كتب: محمد حبوشة
دهشة بصرية سمعية فائقة الجودة على مستوى الاستعراض والغناء الأوبرالي، فقد مضت السعودية بعيدا من خلال أوبرا (زرقاء اليمامة)، في تأكيد تحولاتها وتنويع قوتها الناعمة، ولعلها المرة الأولى تغنى أوبرا عالمية باللغة العربية.
كانت كشفت هيئة المسرح والفنون الأدائية عن إنتاج عرض أوبرا (زرقاء اليمامة) برعاية الأمير (بدر بن عبدالله بن فرحان) وزير الثقافة، رئيس مجلس إدارة هيئة المسرح والفنون الأدائية، التي تعد أول أوبرا سعودية. وأكبر أوبرا عربية على مستوى العالم.
وتمثل عرضا ضخما يجمع بين المواهب المحلية والعالمية المتمرسة والمتميزة بأداء النصوص الأوبرالية المكتوبة باللغة العربية، بدأت عروضها في العاصمة الرياض في منتصف أبريل الماضي، متضمنة سلسلة من عروض فنية متنوعة تمتد حتى بداية مايو الحالي.
لحظة بدت شديدة الطموح إلى مخاطبة العالم عبر أول أوبرا سعودية، تأخذ بأهم ما في الأوبرا العالمية من سمات جمالية ومواصفات فنية، تلك اللحظة التي انطلقت فيها أوبرا (زرقاء اليمامة) في عروضها داخل مدينة الرياض، قبل أن تنتقل إلى عواصم أوربية.
(أوبرا زرقاء) اليمامة تستمد قصتها وروحها ولغتها من تاريخ الجزيرة العربية، الذي تمثل المملكة اليوم جل أرضه وحضاراته، بوصفها فارقا فنيا وجماليا في المملكة، وعموم الوطن العربي الكبير بحسب مؤلفهالشاعر والكاتب السعودي (صالح زمانان).
هذه الأوبرا تجسد بشكل ما مأساة دامية ودامعة، تصور التاريخ القديم وترمز في الوقت نفسه لأحزان الإنسان المعاصر في العالم العربي، لكنها لن تخلو من طيوف الأمل، وإشراقات التباشير بغد مشرق وسعيد.
حكاية (زرقاء اليمامة)
وتناول هذا العمل الفني الفريد من نوعه حكاية (زرقاء اليمامة)، حيث تقدم سردا لقصة امرأة من قبيلة (جديس) ذات عينين زرقاوين، وقدرة فريدة تمكنها من الرؤية من مسافات بعيدة، وتقوم (زرقاء اليمامة) في الرواية المعروفة بتحذير قبيلتها من قدوم جيش ضخم يزحف نحوهم.
تولى (لي برادشو) الموسيقي الأوبرالي العالمي، تأليف ألحان هذه القصة الملحمية، مستلهما بعض العناصر التراثية لصناعة عمل معاصر يجمع بين عناصر الأوركسترا والكورال جنبا إلى جنب مع العروض الصوتية المذهلة برفقة مغنين موهوبين، تتقدمهم مغنية الميزو سوبرانو الشهيرة (سارة كونولي).
تلك المغنية العالمية التي تقود فريق المغنين في دور (زرقاء اليمامة)، الذي يضم تسع مواهب من الأسماء البارزة في المشهد الموسيقي السعودي، وأبرزهم خيران الزهراني، سوسن البهيتي، وريماز العقبي.
وهؤلاء شاركوا خشبة المسرح مع مجموعة من الأسماء العالمية المرموقة، مثل (كليف بايلي، أميليا وورزون، سيرينا فارنوكيا، باريد كاتالدو، وجورج فون بيرجن)، وتشارك في هذا العمل المسرحي المميز أوركسترا (دريسدنر سينفونيكر) عبر أداء المقطوعات الموسيقية.
وترافق الجوقة (الفلهارمونية التشيكية) أحداث القصة الشيقة بأصواتها الساحرة، في الوقت الذي يضطلع المخرج السويسري (دانييل فينزي باسكا) بمهمة تنظيم العرض إلى جانب المؤثرات المسرحية الخاصة.
