بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
إذا كان شهر رمضان قد ارتبط بـ (الطعام) عند المصريين منذ عصر الفاطميين، فإنه أيضا مرتبط بالإطعام، فإقامة الموائد من أجل إطعام الصائمين هو جزء أساسى من طقوس هذا الشهر عند المصريين على مدار تاريخهم، واتخذ عدة أسماء لعل أشهرها هو (موائد الرحمن).
ولقد اختلف المؤرخون حول بداية هذه العادة، فالبعض يرجعها لعصر الفاطميين أيضا حيث كانت تقام أولا في المساجد على نفقة الدولة ويحضرها كبار رجالها من قادة وعلماء وقضاة، إلى جانب عامة الناس.
ثم تم نقلها الى خارج المساجد في عصر الخليفة العزيز بالله، الذى كان يُخرج من قصره ما يزيد عن ألف قدر من قدور (الطعام) لتوزيعها على الفقراء في مائدة تمتد لحوالي 175 مترا في مكان أسماه الناس (دار الفطرة).
و البعض يُرجع بداية موائد (الطعام) في الإفطار العامة لتاريخ أقدم و بالتحديد الى أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام، والذى اشتهر بتدينه وورعه.
ولكنه أقام تلك الموائد لأسباب سياسية أهمها محاولة التقرب من شعب مصر بعد إعلان استقلاله عن الخلافة العباسية ليضمن ولاء الشعب في حربه ضد الموالين للخليفة العباسي.
ومنذ ذلك العصر ظلت كتب التاريخ تتحدث عن موائد (الطعام) أو السماط الذى كان يقيمه الحكام و الولاة للصائمين خاصة في عصر المماليك.
وفي العصر الحديث، قامت الأسرة الملكية الحاكمة في مصر بإقامة موائد الإفطار داخل القصر، و كان الملك فاروق – قبل ثورة 1952 – يقيم مآدب (الطعام) على الإفطار داخل قصر عابدين لكبار الشخصيات وموظفى الدولة وعموم الشعب المصري من الفلاحين.
وتقول بعض المصادر أن الملك (خصص عددا من المطاعم المنتشرة في القاهرة لتكون مائدة (الطعام) للفقراء والمحتاجين، على أن يتولى الديوان الملكى دفع قيمة مأكولات الإفطار والسحور).
سرادقات موائد (الطعام)
كما أمر مديرى المديريات (المحافظين) بإقامة موائد (الطعام) على الإفطار، فكانت تقام في سرادقات يُقرأ فيها القرآن قبل المغرب، و كل ذلك بالطبع كى يتغاضى الشعب عن فساده هو و اسرته.
وبعد ثورة 23 يوليو 1952، توقفت تلك الموائد من (الطعام) إلى عام 1967 عندما أُنشئ بنك ناصر الاجتماعي، والذى تم تخصيصه للصرف على الفقراء من أموال الزكاة ومن ضمنها تمويل (موائد الرحمن).
و في عام 1969 كانت أول مائدة إفطار رمضانية يقيمها مسيحيون في مصر للمسلمين على يد راعى كنيسة مار جرجس بحى شبرا (القمص متى ساويرس)، والتي جلس إليها مسلمون ومسيحيون دون تفرقة يتناولون الإفطار بعد انطلاق المدفع.
وبعدها انتشرت موائد تجمع عنصرى الأمة، لعل أشهرها مائدة البابا شنودة الذى كانت تحمل اسم (إفطار الوحدة الوطنية)، وكان أهم ضيوفها الأمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ولكنها مائدة ليوم واحد على عكس عادة المصريين في إقامتها طوال الشهر.
وبداية من ثمانينات القرن العشرين انتشرت موائد (الطعام) انتشارا كبيرا، ولكنها خرجت من عباءة الدولة التي تخلت عن تمويلها، بل أقامها في البداية تيار الإسلام السياسى (غالبيتها كانت تابعة لجماعة الإخوان و الأقلية لبعض التيارات السلفية).
وكانت موائد الإفطار الرمضانية لها أهداف سياسية، فهى ضمن مجموعة كبيرة من الخدمات للفقراء والمعوزين، أقامها ذلك التيار ليحل بها محل الدولة العاجزة عن توفير حياة كريمة لشعبها.
وسرعان ما نافستها موائد ضخمة عامرة بأشهى أنواع (الطعام)، أقامها رجال الأعمال وأعضاء مجلس الشعب وبعض الفنانين، و غالى هؤلاء في موائدهم حتى صارت هناك منافسة خفية بينهم حول المائدة الأضخم و الأشهى.
