نكشف عن الأغنية التى كتبها (العقاد) في (مديحة يسري)
كتب : أحمد السماحي
في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، كان أديبنا وشاعرنا الكبير (عباس محمود العقاد) يطالع كعادته يومياً صحيفة (الأهرام)، وكان ذهنه مشغولا بأفكار تطارد خاطره، وظن أن مطالعة الصحيفة سوف تنتشله من انشغالاته الكثيرة، لكنه ظل شارداً إلى أن وقعت عيناه على صورة فتاة سمراء صغيرة السن لايميزها غيرعينيها الواسعتين، توقف لحظة لكنه وجد نفسه مضطراً للنظرإلى صاحبة الصورة مرات ومرات.
شيىء ما في عينيها شغله عن أفكاره، دق قلبه بعنف، ظنها لحظة عابرة، لكنه سرعان ما تأكد أنها لحظة عمر، أمسك الكاتب الكبير بالجريدة وقرأ الكلمات المكتوبة تحت الصورة، فعرف (العقاد) أن اسم صاحبة الصورة (هنومة خليل)، تلميذة في مدرسة التطريز بشبرا، مؤهلها الابتدائية، وتهوى التمثيل، كلمات بسيطة وعابرة لكنها خطفت قلب الأديب الكبير.
ترك (العقاد) الجريدة وانصرف إلى عمله الأدبي، لكن صورة الفتاة ظلت تطارده، نهض وارتدى ملابسه وخرج من دون هدف ليصفو ذهنه، وهى عادة كان يلجأ إليها عندما يكون ذهنه مشغولا بالأفكار، وفجأة قفزت صورة الفتاة التى رأى صورتها اليوم فى الجريدة بخياله، فطاف بشوارع شبرا ربما رآها.
وفي المساء حكى(العقاد) قصته مع الفتاة الصغيرة لتلاميذه، هبوا جميعاً يبحثون عن الجريدة التي نشرت الصورة، وفجأة صاح أحد التلاميذ قائلا: (أنا أعرف هذه الفتاة يا أستاذ إنها جارتنا)، صمت الجميع، واتسعت عينا العقاد!
وأكمل التلميذ أنه سوف يخبرها بإعجاب المفكر الكبير بعينيها الواسعتين، لكن (العقاد) قاطعه باللهفة الطفولية نفسها، طالبا أن يراها، وجاءت (هنومة) إلى مجلس (العقاد)، ووجدها جميلة سألها عمن تقرأ لهم فارتبكت ولم تنطق!. سألهاعن (طه حسين)؟!، فأطرقت إلى الأرض صامتة، حدثها عن (شكسبير) فتثاءبت، سألها إن كانت تعرف (العقاد) فابتسمت وقالت له بصراحة لم أسمع باسمك إلاوأنا في الطريق إليك، من جارنا الأستاذ محسن.
بيجماليون مصر
وعلى الفور تذكر (العقاد) بطلة مسرحية (بيجماليون) لـ (برناردشو)، لقد استطاع حبيبها المثقف أن يحولها من امرأة جاهلة ومغمورة إلى نجمة تجيد الثقافة تماما كما تجيد الأنوثة، وقررالمفكر الكبير أن يجعل من فتاته (بيجماليون مصر)، وبالفعل بدأ معها من الصفر، علمها ألف باء الثقافة والحياة، ووقع الأستاذ في حب التلميذة، وقفزت الفتاة السمراء لتحتل في قلب العقاد مكان (مي زيادة)، و(سارة).
وارتبطت (هنومة) بالعملاق، وبدأت تنتظر مواعيده، لكن حبها للسينما وللشهرة والأضواء كان أقوى من أي حب، ولأن لكل حب فاتورة، بدأت (سمراء شبرا) تدفع فاتورة حبها للعقاد من أعصابها، بعد أن بدأ يضيق عليها الخناق ويحاصرها، ويراقب حركاتها، ويتتبع خطواتها، كانت تعلم إنه كان يعرف كل شيء عنها، بدأت تشعر أن كل خطواتها محسوبة وكل كلماتها مراقبة، وكل حركاتها موضع سؤال وبمثابة تحقيق، كان يريد منها أن تلزم بيتها ولا تخرج منه إلا لتذهب إليه.
(مديحة يسري)، كانت هى بدورها تعشق الخروج والانطلاق مع زميلاتها الطامحات إلى الفن، كان يطلب منها أن تقرأ دواوين (الجاحظ، والبحتري، وحافظ إبراهيم، أحمد شوقي)، وكانت تطلب منه أن يسمع (أم كلثوم، وعبدالوهاب، وفتحية أحمد، وعبداللطيف البنا) وغيرهم.
