كتب: محمد حبوشة
لست أكتب عكس التيار في سبيل تحقيق شهرة أو انتشار كما يفعل البعض، ولست ممن يتجردون من مشاعرهم تجاه تقييم أداء أحد فنانينا الكبار الذين لابد من أن نحنو عليهم في شيخوختهم، ومن هنا لابد أن أوضح بعض الحقائق الثابتة في حياة النجم الكبير والقدير (يحيى الفخراني).
نال كثيرون من العملاق (يحيى الفخراني) سواء جمهور السوشيال ميديا، أو بعض نقاد السبوبة، في محاولة التقيليل من قامته الطويلة في فضاء الفن المصري الحقيقي على مدار سنوات عمره المديد.
والحقيقة أقول: أن مجرد إطلالة (يحيى الفخراني) على الشاشة في حد ذاتها تضفي جوا من البهجة والسعادة، حتى لو بدا أداءه أقل بعض الشيء عن أعماله السابقة، ومع ذلك يبقى عبقه وأريجه الفني لايفنى دائما وأبدا.
أطل علينا (يحيى الفخراني) في مسلسل (عتبات البهجة) بحضور أقل هذا صحيح، وربما عامل الزمن كان في غير صالحه، حيث بدا بطيئ الحركة إلى حد ما، يتكأ على عكاز نال كثيرا من قدرته على الحركة والرشاقة التي عهدناه عليه.
إقرأ أيضا : سلامٌ على يحيى الفخراني
لكن يكفي (يحيى الفخراني) ظهوره في مسلسل اجتماعي بفكرة طازجة مأخوذة عم عمل أدبي للراوائي الكبير (إبراهيم عبد المجيد)، وإشراف على الكتابة من جانب السيناريست الكبير الموهوب (مدحت العدل).
ظهر (يحيى الفخراني) بلغة جسد معبرة بصدق ودفء لم يفقده رونقه المعهود، ربما كان بطئ الحركة، لكنه لم يفقد هالته في الأداء، ويكفيه أنه لايجرح مشاعر الجمهور المصري والعربي في شهر الصيام كغيره من مسلسلات العشوائية والعنف والبلطجة.
عيني (يحيى الفخراني) المعبرتين!
يمتاز الفنان الكبير (يحيى الفخراني) بعينين معبرتين تستطيعان أن تأسر من يشاهده، وفي (عتبات البهجة) لم تنطفئ تلك الهالة النورانية التي تلازمه في الأداء الشجي، رغم تجاعيد الزمن التي تبدو على ملامح وجهه الذي يكسوه قدر هائل من البراءة في الثمانين من العمر.
تساءل كثيرون: هل أخفق يحيى الفخراني في (عتبات البهجة)؟
في الواقع لم يخفق (يحيى الفخراني) في (عتبات البهجة) كما أشار البعض، لكني أظن أن المزاج العام للجمهور المصري والعربي تغير بفعل التلوث الدرامي السائد ، والذي عكر المناخ بالأكشن المقيت، والسحر والشعوذة، والبلطجة ومخالفة القانون.
وبالتالي يصعب على قامة كبيرة مثل (يحيى الفخراني) أن يواكب منطق السوق التي تروج لبضاعة فاسدة في مخاطبة أبشع الغرائز الإنسانية مجسدة في الخيانة والندالة والانتقام حتى ولو كان على جناح الكوميديا.
اعتاد (يحيى الفخراني) أن يطل على جمهوره بعمل إنساني بغلاف كوميدي رشيق يحمل قدرا من الطاقة الإيجابية المدهشة، حتى ولو كان يجسد شخصية (شيطان) كما حدث ذلك في مسلسله (ونوس) في رمضان 2016.
وطبقا لتغير ذوق الجمهور كما ذكرت سابقا فلايمكن أن يتقبل مسلسل اجتماعي في إطار كوميدي مثل (عتبات البهجة) فيبدو له تقليديا لا يواكب زمن الانفلات الدرامي الذي يخالف المعايير الفنية السليمة، ويخاصم القيم.
مسلسل (عتبات البهجة)، هادئ خالي من الصخب والضجيج الذي يفضله جمهور الشباب الحالي، والذي حتما لايعجبه منهج (يحيى الفخراني) الذي كرس حياته ليكون مصدر الدهشة والإبداع القادر على صنع البهجة والضحك في جوهرهما الجميل.
