وأشكال الفن الراقى الذى يعلى من شأن القيمة والمعنى، ويخاطب صناع الفن بوجه عام.
ويأتي مسلسل (قلم رصاص) بعد أن عشنا قبل عدة سنوات مضت مواسما درامية في رمضان فوضوية هى الأسوأ من ناحية الموضوعات التي غرقت في براثن العنف والغضب، وسفك الدماء وقتل الآباء وسب الأمهات، وسرقة المليارت.
والذهاب بالخيال التجاري الواهي إلى داخل قصور فخمة، أومقاعد وثيرة ومخادع مخملية لاتدنو من قضايا البسطاء والمعذبين في الأرض إلا على جناح العشوائيات، وأوكار المخدرات في تكرار ممل يخاصم جماليات الفن في جوهره الأصيل.
الدراما تلعب دورا في تحصين المجتمع
يؤكد مسلسل (قلم رصاص) أن الدراما تلعب دورا مهما في تحصين المجتمع، ليصبح بها العمل الناجح (بمعايير تعزيز الهوية) تنقية للفكر العام من شوائب الفساد والإفساد، ومواجهة للأفكار المدمرة والموجهة للدولة بكل مكوناتها، كرصاص مغموس (بالسيانيد) إن لم يقتل بالخرق يقتل بالسم.
وعلى مستوى الصناعة فقد أضحت تفاصيل (قلم رصاص) بما فيها موسيقاه، كلاسيكية وأيقونة للوطنية الخليجية، فكان ولا يزال له تأثيره على المواطن وانتمائه، ثم غاب عن المشهد بصورة كبيرة مثل هذه الأعمال ذات الطابع الوطنى الحديث شديد التأثير منذ حلقاته الأولى والتى يلتف حولها العرب.
لقد شاهدت بعينى ذلك الشغف عربيا بهذا بمسلسل (قبم رصاص)، وليتحقق من خلاله كل ما سبق الحديث عنه من معطيات الأمن الاجتماعي، وكون الدراما أداة لها، لنشاهد حالة لحمة نفسية وفكرية جديدة داخل المجتمع الخليجي.
القضايا التي يناقشها مسلسل (قلم رصاص) أثناء عرضه في موسم رمضان 2024 تكون جدلية، وتتراوح الآراء بين المؤيد لهذه الأفكار والمعارض لها، فهو يتناول قضية خلافات زوجية، حيث تطرح أحد مشاهده طلب زوج من زوجته أن تلبس أجمل ثيابها و(تكشخ)، بسبب قدوم أصدقائه وزوجاتهم.
البعض رآى هكذا نوع من الطلبات خارج قيم مجتمعنا، و تحريرية كثيرا ولا يمثل المجتمع الخليجي، ولا تناسب المشاهد العربي وشاشات التلفزة العربية، أما البعض الآخر يرى أن هذه القصص تحدث ولكن لم يسلط الضوء عليها من قبل، وأن عرضهم لها هو نقد لتلك الأفكار.
تدور أحداث المسلسل المأخوذة عن قصة واقعية، حول إحدى العائلات التي هربت من الكويت في أثناء الغزو العراقي عام 1990، حيث تفقد العائلة ابنتها عن طريق الخطأ، وكما هو متوقع تعثر عليها امرأة، تقرر رعايتها وتربيتها، ولكن بعد سنوات، تلتقي الابنة بعائلتها، ومن هنا يبدأ الصراع المتشعبة.
قدمت الفنانة السعودية الشابة (ميلا الزهراني) دور الفتاة الثلاثينية (العنود) التي لم تلتقط ذاكرتها سوى أنها قضت حياتها داخل المملكة السعودية، لكنها تتفاجأ بعد سن الثلاثين بحقيقة مغايرة لما تعرفه.
(قلم رصاص).. وضمان المنافسة
وقد لجأ صناع عمل (قلم رصاص) لضمان المنافسة داخل السباق الرمضاني إلى قضية جدلية تختلف فيها الآراء كنوع من استفزاز الجمهور لمتابعة العمل، والإدلاء بالرأي، ومن ثم تحقيق نسب مشاهدة عالية.
وهو حق مشروع، فالثقافة والفنون في العصر الحالي أصبحت صناعة في حاجة للترويج؛ ولذلك تشابكت الصراعات وزادت جرعتها، فلم تقتصر على صراع الابنة التي تكتشف أنها ليست فقط من أبوين غير التي نشأت في كنفهما، ولكنها تحمل جنسية بلد آخر منها جذورها.
