كتب: محمد حبوشة
سجل الأحمدان: (فؤاد سليم، وبدير)، قمة الروعة في أدائهما في مسلسلي (بيت الرفاعي، وسر إلهي)، قدم الأول (أحمد فؤاد سليم) دوارا جمع بين الخشونة وافتقاد العاطفة تجاه ابنه الأكبر (ياسين)، بينما قدم الثاني (أحمد بدير) دور الأدب المكسور بفعل تصرفات أبنائه.
مر ثلث الشهر تقريبا، لكن يظل الجمهور متعلقا بأداء كلا هذين العملاقين في الحلقة الأولى، على مستوى لغة الجسد المعبرة، والتماهي مع الشخصية التي يلعبها الاثنين ليقدما سيمفونية في الأداء الاحترافي الذي يؤكد الخبرة والتأني في ألعاب التراجيديا الإنسانية.
على الممثل أن يتقن التواصل الوجداني الحقيقي، هذا إذا تحدثنا عن الممثل من خلال الحركة والصوت، لكن كيف يتحرك الممثل؟ وكيف يخرج صوتا؟، هذا مايفسره (ستانسلافسكي) بقوله: (على الممثل أن يمتلك القدرة على تهيئة نفسه للفعل).
فالشيء المهم ليس في الفعل ذاته، ولكن في الولادة الطبيعية لدواعي الأفعال، لذا يجب على الممثل في مراحل تحضير الدور عدم تنفيذ الأفعال عضليا بل الوصول للفعل النفسي ثم الانتقال من مهمة وفعل آخرين إلى الاكتفاء بإيقاظ الدوافع للفعل.
وترسيخ هذه الدوافع بالتكرر، لذا يجب على الممثل أن يمتلك القدرة على البحث وإيجاد العلاقات التي يتطلبها الدور، وأن يجعل منها علاقات خاصة.
(أحمد فؤاد سليم) من أولئك الذين يعنيهم (ستانسلافسكي) بقوله: إنه يجب على الممثل أن يمتلك القدرة على التصرف والنظر إلى كل ما يقع ويحدث على خشبة المسرح، حسب قواعد اللعبة المسرحية والدور في الدراما التلفزيونية.
وأن يمتلك القدرة على تقبل المفاجآت وتقدير هذه الواقعة بشكل سليم، إنطلاقا من وقائع الحياة المسرحية والدرامية، فضلا عن القدرة على الوصول بنفسه إلى الفعل العضوي بمساعدة الانتباه (التركيز).
أثبت (أحمد فؤاد سليم) و(أحمد بدير) في حلقة واحدة فقط وعبر دقائق معدودة، أن الممثلين الحقيقيين هم من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم.
لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، وقد انعكس ذلك في الأداء من خلال حركة العين والصوت وتعبيرات الوجه الموحية بجلال الموقف الدرامي، وهو ما ظهر في المشاهد القليلة، حتى في لحظات قتل كل منهما على يد ابنه.
كما إنه من الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، ويحتاج الممثلون إلى أجساد مرنة مطواعة معبرة.
أحمد فؤاد سليم.. محمود الرفاعي
ومن خلال متابعتي للعملاق (أحمد فؤاد سليم)، ألحظ أن الشغل الشاغل له هو التمثيل فقط، لذا لم يزاحم أو يدخل في صراعات مع أحد من زملائه قط طوال مشوار حياته المليئة بالأعمال المسرحية السينمائية والتليفزيونية الجادة.
يمشي بلا خطى مسموعة، يحاول الاختفاء خلف جدار الموهبة، ويعمل دون الرهان على شىء، فمن يتأمل أعماله يكتشف أنه فنان جاد لديه مبادئ يحاول الحفاظ عليها ويسعى جاهدا لتقديم أعمال تحتوي على قيم ورسائل ذات مغزى.
ولأن (أحمد فؤاد سليم) يختار أدواره بعناية شديدة مع تنوع في الأداء يدل على ثقل موهبته، فقد تمكن من أداء الأدوار الكوميدية والشريرة في آن واحد، ومن فرط تلك الموهبة قدم في دقائق معدودة دور الأب (محمود الرفاعي) بعذوبة بالغة ترك أثرا كبيرا لدى جمهور دراما رمضان 2024.
وبالرغم من براعة الفنان الكبير والقدير صاحب الأخلاق الرفيعة (أحمد فؤاد سليم) على شاشة السينما وخشبة المسرح والدراما التليفزيونية يشعر كل محبيه أن الرجل لم يأخذ حتي هذه اللحظة فرصته بشكل كامل رغم أنه فنان جاد ولديه حضور خاص.
