الحلقة الأخيرة: (إنا لله وإنا إليه راجعون)
بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي
نبدأ المقال بتقديم العزاء للفنان والنجم الكبير المحبوب (كريم عبد العزيز) بطل (الحشاشين) لوفاة والدته عليها رحمة الله وغفرانه، ولا شك أن الأم هى صخرة الحياة التي نستند عليها ونستظل بظلها، وبفقدانها يصبح الواحد منا عجوزا ضعيفا قليل الحيلة.
وسبحان الله، تلك الأم التي كانت كبيرة ومريضة وضعيفة، وأنت الفتى القوي الذي تظن أن قوتك من نفسك، فإذا فقدتها تعرف أنها هى التي كانت تعطيك القوة، بقلبها المُحب ووجهها الباسم الضحوك، وبخوفها المستمر عليك، ودعاءها لك الذي يخرج من قلبها قبل أن يصل إلى لسانها.
رحم الله والدة (كريم عبد العزيز)، ورحم أمهاتنا جميعا، وجعلنا من الصابرين الذين يركنون إلى قول الله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون).
نعود إلى مسلسل (الحشاشين) لأقول لكم إنني لا أعرف طبيعة الشركة التي أنتجت مسلسل (الحشاشين)، صدقوني في هذا، ولكن من الواضح لمن بعينيه بصر وبقلبه بصيرة أن أصحابها وطنيون مخلصون.
بدليل أنهم أنتجوا مسلسلات تنتصر للقضايا الوطنية المصرية، وأعتقد أنهم أنتجوا سلسلة (الاختيار) التي قامت فكرتها على موقفين، موقف الذي اختار وطنه، وموقف الذي خان وطنه.
ومع ذلك فقد أصابني الأرق من إدارة إنتاج تلك الشركة العظيمة لأعمالها، أقولُ أصابني الأرق حتى أنني كنت أستدعي من ذاكرتي شطر بيتٍ للمتنبي شاعر العرب الذي قال فيه: (أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ).
لعنة الله على الأرق، فقد دفعني دفعا إلى أن أكتب الشطر الثاني لهذا البيت من عندي، فكتبت: (أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ.. لمَّا تحكم في المسلسلِ أزرقُ)، والأزرق هو الرجل الأرستقراطي الذي ينتمي لطبقة النبلاء، فنقول: (هذا رجل دمه أزرق، أي ينتمي إلى الطبقة العليا في المجتمع).
شركة الإنتاج تنتمي لأصحاب الدم الأزرق
ولذلك لا شك عندي أن شركة الإنتاج تنتمي لأصحاب الدم الأزرق، أكرم بها وأنعم، أما لماذا أصابني الأرق؟!، فهو لأن صاحب الدم الأزرق لا يتابع تفاصيل الإنتاج بنفسه، فهو أرقى وأعلى من ذلك، ومهامه الكثيرة تشغله عن تلك الأمور.
ولذلك يسند أمر المتابعة إلى موظف خبير في الإنتاج، يعلوه رقيبٌ يراقبه لكي يتم ضبط العمل وفقا لرؤية المنتج وأمنياته الوطنية الطيبة، ولكننا نعلم أن صديقنا المتنبي طيب الله ثراه قال: (ما كلُ ما يتمنى المرءُ يدرِكُهُ.. تجري الرياحُ بما لا تشتهي السُفنُ). وطالما أن الرياحَ جنحت بالسفينةِ وصاحب السفينة لا يعلم شيئا عن جنوحها، فهي والحق يقال سفينة ضخمة تم تزيينها وتزويقها على أعلى مستوى، بحيث أصبحت جوهرةً تسرُ الناظرين.
لذلك لابد لكل الناظرين إليها أن يمتدحوا جمالها وألوانها وفخامتها ويبتعدوا عن جنوحها، ولكي يبتهج صاحب السفينة بهذا الجمال يتم التنبيه على الناظرين إليها من ذوي الألسنة والأقلام بأن لا يقولوا أو يكتبوا شيئا عن هذا الجنوح، وحذارِ أن يكتب أحدُهم إن قاع السفينة أصابه العطب أو إنها جنحت، وقتها سيكون قد جاء شيئا نُكْرا.
وقد جاء في (ألف ليلة وليلة) أنه في قديم الزمان، وسابق العصر والأوان، كان الوزيرُ مُرجان، وهو رجلٌ أُلعُبان، يرسل إلى الشعراءِ والقِيان، لكي يمتدحوا سفينة السلطان، وكان يرسل قبطان السفينة، إلى أرجاء المدينة، ومعه مقدم الدرك، يحملان ما لذ وطاب من اللحوم والسمك، ليطعما به كل من له حنك.
ويحملان كُرباجا من السودان، يرهبان به الأغوات والصبيان، وسيفا من سيوف المَلِك، ليُرهبا به من مَلَك، رأيا يزعج السلطان، أو يؤثر على مزاج الكُهَان، ومن وقتها خرج في البلاد، كل الصبيان والأولاد، في زفة مباركة كثيرة الأعداد.