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب: (عتبات البهجة) بلا بهجة.. والفخراني خاسراً
ذلك الضحك الذي قصده هربرت سبنسر: (إن الضحك هو مجرد فائض للطاقة الإنسانية وعلى المرء أن يجد له متنفساً ليخرج هذه الطاقة من جسده، والطاقة الفائضة التى يثيرها الإحساس بالسرور والبهجة لابد أن تبحث لها عن منفذ من خلال الظاهرة الصوتية المتعلقة بعملية التنفس والتى نطلق عليها الضحك).
هذا ما يؤمن به ويترجمه (يحيى الفخراني) في أعماله الكوميدية بفائض طاقته الإنسانية التي يثيرها الإحساس بالسرور والبهجة، ومنها بالتأكيد مسلسله (عتبات البهجة)، لكنها للأسف فلسفة لا تستهوى جمهور وقع في مستنقع العشوائية.
كانت الثقافة الشعبية المصرية إلى وقت قريب مفعمة من الناحية الفكاهية بالمواقف الطريفة بالأقوال والحكم، وهى ظواهر صوتية تبدو مؤلمة تارة ومضحكة تارة أخرى، ولعل ذلك يعد السبب الجوهرى فى أن الشعب المصرى هو بالسليقة ابن نكته.
(يحيى الفخراني) ممثل عبقري
ولعلنا ندرك جميعا أن السخرية من أهم الموروثات لدى الشعب المصرى بل إنه يجد فيها فرصة لمعارضة الحكام على مر السنين حتى طغت على سطح المشهد الدرامي مؤخرا كوميديا النطاعة والتشدق بالألفاظ النابية في سبيل استنطاق الجمهور بالضحك.
ولأن مسلسل (عتبات البهجة) يستند لرواية إبراهيم عبد المجيد التي ترصد علاقة صديقين في مرحلة عمرية متقدمة، يقاوم كل منهما بطريقته فكرة انسحاب الزمن، باحثين عن البهجة لتخفف من وطأة الأيام.
لكنها لا تتجاوز دائما العتبات، فالمسلسل يحوى محاور وقضايا اجتماعية أخرى لم تكن موجودة في النص الأدبي، مثل الابتزاز الذي تتعرض له الفتيات عبر مواقع الإنترنت، وأزمة التعليم والدروس الخصوصية.
وحتما هذا لايروق لجمهور الدراما إلا إذا كانت الأحداث وتركيبة الشخصيات مفتعل جدا، ووجود شخصية تستحوذ على المشاهد، فضلا موقف درامي هزلي يمكن أن نتشوق لمتابعته على السيناريو الذي حافظ على روح الرواية وفلسفتها.
صحيح أن السيناريو أوجد عالما موازيا لها عبر شخصيتي الصديقين وبائعة الشاي، كما استحدثت العلاقة بين (بهجت) وأحفاده التي لم تكن موجودة بالرواية الأصلية، كما قدمت صراع الأجيال، ومطربي المهرجانات.
كما ذهب إلى خلق واقع جديد يناسب الزمن الحالي بكل مفرداته، كمواقع التواصل الاجتماعي، حيث أوجد خطوطا درامية عديدة مثل (الدارك ويب) الذي يطرح في الدراما لأول مرة، وهو موقع يشتري منه الشباب كل شيء من مبيعات محظورة دون رقابة.
لكن المشكلة أن الجمهور اعتاد إيقاع مسلسلات العصابات والقفز بالسيارات، ولعل (مدحت العدل) هو أكثر واحد لديه إحساس بالإيقاع، لكنه عمد أن يكون عمله يشبه البيوت ويعبر عن الطبقة الوسطى في المجتمع المصري.
والثابت حقا: أن (يحيى الفخراني) ممثل عبقري وأداؤه ينفذ إلى القلب، وسيظل حالة إبداعية استثنائية على الشاشة، ويحقق حضورا مضيئا في المسلسل رغم أن العمل نفسه أقل من سحره).
هو ممثل يلعب ، بهواية تصل إلى حد الفلسفة التى يحبها، ربما لو لم يمثل.. لأصبح أقرب أن يكون أستاذ فلسفة أو بحارا لا يتوقف غليونه عن الدخان فى حلقات بيضاء تذهب إلى حيث لا يدرى .
يحيى ، ليس طفلا كبيرا كما يصفه البعض فى سهولة مدهشة مخلة لشخصه وموهبته وجسده المكتنز، يحيى شخص أنقى مافى موهبته نضجه ورؤيته العميقة للأشياء، خلف كل ملامح يتقمصها، يقبع سيرك من الشخصيات تلعب فوق كل الحبال كل الألعاب
(يحيى الفخراني) لا يمثل بطريقة الاستنساخ
سوف يبتسم خجلا إذا وصفته (ممثل وسيم)، هو ليس كذلك ، لكنه لا ينكر أنه صنع من ملامحه وطريقته وشخصيته وسامة من نوع يملكه وحده ، هو كل مرة يتوقف عند عتبة البلاتوه يصلى ويأمل، كأنها المرة الأولى التى يتقمص فيها شخصية.