ومع ذلك لم يقدم تنازلات خلال مشواره الفني قد تخرجه من حسابات الجمهور، فأبرز ما يملكه من مهارات هو أن لديه جزء عقلي ثقافي، فمثله لا يستطيع أن يناقش (شكسبير أو بريخت) أو غيرهما إلا مع ممثل يعرف قيمة المؤلفين.
إقرأ أيضا : أحمد فؤاد سليم .. رجل المهام الصعبة .. عاشق تراب الوطن
ولعل (أحمد فؤاد سليم) ممثل يعرف تاريخ الرسم والنحت والموسيقى، يستطيع أن يعي في ذهنه على الدوام ولو بصورة تقريبية أسلوب الحقب وخصائص كبار الفنانين.
وهذا التدريب الذهني يتيح هو مايتيح لـ (أحمد فؤاد سليم) القدرة على أداء أكبر عدد من الأدوار وأكثرها تنوعا لأن الممثل عنده يحتاج إلى ذهن يفكر بسرعة كسرعة البرق مركزا إلى حد كبير في لحظات الشك.
وهنا يكون دور الملاحظة التي تنمي كل جزء من أجزاء جسد الممثل وليس البصر أو الذاكرة وحدهما، وكل هذا يجرنا إلى تدريب آخر له أهمية قصوى عند (أحمد فؤاد سليم) وهو الايقاع.
لذا فالتمرين لديه يجب أن يستهدف أمرين عند الممثل: العقل والجسد، والإيقاع بمهومه كفنان مثقف وعلى درجة كبيرة من الوعي باعتبار أنه ليس في الوجود شيء خال من الإيقاع، حتى الحجر له إيقاع.
إذن لماذا التدريب على الايقاع؟: السبب هو أن الممثل قد يكون غير متطور أو في حالة ركود، لذا فالتدريب على الايقاع من وجهة نظره كفيل أن ينميه ويوقظه، إنطلاقا من أن كل المخلوقات الحية تحيا على الايقاع في الانتقال من شيء محدود الى آخر أكبر.
والممثل لا يستطيع أن يصور الكل إذا لم يصبح هو جزء منه، الايقاع هو التغيرات المنظمة المحسوبة التي تطرأ على كل العناصر المختلة التي يتضمنها العمل الفني شريطة أن تثير كل هذه التغيرات انتباه المتفرج، كما يفعل سليم في كل أدواره.
أحمد بدير.. رجل الأعمال (هارون)
أما الثاني الفنان القدير (أحمد بدير)، فقد حقق من خلال دور رجل الأعمال (هارون) في مسلسل (سر إلهي) معادلة أن فن التمثيل هو فعل التقمص من خلال عملية ذوبان ذات الممثل الإنسان وانصهارها بذات الممثل الشخصية.
وهذا الذوبان احتاج منه توظيف علاماتي تحويلي تتحول فيه صفات وسلوك ومشاعر وما يتعلق بعناصر التعبير الداخلية والخارجية من علامات الممثل الإنسان إلى علامات الممثل الشخصية عندها يحدث فعل التقمص.
وعليه فقد قام الأداء التمثيلي من جانب (أحمد بدير) في هذا المستوى بطريقة بعيدة عن ميزات وخصائص شخصية الممثل الإنسان إذ تتطلب عملية التحول إلى الصدق والإيمان بحيث يتحول فعل الأداء التمثيلي على شاشة التليفزيون ويتطابق مع الحقيقة العامة بهدف تحقيق فعل الإيهام.
وذلك عندما تصل هذه الرسالة الأدائية بوعيها بالإيهام مما يعني إن سلطة القراءة التأويلية قد هيمنت عليها دالة الاندماج بحيث يتحول المشاهد إلى مستقبل متعاطف مندمج مع مستوى الأداء التمثيلي المتقمص.
تماما كما فعل (أحمد بدير) في التماهي مع شخصية (هارون) الذي احترف في أعماله دور (الضاحك الباكي)، فقد استطاع بأسلوبه السلس في التمثيل ولو لدقائق معدودة، أن يكشف عن ممثل قادر على تحويل الخطاب المتخيل إلى خطاب واقعي حياتي يستنبط حسه من فعل الملاحظة.