والكل فيها يهتف بالآباء والأجداد، إن السفينة جميلة، ومن سلالة أصيلة، ومن صنعها ووضع فيها الزينة، هو في الأصل إبن لذينا، أما من نقد وأفصح، ونصح وألمح، فسيصبح مثل العجينة).
عفوا، لقد أرسلت الفقرة السابقة على سبيل الخطأ مع المقال إلى موقع (شهريار النجوم)، ولا أدري كيف وضعتها على سبيل الخطأ في هذا المقال، إذ هى خاصة بمقال قادم عن مسلسل (جودر) الخلاَّق، فلا تلتفتوا إليها حتى لا يصيبنا الإملاق، والجُبنُ سيد الأخلاق.
الإشادة والتمجيد بمسلسل (الحشاشين)
نعود إلى مسلسل (الحشاشين) الذي خرجت التعليمات من موظف الإنتاج، والرقيب الذي عليه، بعد أن أفاقا من التغفيلة، وانتبها بعد تعسيلة، كانا يأكلان فيها البليلة، بضرورة الإشادة والتمجيد بمسلسل (الحشاشين).
لذلك خرجت الزفة من السادة النقاد والإعلاميين في البرامج لتجعل من هذا المسلسل هو أجمل وأكمل وأنقى وأتقى، وأعلى مسلسل في تاريخ الدراما المصرية والعربية، والقاعدة الإعلامية الشهيرة تقول: (إمدح واشكر بشكل مستمر، حينئذ سيتحول العمل في العيون إلى جوهرة أصيلة).
ومع ذلك فإنني لا أستطيع أن أظلم موظف الإنتاج ولا الرقيب عليه، فالحق أن مسلسل (الحشاشين) كانت فيه رسائل في منتهى الروعة، وهى رسائل جريئة، وهذا يدل على أن هذا العمل أعطته شركة الإنتاج الحرية الكاملة.
أما تلك الرسائل فقد كتبها المؤلف بعناية، وكان حاذقا فيها، فهو ولا غَرْو أديبا ومفكرا، وليس معنى أنني انتقدت بعض الأشياء في المسلسل أنني لا أضع صديقنا المؤلف في مكانته الصحيحة، فهو عندي من الجيل التالي في الإبداع بعد جيل أسامة أنور عكاشة.
ولا أريد أن أتوقف عند الرسائل العادية المستهدفة من المسلسل، وهى المقاربة بين أول جماعة احترفت الاغتيال، وكيف أنها تسترت وراء الدين، وبين جماعة الإخوان التي فعلت نفس الشيء، وكانت أخبث وأسوء جماعة عبر التاريخ كله.
إذ أنها تمارس الاغتيال وهى تبتسم ابتسامة الطفل الرضيع بعد الرضاعة والبللِ، تلك الجماعتان خرجتا من رحم واحد وإن اختلف زمنهما، هو رحم الشيطان الرجيم والعياذ بالله منه، ولكنني أقصد رسائل أخرى يطيب لي الآن أن أكلمكم عنها.
خذ عندك يا سيدي: حينما تحدث عمر الخيام مع (بركياروق) السطان السلجوقي وهو رجل عسكري عنيف، لا قيمة للعدل عنده ولا الحريات، كان الخيَّام يشرح لبركياروق كيف يقاوم بركياروق جماعة الحشاشين.
فقال: (إن حسن الصباح فكرة، والفكرة نقاومها بالدولة، الدولة العادلة القوية، وبالعلم والمعرفة والعدل والحرية، وعلوم الأرض والسماء تقدر تهزم فكرة، لأن فكرته بيعززها فساد الدول الكبيرة وقلة العدل فيها).
الله عليك أيها المؤلف الجميل، فعلا لكي يهزم (بركياروق.. بركياروق.. بركياروق) أيها الناس، السيد/ حسن صاحب الجماعة، يجب أن تكون المقاومة من الدولة، لا من مجرد أفراد يكتبون هنا أو هناك، ويتكلمون هنا أو هناك، مثل عمر الخيام.
ولكن الدولة هى التي تستطيع، ولكنها ليست أي دولة، نتفق معك يا مؤلفنا الكبير، لأن تلك الدولة يجب أن تكون عادلة، وقوية، ومعنى أنها قوية أي أنها ليست ضعيفة وفقيرة وعالة على دول العالم، إنها القوة يا سادة، ليس هذا كافيا في فكر المؤلف، بل يجب أن ترفع تلك الدولة قيمة العلم والمعرفة، والحرية.
الحرية تقاوم الانحراف الفكري
الحرية أيها الناس هى التي تقاوم الانحراف الفكري حسبما يرى المؤلف، والعهدة عليه، ولكن أيضا يجب أن تقاوم هذه الدولة الفساد، فلا تضع فاسدا مثلا على رأس عمل هام أو مؤسسة هامة، أو تترك الفاسدين يمرحون فيها لأنهم سيحققون لها فائدة ما.
