بقلم الدكتور: كمال زغلول
كان لفن التمثيل دور كبير في الحضارة المصرية القديمة، وقد تم استخدام (الإيماءة) في هذا الفن على نطاق واسع داخل تلك الحضارة، وهذا يعود إلى قوة هذا الفن التأثيرية الجمالية في النفس البشرية.
وقد عرف المصري القديم القيمة التأثيرية لهذا الفن، وقدم حضارته المصرية القديمة في صور تمثيلية عديدة عبر (الإيماءة)، من لوحات جدارية، وتماثيل، ونصوص مسرحية، وعروض تمثيلية .. إلخ.
وأصبح هذا الفن من سمات الحضارة المصرية القديمة، فقد صور المصري القديم ، جميع حضارته وفلسفته عبر (الإيماءة) في لوحات جدارية، في صورة تمثيلية توضح وتشرح حياته الحضارية.
ونجد ذلك فيما تركه من آثار جدارية تصور فنون الطب، والزراعة، والحروب، والصناعات الغذائية.. إلخ، وهذه الجداريات كانت منحوتة بدقة غريبة، وأهم ما يميزها، الحركة الجسدية ، التي تشتمل على (الإيماءة) والإشارة.
فقد صور الحركات الخاصة بالزراعة، مشتملة على كيفية الحركة الجسدية لهذه الحرفة، وشكل الجسد، وما يصدر منه من (الإيماءة) الإشارية خاصة بتلك المهنة، وكذلك في جداريات الحروب التي توضح أكثر الحركات و(الإيماءة) والإشارات الانفعالية التي تظهر على أسرى الحروب من خوف ورعب.
صورها المصري القديم ببراعة وحرفية تدل على معرفته بالحركات والإيماءات والإشارات الجسدية، واستخدمها في فنه التمثيلي كلغة جسدية مفهومة ومعبره عن الموضوع المراد تصويره.
ولم تكن اللغة الجسدية قاصرة على الجداريات فقط، بل امتدت إلى التعبير الجسدي الحي، وكان للجسد الحي لغة جسدية (إيماءات وإشارات وحركات) يستخدمها في حياته.
وقد استخدم هذه (الإيماءة) عبر اللغة الجسدية في عروضه المسرحية، ولكن كان للجسد نظام حركي إيمائي إشاري، وضعه المصري القديم خاص بالشكل الظاهري للجسد.
الحركات و(الإيماءة) من خلال النقوش
ولهذا فكل ما تبينه الحركات و(الإيماءة) من خلال النقوش والرموز والرسوم، تستوجب قراءته كعلامات قائمة بذاتها، فمثلا ما يتعلق بحركة الأيدي اليسرى أو اليمنى، فكل حركة من حركات كل يد له علامة.
بل أيضا اتجاه الحركة يمثل علامة، فالذراع المرفوع عاليا يختلف في علامته، عن الذراع الممتد إلى الأمام، وكذلك بالنسبة للركبة، لها أوضاع، فالركبة المثنية تمثل علامة، والركبة الراكعة تمثل علامة، فكل جزء في الجسد له علامة حركية إشارية.
وجميع تلك الحركات والإشارات أساليب مختلفة للتعبير عن الورع الديني أو المعرفة المكتسبة، أو الابتهال والتضرع، وسوف نتساءل عن الكيفية التي كون بها المصري القديم العلامات الجسدية؟
والإجابة هى عندما أضاف المصري القديم آلهة مزعومة، أضيفت إلي عقيدة التوحيد، اعتقد أن كل جزء من أجزاء الجسد يخضع لهيمنة إلاهية من الآلهة المزعومة.
وكل حركة من الحركات الجسدية في صورة (الإيماءة) أو إشارة تكون بمثابة مناشدة لإله ما، وقد شرح الكاهن (آني ) في كتابه الخروج في ضوء النهار مختلف عناصر الجسد التي يحظى كلا منها بإله خاص بكل جزء من أجزاء الجسد الظاهري مثل اليد أو القدم .. إلخ.