وتضخم الصراع في (قلم رصاص) بشكل أكبر فاشتمل على الخلافات الزوجية التي تعج بها بعض البيوت العربية حين تكتشف العنود أن زوجها لديه ابنًا من زوجة سابقة، فوضعت البطلة في عدة صراعات بدأت جميعها بالصدمة.
وأستطيع القول أنه تحتاج بعض الأعمال التي تستوعب معالجتها الدرامية أكثر من صراع أن تخدم الصراعات الفرعية الصراع الأكبر، فهناك أعمال تزخر بها المكتبة الدرامية بدأت بالصراع الأكبر وتفرعت منه صراعات صغرى.
وفي (قلم رصاص) كان من المفترض أن يكون الصراع الأكبر صراع الهوية، وهو خيط درامي فارق إذا تم العمل عليه بشكل جيد وبجهد أكبر، إذ نحن أمام شخصية باتت ممزقة أمام هويتين، خاصة أننا كمشاهدين أمام عمل بإنتاج مشترك (سعودي كويتي).
(قلم رصاص) حمل نفس الثيمة
ولكن فقد (قلم رصاص) نقطة جوهرية كانت ستدير بوصلته لزاوية مغايرة حين جعلوا الصراعات الصغرى تلتهم الصراع الأكبر، كصراع العنود وزوجها، وصراع الإخوة حين يكتشفون أن هناك من سيأتي ويقاسمهم الميراث، ولكنه على مستوى الصراعات الصغرى وتطورها جيد، سواء على مستوى الأداء أو الكتابة.
ربما تم الترويج للمسلسل قبل السباق الرمضاني تحت مسمى (قلم رصاص) على اعتبار أن بعض الأخطاء يمكن محوها وربما غفرانها، في مباشرة واضحة، صحيح أن القلم الرصاص يمحو الأخطاء، ولكنه يترك أثرا كتلك الرواسب التي تركت جراء الخلافات الزوجية والأسرية داخل العمل.
اعتدنا في الأعمال الفنية القديمة على الأسلوب الوعظي، كتلك النهايات التي شاهدناها في الأفلام فترة الخمسينيات والستينات وتنتهي بآية قرآنية، أو بالبطل يقدم النصائح للآخرين، وشاهدنا حوارات خطابية ووعظية في السباق الرمضاني هذا العام كما في مسلسل (أعلى نسبة مشاهدة).
حتى مسلسل (قلم رصاص) حمل نفس الثيمة وإن كانت بشكل مضمر من خلال اسم العمل الذي يدعونا إلى الغفران، ومحو زلات الآخرين وكأنها كتبت بقلم رصاص، متناسيين أن حتى القلم الرصاص يترك أثرا.
ميلا الزهراني
برعت الفنانة السعودية الشابة (ميلا الزهراني) في أدائها لشخصية (العنود – حصة) بطرية هادئة لا تحمل انفعالا زائدا عن الحد رغم معانتها وضياعها، بل كانت تحمل عينين معبرتين للغاية، في ذهابها وتجوالها في مشاهد ا(لفلاش باك) بلغة جسد تؤكد موهبة هذا الممثلة الشابة، التي تسير نحو القمة بهدوء.
ولعل براعة الأداء بدت أكثر واضحا في حيرت بين الأم التي ربتها (نور) وأمها التي ولدتها (شيخة)، فقد كانت تعتصر ألما وحزنا على عدم تجاوبها مع أمها (شيخة) (حصة)، فضلا عن شخصيتها المرحة التي كانت تصيف محبة وحنو على الجميع.
إبراهيم الحربي
ولعل أداء الفنان القدير (إبراهيم الحربي) في طريقة احتوائه لابنته الحائرة كانت رائعة في كونه سند العائلة وحاميها من الانهيار، وربما كان هو بمثابة العمود الفقري في المسلسل بأداء هادىء يؤكد الخبرة وبلوغ آفاق جديدة في الأداء الاحترافي.
سناء بكر يوسف
أما الممثلة القديرة (سناء بكر يوسف) فكانت ذات حضور طاغي رغم أنها ضيفة شرف، لكنها كانت تفيض محبة وحنو بالغ على ابنتها من ناحية، وتقديرها لموقف الأم (شيخة) التي كانت تتألم لفقدان ابنتها 33 سنة، لكنها كانت عصية على مشاعر الأمومة تجاهها.