لا يمثل بطريقة الاستنساخ ، لا يستدعى شخصية مرت فى حياته لكى يؤديها، هو يتخيل، دائما يحول ماكتبه المؤلف على الورق إلى خيال فيصنع شخصيات جديدة مبهرة من فرط بساطتها واختلافها.
يعشق يحيى الفخرانى الحرية ، حريته الشخصية ، لذلك نادرا ما تجده فى جلسة أو شلة أو على مائدة كلام لمدة طويلة ، متعته أن يجلس مع نفسه، يتأمل كثيرا، يراقب، هارب من الواجبات الاجتماعية، من الدوشة، من الثرثرة، من الأضواء.
لا يحمل (يحيى الفخراني) أفكارا سياسيا، لكنه يحمل الكثير من الأحلام لوطن كبير، يرى أن دور الفنان الحقيقى هو الارتقاء بالمواطن من خلال مايقدمه من شخصيات تتحرك على الشاشة تنقل مشاعر وأحاسيس ورؤية.
وفي النهاية أقول: (يحيى الفخرانى) لا يمكن وصفه أو اختصاره فى مهنة ممثل، هو شخص أحب التمثيل، ومازال روح الهاوى تدفعه لأن يمثل بأجر صغير على خشبة المسرح، لكى لا يموت الممثل الناضج فيه، لكى يتجول داخل شخصية أحبها، لكى يتمرن ويصبح فى كامل لياقته.
لا تشغل (يحيى الفخراني) مكاسب النجومية بقدر حرصه على أن يبقى نجما قادرا على اختيار الشخصية والدور والسيناريو والمخرج، متى يمثل ومتى يستريح، لن يقبل فى يوم أدوارا ثانية لمجرد أن يبقى مطلا على الشاشة، لن يوافق على وضع إسمه على اللوحة الثانية تقديرا للغة السوق.
لن يعود (يحيى الفخراني) إلى مربع التنازلات، فهو وصل إلى القمة التى ظل يعمل بجهد لكى يبلغها، لكي تكون له الكلمة الأولى والأخيرة فى العمل الفنى، لذا أقبل على تجربة (عتبات البهجة) بخطى ثابته على الأرض وليكن ما يكون.
وإذا امتلكنا إرادة السعادة والبهجة وحب الحياة، فتلك أروع مافى (يحيى الفخرانى) حيث يحول حزنه أو اكتئابه أو أزماته إلى طاقة مذهلة فى التمثيل، يحول ماينقصه إلى إكتمال فى الأدوار التى يختارها عن احتياج لكى يكتمل حلمه القديم بها .
لذا أعتب على الأقلام الجارحة التي قالت خلال الأيام الماضية: لا يمكن لعازف موهوب أن يستمر وهو يضرب فقط على أصابع البيانو السوداء، السوداء والبيضاء هى التى تجعل الموسيقى ممتعة والعرض مدهش وغير متوقع .
فقط علينا أن نتذكر أن (يحيى الفخراني) بجسد ممتلئ وابتسامة تكاد تسع الدنيا، ظهر الفخراني أمام الناس على الشاشات؛ ولم يكن أحد حينها قد اعتاد بعد أن يلعب الأدوار الأولى ممثلون من غير ذوي الجسد الممشوق والعبوس المثير.
لكن (يحيى الفخراني) وبجواره عشرات الممثلين الآخرين الذين لم تطابق أشكالهم مواصفات النجم القياسية استطاعوا بفضل الموهبة وحدها أن يكسروا تلك الأنماط ويضعوا معادلات مختلفة كثيرا للنجاح لم يحتل الشكل الخارجي للمرة الأولى فيها الصدارة.
أما نجاح الفخراني الخاص، فقد وقف وراءه شغف عميق حيال ما يفعل، ومتعة شخصية يجدها حالما يخلع عنه ذاته على خشبة المسرح أو أمام الكاميرات، ويستحضر ذاتا أخرى مختلفة عنه يجسدها داخل عالمها المختلف دائما عن عالمه.
فقد كان الحب والحب وحده هو المحرك الرئيس لحياته المهنية في التمثيل والتي استمرت قرابة الخمسين عاما.