وتهدف هيئة المسرح والفنون الأدائية من خلال إنتاج هذا العمل المسرحي الإبداعي إلى تعزيز الحراك المسرحي السعودي، وإحياء وإعادة إنتاج أعمال وقصص شهيرة من تاريخ الجزيرة العربية بشكل معاصر، وقالب إبداعي لتعزيز التبادل الثقافي الدولي بوصفه أحد أهداف استراتيجية الثقافة الوطنية في المملكة.
ولئن نجحت أوبرا (زرقاء اليمامة)، التي قدمتها هيئة المسرح والفنون الأدائية في مركز الملك فهد الثقافي، الذي أضاء مبناه الخارجي باللون الأزرق، وكان قد جدد هذا المسرح ليلائم العرض العالمي، في تكييف اللغة العربية أو التكيف معها .
فإن ذلك يعود، في أحد وجوهه، إلى النص، الذي بدا واضحا أنه أخضع إلى اشتغال طويل ودؤوب ليلائم روح الأوبرا ويمنحها المساحة اللازمة للغناء، من دون التضحية بضرورة النص وأهميته.
إمرأ ذات بصيرة عميقة
وعلى الرغم من ذلك، فإن النص بدا ذريعة للغناء، وحافزا لحركة المجاميع ولطغيان موسيقا ميلودرامية؛ للتعبير عن الجو التراجيدي وتعميق هيمنته، بجمله التي راوحت بين القصيرة والقصيرة جدا.
أحيانا كانت تتكون من كلمة أو اثنتين، إلى جمل سردية مشدودة وكثيفة التعبير، نجح النص في اقتناص بؤر توتر عدة، من السرديات المتنوعة التي قاربت قصة (زرقاء اليمامة)، تلك الرائية الأسطورية التي لم يلتفت أحد إلى تحذيراتها.
بل عوقبت بفقء عينيها على يد قائد الجيش الغازي، بعد أن نشبت الحرب وسالت الدماء وحل الدمار، وامتلأ الفضاء بالجثث، ومن ناحية أخرى، استطاع النص أن يصنع الفارق، على مستويات فنية وجمالية، وأن ينجح في أن يكون نصًّا متقدمًا ورائدًا في مجاله.
في هذه الأوبرا، لم تكن (زرقاء اليمامة) مجرد امرأة حادة البصر، إنما كانت أيضا ذات بصيرة عميقة، لا تخطئها النبوءة، كانت رائية كبيرة في معنى أدق، ولقد تألقت المغنية الأوبرالية (سارة كونولي)، وهى تتوشح بالأزرق، في استكناه أعماق هذه الشخصية، مستلهمة حكمتها ووقارها، بذلك الأداء المهيب والفاتن.
جاءت أوبرا (زرقاء اليمامة)، في عدد من اللوحات أو المشاهد، ذرى درامية ومواقف متأزمة مليئة بالانفعالات العنيفة، شدت أواصر العمل، ومنحت الحكاية التماسك الذي أبقى المتفرج مشدودا حتى آخر لحظة، بفضل تصعيد درامي يتجدد.
المرة تلو الأخرى، عند كل منعطف في القصة الدامية، التي شهدت أحداثها الجزيرة العربية في طور من أطوارها التاريخية البعيدة.
من قصة التحكيم الشهيرة عند الملك (عمليق)، بين امرأتين تدعي كل منهما أن الطفل نفسه لها، إلى قرار الملك، عمليق نفسه، بالنوم مع النساء المقبلات على الزواج من قبيلة جديس.
وكانت (عفراء بنت عفار) الضحية الأولى، التي لم تسكت فنددت بهذا الفعل الشائن، محرضة القبيلة على قتل الطاغية، وذلك ما سيحدث بعد استدراجه بالشراب والنساء، وانتهاء بالحرب الطاحنة، التي حذرت منها (زرقاء اليمامة) وذهبت تحذيراتها أدراج الرياح، وخلفت حسرة وندمًا كبيرين.
الأداء الخلاب والغناء الشجي
وعلى الرغم من الجو الميلودرامي الذي طغى وعبرت عنه لوحات العمل، التي تلونت كثيرا بالأحمر، لون الدم، فإن الأوبرا ستنتهي نهاية متفائلة، فجاءت اللوحة الأخيرة آسرة، عبر ذلك الأداء الخلاب والغناء الشجي، الذي تولت تعميقه لوحات ومؤثرات بصرية.
في (زرقاء اليمامة)، أبصر المتفرج حركة المجاميع، مرة تحضر في أعداد كبيرة، وتارة في مجموعات صغيرة، تبعا للضرورة الفنية، تترنح وتلهو وتصخب، بأقنعة على وجوهها حينًا، ومن دونها أحيانًا.