حلم السينما
في أحد الأيام قرأت (هنومة خليل)، أن أفلام الموسيقار (محمد عبدالوهاب) تبحث عن وجوه جديدة، وأفهمت (العقاد) أنها ذاهبة لتزور خالتها، بينما ذهبت إلى مكتب (عبدالوهاب)، وتم قبولها في الفيلم الجديد، واتصلت بالعقاد تليفونياً، وقالت له سوف أشتغل بالسينما، أخيراً حلمي سيتحقق، قال لها: أنت مجنونة كيف تعملين بالسينما؟! تعالي عندي! فقالت له: لا لن أعود إليك!
يا بدر عطفك على العشاق
وانفجر(العقاد) فيها لكنها أغلقت الهاتف!، وذهبت إلى الدنيا الجديدة، ومثلت أمام الموسيقار (محمد عبدالوهاب) الذي غنى لها (بلاش تبوسني في عينيه)، وغيرت اسمها إلى (مديحة يسري)، وحاول (العقاد) يستعيدها، لكن كانت الشهرة أقوى وأحب إليها من جلسات (الأستاذ).
وحاول العاشق المتيم أن ينساها فطلب من صديقه الرسام (صلاح طاهر) أن يرسم لوحة فنية لفتاة جميلة وعلى وجهها عشرات من الذباب، وقام بوضعها في صالون منزله، وليس هذا فقط فقد كتب أغنية باللهجة العامية لأول مرة، رغم أنه لم يكتب بها أي أغنيات من قبل، وكانت بعض قصائده التى تغنى بها المطربين كلها باللغة العربية الفصحي.
لكن كان الغرض من ذلك وقام بغناء الأغنية التى حملت اسم (يا بدر عطفك على العشاق) لفت نظر فتاته التى يهواها حتى تفهم كلماتها، وقام المطرب (أحمد عبدالقادر) بغنائها، وتولى تلحينها الموسيقار (فريد غصن) وإذيعت أول مرة يوم الأحد 28 رمضان 1357 هجرية الموافق 30 نوفمبر 1938.
وكانت الإذاعة المصرية تذيعها بصفة منتظة، دون أن تدري أن هذه الأغنية رسالة عتاب من (العقاد) إلى النجمة الجديدة (مديحة يسري) التى بدأت تشق طريقها إلى النجومية بسرعة الصاروخ، وتقول كلمات الأغنية التى تنشر لأول مرة على الإنترنت:
يا بدر عطفك على العشاق، يخلي جرح القلب يطيب.
تطفي لهيب مغرم مشتاق، نورك يواسي كل حبيب.
يشكي إليك بدموع عنيه ناره هواه.
يصعب عليك تعطف عليه ترحم أساه.
ما أحلى ضياك على الميه والفلك فارد قلوعه.
والطير يغني بحنيه متهني جفت دموعه.
واهيم وأنادي فى كل وادي على مناي حبيب فؤادي.
حفظت عهده وخان ودادي .
اشرح له حالي يا طير يا شادي.
يمكن يوافي بعد التجافي ويعود صفاه.
واهني قلبي بوصل حبي وانول رضاه.
ياما شكيت لك يا حبيبي هجرك وبعدك عن عيني.
يا بدر ليه صده نصيبي ياريت يعود ويهنيني
أنت اللي شايف تعذيبي وأنت دايما تواسيني
وعن (العقاد) قالت لي مديحة يسري فى حوار صحفي نشر فى مجلة (الأهرام العربي) عام 2002: إنني تعرفت على عملاق الفكر والأدب (عباس محمود العقاد) وأنا صغيرة، وتأثرت به، وكل ما أستطيع قوله أني أخذت عنه صفتين: أولهما أنه علمني القراءة وحب الكتاب، والثانية الإعتزاز بالكرامة، كان يعطيني الكتاب ويطلب مني وضع “شرطة” تحت الكلمات والمعاني الصعبة التى لا أفهمها.
وفى أول لقاء بيننا كان يشرح لي كل الكلمات التى لم أفهمها لصعوبتها لغويا، لكني لم أحبه، رغم أنه كتب في أغنية يهاجمني فيها، وجعل (صلاح طاهر) يرسم (تابلوه) يسخر فيه من الوسط الفني ويشبه بالذباب الذي يلتف حول أي فتاة جميلة.