يا سلام عليك يا عزيزي المؤلف بارك الله فيك وأنت تقول على لسان (عمر الخيام) عبارة من وحي التاريخ هى : (لأن فكرته ـ أي فكرة الأخ حسن ـ بيعززها فساد الدول الكبيرة وقلة العدل فيها (كلام جميل وكلام معقول).
ودعك من عبارة (الدول الكبيرة) لأن مقدمات كلام (عمر الخيام) كانت تدل على أنه يتكلم عن دول فقيرة، ويبدو أن (الخيام) خاف من (بركياروق) فأضاف الكبيرة ليظن (بركياروق) أن (الخيام) يحدثه عن دول أخرى غاب عنها العدل والحرية والعلم، مع إنه موجود عنده جُوَّه !!
ولك أن تشاهد الممثل الماهر (أحمد عبد الله محمود) الذي قام بدور (يوسف الخوارزمي) قاتل (ألب أرسلان)، فقبل المبارزة، قال (الخوارزمي) لألب أرسلان: (إنت بفتوحاتك العظيمة ذليت أهلنا وناسنا).
فرد عليه ألب أرسلان: (اللي أطاع وخضع نال مننا العدل).
فألقى (الخوارزمي) كلماته التي خلَّدها وحي التاريخ: (مفيش عدل مع الذل)!
الله عليك أيها المؤلف، إنك تضع الكلمات المناسبة في الوقت المناسب وعلى فم ممثل مناسب، وفي الحلقة الثانية المناسبة، لا يوجد عدل مع الذل، ولا تشفع لك أي فتوحات، ولا إنجازات طالما أنك لم تقم العدل.
والقضاء هو ميزان العدل، ومن المؤكد هنا أن مفهوم القضاء جاء ضمنيا، لأن (الخوارزمي) حَكم عليه السلطان بالقتل صلبا دون محاكمة.
فعلا يجب أن يكون هناك عدل، وأظن أن غياب العدل في دولة السلاجقة جعلت المؤلف يكتب هذه الكلمات الرائعة، بارك الله فيه.
الجمالي أنقذ مصر من المجاعة
ليس العدل أو الحرية وحدهما، بل الاقتصاد والأولويات أيضا، فقد شاهدنا الوزير (بدر الجمالي) وهو ينقذ المصريين من المجاعة، تلك المجاعة التي أطلقوا عليها الشدة المستنصرية، وفي التاريخ نجد أن الجمالي أنقذ مصر من المجاعة.
ومن وحي التاريخ كتب المؤلف في الحلقة الثانية هذا الحوار: (الوزير لتابعه الأمين: الخليفة لن يستطيع النوم والشعب يصرخ من الجوع، قوموا ببيع باب القصر المجلد بالذهب، سيحوا الذهب واشتروا بثمنه غلال للشعب).
إنزعج التابع الأمين وقال متعجبا وقد فغر فاه: (مولاي إن باب القصر من هيبة القصر).
ويا سلام عليك أيها المؤلف الجميل، فقد أنطقت (بدر الجمالي) كلمات من وحي التاريخ، إذ قال للتابع: (لا قيمة للقصر والشعب جائع)، فعلا هذه أولويات يا أستاذ عبد الرحيم كان يجب على المستنصر أن ينتبه لها، باب قصر من الذهب في العاصمة والشعب جائع؟!، هذا خلل في أولويات المستنصر، لله درك يا مؤلف وأنت تحاكم الدولة الفاطمية.
أما زيارة (الخيَّام) للقاضي (أبو طاهر) في سمرقند، فقد كانت تمثل قمة الحكمة التي جرت على لسان (الخيَّام)، وهى حكمة من وحي التاريخ أيضا.
فقد طلب (الخيَّام) من القاضي (أبو طاهر) حاكم سمرقند أن يهتم بالتعليم، لأنه لاحظ أن الجهل تفشى وانتشر، فقال له الحاكم: (أنا حريص على العدل والأمن) فيندهش الخيام ويقول له ولكن هؤلاء الناس في رقبة الحاكم، ولا عدل إلا مع العلم.
فيرد عليه الحاكم قائلا: (العلم يعني أسئلة، وأسئلة يعني فتنة، وفتنة يعني تهديد لكرسي الحكم)، يا سلاااام هذه هى الإجابة التي حيَّرت الناس، لماذا لا يهتم حكام الدول الفاطمية والسمرقندية والسلجوقية بالعلوم؟!
لأن المحصلة النهائية للعلوم هى تهديد كرسي الحكم الذي عليه يتقاتلون، لقد عرفتَ موضع الداء أيها المؤلف الصوفي الأديب، ولكنه يكلفنا الكثير، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
ولكنك للأسف إذا ناديت وحي التاريخ لكي يُلهمك بحلٍ سحري لهذه المعضلة سيرد عليك الوحي بأغنية الفنانة الدكتورة (ليلى نظمي) قائلا: (عُلوم كتير لمين يا عم، يا عم روَّح كده واتلم).