كتب: محمد حبوشة
أداء الممثل له لغة خاصة به تبث رسائل مشفرة ذات صيغ إنسانية عامة، تتجاوز الصبغة المحلية إلى العالمية، وهو مالاحظته في أداء الفنان القدير (بيير داغر) الذي برع تجسيد شخصية (جلال) بمسلسل (نظرة حب)، في أثناء مخاطبة جماهيره في الترويج لحملته الانتخابية.
ولأن (بيير داغر) ممثل مسرحي بارع من الأساس فقد قدم مشهدا مسرحيا غاية في الإتقان رغم أنه كان سكرانا، وهو ما يعكس أن أداءه تجاوز الحدود، ويمكن اعتباره نوع من الممارسة الثقافية التي تعيد كتابة وبناء الرموز والإشارات الجسدية التي تشكل الحياة الاجتماعية لرجل صاحب نفوذ سياسي كبير في المجتمع اللبناني.
أداء (بيير داغر) يمتد بين الكثير من الحدود التي تفصل المؤسسات، وبين الطبقات وبين الأعراف وبين الهويات الثقافية، فلقد بدت لي حركته هى توظيف حرفي لخلق عدد متتابع من الصور لها القابلية على خلق حالة شعورية تجعل المتلقي في حالة من تهويمات الحالم والكوابيس.
بمعنى أن الفعل عند (بيير داغر) هنا يقوم على التنظيم المعماري للأصوات والكلمات والحركة بشكل يعاد فيه طرح الصور أو تنويعها بحيث تشكل موتيفات معينة، وهكذا تصبح تيارا تخيليا إلى المدى الذي تستثير معه أشكال الفانتازيا.
حركاته المهتزة بفعل السكر البين كانت بمثابة سقاط لحالات داخلية غير سوية تكتسب اللاوعي لدى المتفرج ويرى (ويسلون) الاضطرابات النفسانية الانسحابية التي جاءت في أداء (بيير داغر) باعتبارها الاستجابة النفسية الشائعة إزاء ضغوط الحياة.
الخيال لدى (بيير داغر)
فقد لعب الخيال لدى (بيير داغر) دورا بارزا في جعل ذهن المتلقي يعج بالصور والتداعيات، كما يبرز الدور الكبير للذاكرة الانفعالية والحسية في خلق استجابات المؤدي لصيغ العرض المختلفة وتثوير الحالات الشعورية الجياشة التي تصل لدرجة التوحد مع اللحظة.
فمن خلال جسد (بيير داغر) الذي ينم عن التعبير، يتم التعبير عن حالات وجدانية عن طريق الإشارات والدلالات الحلمية، والتي يمكن أن تكون خاضعة للتفسير المنطقي ولكنها تفسر في سياق التداعي الحر.
وهو ما أكده (تشايبكن) حينما قال: إن كل خطوة في التمثيل تتطلب من الممثل الرجوع إلى الوعي بحقيقة ما يفعله، ولكن أعظم الأعمال الإبداعية تكمن في المنطقة الحالمة بين التفكير والخيال.
والتي تطلبت بالضرورة من الممثل (بيير داغر) أن يستريح ويترك الصورة تحرك نفسها في وجدانه، ومن هنا يظهر أن دور الكلمات المنطوقة يعتبر غير أساسي، فلا يعول عليها الممثل في تعبيره بل يمكن أن تعتبر وسيلة مساعدة.
ولكنها عند (بيير داغر) تلعب دورا آخر، حيث يمكن اعتبارها محفزا أساسيا في خلق التداعي الحر والصور المتخيلة من قبل الممثل والمخرج سويا، على اعتبار أن الأفكار والأنساق الأدبية من العناصر الأساسية لبناء العرض المسرحي الذي قدمه في مشهد تلفزيوني بالغ الأثر.
الطاقة الصوتية لـ (بيير داغر)
وهذه الكلمات من شأنها أن تحفز الصور لدى متخيلة المتلقي، ما يعني أن الطاقة الصوتية استخدما (بيير داغر) بأشكال أكثر جرأة وقدرة تعبيرية هائلة فكان التعبير الصوتي عبارة عن مزيج من الهمهمات والصرخات والتأوهات، وتكون الأنفاس مجردة من الصوت.
وهذا ما حدثنا به (أرتو وكروتوفسكي): إذ سعى (بروك) إلى خلق لغة عالمية للمسرح الذي يمكن أن يتلقاه أي متفرج في العالم دون الحاجة إلى علامات أو رموز ثقافية مشتركة، تماما كما تلقاها المشاهد العربي لمسلسل (نظرة حب).
كان هذا إيذانا بالاهتمام بالعناصر الثانوية الخاصة بالإيماءات والنبرات والطبقات الصوتية التي استخدمها (بيير داغر) ومن ثم اهتمامه بديناميكية كل من الصوت والحركة نظرا لما لهذه العناصر من قيمة تعبيرية كما جاء في أدائه لهذا المشهد.
من أجل خلق حالات متأججة من المشاعر الإنسانية والتي ترتبط بموضوع معين، وهذا ما ميز الأداء الصوتي لـ (بيير داغر) المتوافق مع الأداء الجسدي، لهذا أعتبر هذا المشهد بمثابة ماستر سين حلقات مسلسل (نظرة حب)، وقد جاء هذا المشهد على النحو التالي:
ينزل (جلال/ بيير داغر) من سيارته قائلا: اسمعوا يا شباب سقراط شو بيقول: (مش كتير صعب انك اتضحي كرمال لصديق، بس الصعب انك تلاقيه هالصديق).. فكروا فيها!
براعة أداء بيير داغر
يصعد (جلال الطابق العلوي لفيلته) ويلقي كلمة على الجمهور وهو في حالة سكر بين قائلا: نحنا الليلة حسمنا أمرنا.. قررنا ان هيدي انتخابات بدنا نخوضها.. بدنا نروحها ما حانسحب منها..
رحلتكم معي راح تكون طويلة.. بدي رجال تسندلي ضهري.. تمشي ورايا.. الحمل تقيل.. بده ضهر يحمل وكتاف تشيل.
أعرف الطريق هى طويلة.. كلها أشواك وصخور.. بدي رجال يمشوا ورايا.. ياللي مستعد يمشي ورايا يحمل بكل إيد فاضية من سباطه.. اللي عباله يربح أكتر من ألف دولار يرفع إيده.. اللي عباله يربح 5 آلاف دولار يرفع ايده التانية لفوق.
ويقول: احنا زلمك يا بيك.. وكل من فوق راسه سباط يكبه في الماي.. ويقول احنا زلمك يا بيك.. كل من فوق راسه سباط يكبه في الماي.
اسمعوني منيح: انتبهوا .. حق فردة سباطي الشمال أغلى من سباطي اليمين 5 آلاف دولار.. كل شخص يسلمنا الليل فردة مكافأته بكره الصبح بيستلمها من زينة.
ثم يلقي فردتي سباطه في الماء مهللا: يلا..!
يدير ظهره ويغادر المشهد بابتسامة هيسترية تشير إلى تراجيديا الفانتازيا بكل حالتها التمثيلية فائقة الجودة.
الفنان بيار داغر قام بدور (جلال) أبو الفنانة (كارمن بصيبص/ قمر) في مسلسل (نظرة حب)، ودور (جلال) هو رجل صاحب نفوذ، رب أسرة ولكنه رجل سياسة يتعرض للكثير من المشاكل خلال إعلان ترشحه للانتخابات النيابية، وتنعكس تلك المشاكل على حياة ابنته التي تكون محور المسلسل.