ويجسدها تعبيريا بالوحدات والفترات الأدائية القادرة على خلق صفة كشف حقيقة الحياة الإنسانية المعذبة بفعل الأبناء في الأبناء، وأثبت لنا مع شخصية (هارون) إن خلق هكذا نوع من الاستجابة ترتبط بكشف الفعل المتغلغل الناتج عن التنامي الدرامي وتأثيره على المشاهد بهدف إرضاء رغبته في التلقي الجمالي وإشباعها.
وذلك عن طريق الاندماج والتفاعل مع إيقاع الأداء، والتلقي عنده هنا اعتمد على المعايشة المستكينة ضمن إطار القراءة التفاعلية الاندماجية ذات التأثير الإيهامي الذي يهيمن على رسالة المسلسل الأساسية.
إقرأ أيضا : أحمد بدير .. الضاحك الذي أبكانا في دراما رمضان
وإذا كان التركيز شيئا مهما للممثل، فإن (أحمد بدير) كان على درجة من الحرفية بتركيز سمح له أن يكون ممثلا قادرا على زج نفسه في مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه.
موهما نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقي، وحتى يتسنى له فعل ذلك، يجب عليه التركيز والاستماع للممثلين الآخرين في المسلسل والاستجابة لما يقولون بشكل جيد، ويتطلب ذلك منه أيضا التركيز على كل لحظة بدلا من ملاحظة الحدث وانتظار ما سينتج عنه.
وعن طريقة الحركة والإشارة أتقن طريقة انكسار شخصية (هارون) وقامتها وإشاراتها ومميزاتها الجسمانية الخاصة، صحيح أن المخرج يعرض إطار حركة الشخصية العام، غير أن الممثل هو المسؤول عن إخراج هذا النموذج التجريدي إلى حيز الوجود.
وهذا بقدرته على فهم هدف كل دافع عاطفي وراء كل حركة تقوم بها الشخصية، هذا فضلا عن امتلاكه ميزات الصوت التي تحتم على الممثل أن يدرس متطلبات كل مشهد على حدة.
وهو ما فعله (أحمد بدير) في بعض المشاهد بأبوية ناعمة، وهذه تتطلبت صوتا ناعما خافتا؛ أما المشاهد الصاخبة فتتطلبت منه أصواتا مرتفعة جهورية وحادة .
ظني أن (أحمد بدير) هو نجم من طراز فريد، له لمساته الخاصة على أى عمل فنى يشارك فيه، حتى وإن كان دوره ثانويا، فلا بد من أن يترك أثرا كبيرا فى قلوب المشاهدين.
كما أنه قضى سنوات حياته على خشبة المسرح لعشقه له، ومن ثم حفر اسمه فى قلوب عاشقيه بخفة ظله، وحركاته جسده المرأ وروحه المداعبة، وبالأخص في الأدوار الكوميدية.
ولا أحد منا يستطيع أن ينسى دور (عبد العال) في مسرحية (ريا وسكينة) التي ما زلنا حتى الآن نشاهدها، و مسلسل (يا أنا يا جدو)، الذى قدم من خلاله شخصية الجد (إسماعيل باشا)، وأشاد الجمهور ببراعته واصفين إياه بـ (غول الكوميديا).
لبراعته في الأداء ونجاحه في إلقاء الإفيهات الكوميدية التي تجلب السعادة والبهجة في قلوب عشاق فنه، وها هو يصل إلى قمة التراجيديا الإنسانية في مسلسل (سر إلهي) بدور لا يستطيع أن يغادر ذاكرة الجمهور في زحمة الدراما الرمضانية هذا الموسم.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام لكل من النجمين الكبيرين (أحمد فؤاد سليم) و(أحمد بدير) اللذين أثبتا مما تقدم أن الفعل الداخلي للمثل هو الذي يوجه ويصوغ الحركات الجسمية.
ليؤكدا قول ( ستانسلافسكي)، ويخاطب تلاميذه: (فن هدفنا ليس حياة بشرية، بل إبرازها في قالب فني، لأن ليس على الممثل أن يعيش في صميم دوره فحسب، ولكن يجب أن يبرزه ويعطيه المظهر الخارجي..
ولذلك يجب على كل ممثل في مدرستنا أن يعمل كثيرا بل أكثر من أي شخص آخر، سواء لتعويد ذهنه على عمليه خلق مايسمونه: (إن الممثل يعيش في دوره) أو لتدريب جسده عن نقل التأثيرات الناتجة عن ذلك منتهى الدقة، تماما كما جاء في أداء هذين العملاقين الكبيرين.