ونوضحها في الآتي: إن الوجه هو وجه (رع)، والشعر يماثل شعر (نون)، والعينان هما عينا (حتحور)، والأذنان يتطابقان بأذني (أوبواووت)، والأنف (خنت خاس).
وعن الفم فالشفاه خاصة (بأنوبيس )، والأسنان (سمخت)، والضروس (إيزيس)، والذراعان (بانت جد)، والعنق (نيت)، والظهر (ست)، واللحم (عاشف إيت) والبطن (سخمت)، والأرداف (حورس) والفخذ والقدم (نوت)، والساق (بتاح).
وتوجد نصوص غيرت وأبدلت آلهة أخرى، وجعلت الذراع (أوزيريس).. إلخ، ولكن لماذا شبه المصري القديم أعضاء الجسد الظاهرة بالآلهة؟، هذا يعود إلى أن كل إله مزعوم يمد العنصر الظاهر في جسم الإنسان بالطاقة.
وهكذا نلاحظ أن هذه العلامات مصممة، وورائها اعتقاد، خاصة في الجداريات الدينية، أم الجداريات المهنية، كالطب والزراعة والحروب، فهي تختلف بل تعبر عن علامات المهنة.
الممثل يعبر عن الحركة و(الإيماءة)
وكما استخدم المصري القديم تلك العلامات في الجداريات، استخدمها في العروض المسرحية الخاصة بالمسرح المصري القديم، فالممثل يعبر بجسده عن الحركة و(الإيماءة) الإشارية.
ومن خلال العلامات الخاصة بالجسد البشري، فمثلا إذا حرك يداه فالحركة واتجاهها لها مدلول عند المشاهد، وكذلك شكل شعر الرأس، وحركة الأقدام، وحركة الركبة في أوضاع الثني، والركوع.
فكل حركة جسدية لها مدلول عند المشاهد، ويفهم من هذه الحركات و(الإيماءة) والإشارات المقصود منها، ونتذكر أن المسرح المصري اعتمد على التمثيل الصامت في بعض الشخصيات مثل شخصية (ست).
وبهذا يكون المسرح المصري القديم، من أول المسارح في العالم، وضع علامات حركية (الإيماءة) إشارية خاصة بالتعبير الجسدي، وكون لغة جسدية مفهومة من قبل الجمهور المصري القديم.
وأصبح البعد المادي للشخصية التي سوف يمثلها الممثل يعتمد على هذه العلامات (الإيماءة) عند دراسته للشخصية التي سوف يمثلها، وبهذا كون المصري القديم علامات الحركة الجسدية وفق اعتقاده في دلالات مفهومة من قبل المشاهدين.
وفي عصرنا الحديث ظهرت أنواع من المسارح خاصة بلغة الجسد بدايتها أوروبا في محاولة للتجديد في لغة العرض المسرحي، على سبيل المثال عروض (جروتفسكى)، والتي سميت بالمسرح الفقير.
والذي تأثر بالطقوس الدينية الشرقية، وإمكانات التعبير الجسدي في هذه الطقوس، فكون مسرح خاص بلغة الجسد، ولكنه غاب عنه، تفسير هذه الحركات الجسدية وفق المعتقد الخاص بها ودلالاتها ورمزيتها.
وأصبح مسرحه يعتمد على تفسير المشاهد للغة الحركية التي يصممها لجسد الممثل في التعبير عن العرض، ولكن هذا النوع من العروض لابد له أن يستخدم الإشارة والحركة و(الإيماءة) الخاصة بكل ثقافة إنسانية.
حتى يستطيع المشاهد أن يفسرها ويستوعبها، ولا يترك المشاهد في حالة من الفوضى الذهنية، والتي يحاول من خلالها أن يفهم اللغة الجسدية الصامتة.
وقد انتقلت هذه الأنواع من العروض إلى عالمنا العربي، بدون فهم ماهية التعبير الجسدي، أو الهدف منها أو كيفية التمثيل بها، وقدمت عروض غريبة جدا، وهذا راجع إلى عدم العودة إلي المفهوم الحركي للغة الجسدية، وبهذا نكون فسرنا مفهوم الحركة و(الإيماءة) والإشارة في المسرح المصري القديم.