ونتاج لشهرة تلك الموائد حاول تيار الإسلام السياسى إبعاد الناس عنها من خلال إثارة معركة فقهية حول جواز الإفطار على مائدة أقامتها (راقصة أو فنانة)، وإذا كان مرتاد هذه الموائد صيامه مقبول أم لا بعد أن أفطر من مال حرام!.. (حسب وجهة نظرهم).
وفي ظل ذلك الصراع ومع انتشار الأفكار المتشددة انتشرت ظاهرة أخرى على الطرق الرئيسية خاصة طرق السفر لشباب يحملون بعض التمر وزجاجات الماء ليكسبوا ثواب إفطار صائم.
انتشار (كرتونة رمضان)
ولكن الظاهرة امتدت الى داخل المدن وأصبحت ظاهرة مقلقة، بعد أن قام البعض باتباع أسلوب سخيف وخطر لإيقاف السيارات ولو بالقوة، وفي نفس الوقت تقريبا كانت ظاهرة أخرى تنتشر هى (كرتونة رمضان).
حيث تفتق ذهن البعض عن أن بعض الفقراء سيخجلون من التواجد في موائد الرحمن فربما يراه جيرانه، فالأجدى والأكرم أن يتم توزيع مواد غذائية ربما تكفى العائلة حق السؤال.
وأظن أن أول كرتونة (الطعام) في رمضان ظهرت في أوائل الألفية مع ظاهرة تأسيس الجمعيات الخيرية الكبرى، مثل بنك الطعام المصري، ومن بعده جمعية رسالة وغيرها.
والكرتونة تحتوى على مجموعة متنوعة من المواد الغذائية مثل الأرز والمكرونة والبقوليات والزيت أو السمن حسب سعر الكرتونة، وحسب تبرعات ميسورى الحال حيث وصل سعر الكرتونة المتوسطة هذا العام الى 300 جنيه.
ولكن كما كل الأفكار النبيلة تحولت فكرة كرتونة رمضان إلى (بيزنس) لبعض المحلات، ولكثير من الجمعيات الخيرية التي انتشرت وتبنت المشروع دون رقابة واضحة إلى من تذهب تلك (الكراتين)، أو إذا كانت توزع بالفعل!
إلى أن تفتق ذهن الحكومة إلى فكرة عبقرية لتحمى (الإطعام) من الاستغلال السياسى، فأقامت التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى، لتنضم تحت لوائه كل المنظمات والمؤسسات والجمعيات العاملة في مجال الخدمة المجتمعية.
أما (موائد الرحمن) فقد وضعت لها الحكومة اشتراطات متعددة لإقامتها من بعد ثورة 30 يونيو خوفا من تسلل توجهات سياسية لتلك الموائد، ثم جاءت جائحة كورونا لتتوقفت تماما تلك الموائد لمدة عامين، ولكنها عادت بعد انجلاء الجائحة.
أطول مائدة إفطار مصرية
ولعل أشهر تلك الموائد اليوم – و التى تستحوذ على الترند لعامين متواصلين – مائدة إفطار (حى المطرية)، الذى احتفل أهل الحى هذا العام بإقامتها للمرة العاشرة.
والتي بدأت بالصدفة عندما قرر مجموعة من الجيران أن يفطروا معًا، ثم تحول هذا الأمر لعادة سنوية، كبرت عاما بعد عام، حتى صارت حدثا يحرص على حضوره كبار المسئولين، وبعض السفراء للمشاركة في أكبر وأطول مائدة إفطار مصرية.
وتختلف مائدة إفطار المطرية عن باقى الموائد في أنها (صناعة شعبية)، فهى من تمويل أهالى الحى وتنظيمهم بشكل جماعي، وليس وراءها جهة ولا تخفى أهدافا سياسية، بل يشارك الجميع في تجهيزها قبل موعدها في منتصف رمضان بعدة أيام، فتقوم السيدات بالطهى في بيوتهن ويتولى الرجال الإعداد و التنظيم.
ويجتمع حول المائدة التي تمتد عبر شوارع وأزقة (عزبة حمادة بالمطرية)، كل السكان وضيوفهم وضيوف الحى في مشهد رائع يدل على عظمة هذا الشعب الذى يستطيع تنظيم وإدارة حدثا ضخما كهذا بكل دقة بلا قائد محدد، وبمنتهى الاتقان ودون حوادث تذكر.
وفي دول أخرى تقام أيضا موائد إفطار شعبية لعل أشهرها (إفطار السلام) الذى كان يقام في مدينة القدس قبل عدة سنوات، حيث كان يجتمع مجموعة من الشباب من مختلف الأديان والمعتقدات لتنظيم إفطار جماعي في ساحة مفتوحة بالقرب من البلدة القديمة، ولكن للأسف الشديد اتضح أن السلام مع الكيان الغاصب مجرد وهم.