عبير أحمد
ولابد لي من الإشادة بالفنانة المصرية الكويتية (عبير أحمد) التي صالت وجالت في دور الأم (شيخة) لتثبت حسن الأداء بخبرتها المعهودة في الدراما الكويتية، لكنها في (قلم رصاص) أجادت بشكل لافت للنظر من خلال الاحتواء والصبر على المكتوب بحسب الأحداث.
حسين الحداد
كما أجاد (حسين الحداد) في دور (بدر) العصبي المتجرد من المشاعر لوقت طويل حتى لحظة فقدان ابنه، ليتحول بأداء بارع ما بين شخصية القوي صعب الشكيمة إلى متخاذل ضعيف بعد فقدانه أعز ما يملك.
شيلاء سبت
(شيلاء سبت) جسدت شخصية (تحرير) بإبداع فاق الحدود، على جناح البنت البرئية التي تعشق عائلتها، رغم ما توجهه من تعنت أخيها (بدر) بالصراخ والمراقبة المستفزة، لكنها كانت بمثابة طيف هادر بالمحبة والسلام الداخلي.
عبد الله التركماني
(عبد الله التركماني) في دور (رائد) أراه ممثل رائع يجمع ما بين الكوميدية والتراجيديا بلغة جسد معبرة، كما بدا أداءه جذابا في تحولاته في الدور، ما يشير إلى أن هذا ممثل ينبغي أن ننتبه له، فهو كوميديان يحتاج إلى توظيفه بشكل أفضل.
سارة صلاح
(سارة صلاح) ممثلة رقية المشاعر، جسدت دور (مرام) بطريقة بديعة، سواء في انسحاباتها وتراجعاتها أمام زوجها والصبر على تصرفاته الانفعالية، أو في تحولها إلى شخصية قوية استطاعت أن تلجم زوجها وتكسر شكيمته في نهاية المسلسل.
فيصل فريد
نجح (فيصل فريد) في دور (خالد) الذي بدا ضعيف الشخصية أمام زوجته (كادي) وأمام باقي أفراد الأسرة، لكنه يبدو كالمارد في تمرده وارتباطه بـ (فوز) وتحديه الذي جعله ممثلا قويا في كافة تحولاته.
زينب يوسف شعبان
نحن أمام ممثلة واعدة اسمها (زينب يوسف شعبان) التي ربما جسدت شخصية كريهة من وجهة نظر الجميع، لكنها في نهاية الحلقات أكدت قدراتها على الأداء الصعب، الذي يشير إلى أننا أمام نجمة مكتملة الأركان تسيطيع خوض غمار المنافسة في الدراما الكويتية في المستقبل القريب.
زينب كرم
تبقى (زينب كرم) ممثلة تجيد لعب دور الأفعي التي تبث سمومها في شخصية (كادي) المغرورة والمستفزة في تصرفاتها التي تبعث على الكراهية، وهذا يؤكد صدق أدائها وانفعالاته المحسوبة بدقة تؤكد موهبتها.
مريم القلاف
استطاعت مؤلفة المسلسل (مريم القلاف) أن تعيد الأعمال الكويتية إلى الأضواء في موسم دراما رمضان 2024، بمسلسل (قلم رصاص) الذي يحمل في طياته قصة اجتماعية مثيرة.
وعمدت إلى جعل أحداث المسلسل في إطار درامي مشوق، مستلهمة من قصة واقعية حدثت في الكويت قبل ربع قرن، تتناول قصة زوجين يواجهان الصعاب في حياتهما، ولكن يظهر (قلم الرصاص) كعنصر يمنحهما الأمل في تصحيح أخطائهما وتحسين علاقتهما.
وبفضل قصة (قلم رصاص) الجذابة وأداء فريق العمل المميز، حظى مسلسل (قلم رصاص) بإشادة واسعة من قبل المشاهدين، الذين يصفونه بأحد أفضل المسلسلات الكويتية في موسم رمضان، مما يجعله وجهة مثالية لمحبي الدراما الاجتماعية.
وأخيرا، أشيد بقائد العمل المخرج (عبد الله التركماني)، الذي صنع (الحبكة الإخراجية) في (قلم رصاص) بعيدة عن (الأكشن) والغموض، بمعنى أنه حمل المشهد الدرامي فوق طاقته، ولم يعقد الحدث، فالجمهور ذكي ويهوى السهل الممتنع، لذا فإنه في كل حلقة كانت هناك أحداث متتالية، وحكاية إنسانية.