وشاهد الجمهور أيضا في (زرقاء اليمامة) أيضا الملك (عمليق)، ملك طسم، في حلة من الغطرسة، مصحوبا بأكثر صور العنجهية، يميزه صوت قوي ملؤه الصلف والغرور، فبدا لوهلة من المستحيل التخلص منه، ومما يكيده لنساء القبيلة.
وشاهد العروس (عفيرة بنت عفار)، برعت في أداء دورها (أميليا وورزون)، التي اختارها الملك ليدشن بها تقليد العار، وأنصت لصوتها حزينا فجائعيا، متسائلة: لماذا أنا؟ وكان ورد أحمر يشبه الدم ينهال عليها.
فيما يتردد الغناء، منذرا: عار جديس، الخجل للأبد، وتعلو رايات الذل والعار، وسمعت طبول الحرب (ليس صوت العشق أو الرجاء، ليس صوت الحلم أو صوت الغناء. صوت طام غاشم. صوت بلاء. وغدًا لا جديس تبقى أو طسم، فكلا الحيين صاروا للفناء).
بدت أوبرا (زرقاء اليمامة) كما لحظ بعض النقاد، وفية لتقاليد الأوبرا التقليدية، ومنها التعليق على الأحداث أو التنبؤ بما سيحدث، من دون تدخل في تغيير مجريات الحالة، واستعمال الأقنعة، وأيضًا الغناء المنفرد بين لحظة وأخرى، عند نهايات اللوحات.
ربما بقصد الزج بالمتفرج في مزاج مختلف، بعيدا من الجو المأساوي، إضافة إلى الإفادة من خيال الظل.
وفي الوقت الذي تبدى العمل محكوما بتناغم يشد مختلف لوحاته، ذهابا في تحقيق التوازن بين الموسيقا والنص، فإن مسحة بوليفونية أخذت تطغى بين حين وآخر، معبرة عن تعدد واختلاف في النبرات، تعكسها لوحات مختلفة تأتي بدورها مشحونة بتعبيرات متمايزة.
دهشة بصرية لكل حضور العرض
في عرض (زرقاء اليمامة) الذي يمثل دهشة بصرية لكل حضوره، أشاد حضور أوبرا (زرقاء اليمامة) باللوحة الفنية، التي قدمها العمل في مركز الملك فهد الثقافي بمدينة الرياض، مقدماً عرضا أوبراليا ملهما وفق أرقى المعايير العالمية.
ففي العمل الأوبرالي، تكامل أداء الممثلين السعوديين والعالميين، تساندهم تفاصيل فنية في الإخراج والأزياء والإضاءة والموسيقى، إذ تعكس تصاميم الأزياء التراثية روح الأوبرا والجماليات البصرية لعصر ما قبل الإسلام.
وتمزج الموسيقى عناصر من الموسيقى العربية والتراث السعودي والأساليب الموجودة في المقطوعات الموسيقية الأوبرالية العالمية؛ مثل (موزارت، وفيردي، وبوتشيني)، لتتوج الإضاءة بدورها هذا العمل، وتجذب عين المشاهد إلى موقع الحدث، والحبكة التي تقودها سيدة حكيمة حادة البصر تتحدر من قبيلة (جديس).
وتتداخل في شخصية زرقاء اليمامة أبعاد فنية موسيقية، لتنسج لوحة معبرة تلامس حواس المشاهدين، على إيقاع حكاية درامية مليئة بالصراعات، تتخذ من هذه القصة جسراً تعبر عليه إلى عالم الفن والموسيقى، وفيها يسهم كل عنصر في هذا العرض الأوبرالي في إثراء التجربة الفنية وإيصال رسالة الحكاية بأسلوب مبدع ومؤثر.
شكرا لكل من قام على صناعة أوبرا (زرقاء اليمامة)، أول أوبرا سعودية، معالجة بصرية وسمعية للقصة الأسطورية؛ التي تضبط إيقاعها شخصية تاريخية من أرض شبه الجزيرة العربية.
وتروي فصول الصراع الإنساني في كثير من منحنيات القصة، ودراما يقدمها نجوم عالميون ومواهب سعودية صاعدة، تجسد قدرة الفن على تجاوز الحدود والارتقاء بالروح الإنسانية.