بقلم الدكتور: كمال زغلول
نقصد بـ (البناء الحسي) للشخصية المسرحية، مجموعة المدركات الحسية للشخصية من حس، ذهن، شعور، ويضاف إليهم الخيال والتصور اللذان يدوران في ذهن الشخصية.
والمؤلف في المسرح المصري القديم ، كان يتعامل مع شخصيات وجدانية شعبية ، وهي عكس الشخصية التي يقوم بمحاكتها كاتب، فالأولي شخصيات قد تربي عليها وجدان الشعب.
وهى تمثل للشعب مؤثرات حسية قوية، أما الثانية فهي شخصيات مؤلفة من قبل كاتب وضع فيها وجهة نظر خاصه به وقد تنال القبول أو الرفض.
ولهذا عند تصوير شخصية شعبية لها أثر في الحياة يعمد المؤلف المسرحي إلي تمثيلها بالكاتبة والعرض الأدائي للنص، ولهذا نجد أن (البناء الحسي) المسرحي المصري القديم، قد استخدم فن التمثيل بمعانيه الجمالية.
فهو لم يؤلف شخصية أو يحاكي شخصية بل يقوم بعمل نقل حسي تمثيلي للشخصية، فالشخصية داخل المسرح الشعبي بصفة عامة والمسرح الشعبي المصري بصفة خاصة تأليفها يعتمد على (البناء الحسي) للشخصية.
وهذا البناء مصادره الوجدان الشعبي، والذاكرة الشعبية، فلا يضع المؤلف في باله الأبعاد الثلاثية للشخصية (مادي – اجتماعي – نفسي)، بل يضع في باله البعد الجمالي للشخصية التي أثرت في الشعب فينقلها لهم تمثيلا، ونسوق مثال توضيحي للبناء الحسي للشخصية من شخوص المسرح المصري القديم:
إقرأ أيضا : كمال زغلول يكتب: (المؤلف المسرحي) في مصر القديمة
أوزيريس: هو ملك مصر، وهو في ذاكرة المصريين ليس ملك فقط بل ملك معلم، فقد قام بتعليم الشعب المصري القديم أهم مهنة في الحياة وهى الزراعة، وطرق الري، وفتح عقولهم على المبادئ التي تنظم العالم.
وخلال فترة حكمه دأب (أوزيريس) على تطوير البشرية والعمل على ازدهارها، فلم يكن ملكا عاديا بل معلما وملكا، ولذلك مجَّده شعبه وألَّهَهُ، هذا هو (أوزيريس) في الحياة الشعبية المصرية.
فهذه الشخصية لها تأثير قوي على الشعب بما قدمه لهم من تعاليم وفترة حكم مزدهرة جدا، وعندما نقلها المؤلف للمسرح تمثيلا، لم يذكر كل هذه الأشياء، بل اعتمد على ذاكرة الشعب لأوزيريس.
(البناء الحسي) لشخصية أوزيريس
ولكن قام المؤلف بنقل الحدث البشع الذي قضى على أوزيريس، وهو مقتله على يد أخيه ست، ولم يقم المؤلف بنقل فضائل أوزيريس على الشعب المصري، ولكنه اعتمد على ذاكرة المشاهد العارف لهذه الفضائل، ونقل أهم حدث في مسرحيته.
وهو مشهد القتل البشع، ولكن من الحوار الواصل إلينا وبرغم قصرة هذا الحوار إلا أنه عبر تماما عن (البناء الحسي) لشخصية أوزيريس في جمل مقتضبة وهى:
أوزيريس: خائفا.. لا تتخلى عن أوزيريس، أيا (أتون رع)، وإلا فهو هالك لا محالة.
ست: يظهر في مركب قادما هو واتباعه، متجها إلى الشاطئ.
أوزيريس: إني لم أرتكب إثما، لا تجعل بغضك يتفجر ضدي، إنني أمنح، وسأعطيك وفقا لأوامري، ولا تنتزع قلبي من جنياه، فإنني أنا رب الحياة .
ونلاحظ من كلام أوزيريس (البناء الحسي) للشخصية من وجهة النظر التمثيلية الشعبية، ونجد أوزيريس يقول في بداية حديثه: إني لم أرتكب أثما، هذه الجملة تعبر عن الحس الوجداني لأوزيريس.
وتختزل حياته التي سخرها للشعب المصري، فحياته كان بها الكثير من التصورات والخيالات حيال الشعب المصري قام بتحقيقها على أرض الواقع، وهذه الجملة توضح التكوين الحسي لأوزير ، فقد كان مدرك بحواسه للشعب وتعرف عليه تماما.
ثم قام بتخيل الشعب المصري وقد قام بتعليمه الأشياء سابقة الذكر، ولكن لكي يقوم بعملية النهضة بالشعب المصري، اعتمد على ذهنه في وضع تصور عام لتحقيق خياله.
إقرأ أيضا : كمال زعلول يكتب: (إيزيس) .. والانتصار على ست !
وبعد ذلك خرج الخيال والتصور من خلال مشاعرة في تعليم المصريين وتحقق حلمه وعرفت مصر الحضارة، ولذلك مثله المؤلف بجملة أولية: أني لم أرتكب إثما، وبعد ذلك ينتقل لشعور أوزيريس تجاه ست.
وهو يعرف حقيقته بقوله (لا تجعل غضبك يتفجر ضدي)، إن تلك الجملة تعبر عما سوف يفعله ست ليس بأوزيريس فقط بل بالشعب المصري بأكمله بعد مقتله، وهذا دال على الشعور الداخلي لشخصية (أوزيريس) وعالم بطبيعة أخيه ست.
(البناء الحسي) تأثيري (جمالي)
وينتقل في حواره إلي أخيه بقوله أنه يمنح، وهذه الجملة يعبر بها (أوزيريس) على طبيعة شخصيته في الحياة بأنه لا يمنع عن شخص شيء، فهو لم يبخل بالمعرفة على شعبه أبدا، ولذلك يمكن أن يمنح ست أيضا، وبعد ذلك يذكر أخيه بأنه رب الحياة.
لأن تعليمه للشعب قد أعطته حياة حضارية مستقرة، وينتهي المشهد بقتله، ونلاحظ من شخصية أوزيريس، أن الشخصية لها (البناء الحسي) تأثيري (جمالي) برغم حوارها القليل.
ولهذا نقلها المؤلف المصري القديم من خلال الحس والذهن والشعور الخاص بتلك الشخصية، متخذا من الوجدان الشعبي المصري القديم مصدرا لتلك الحالة الجمالية الخاصة بالشخصية، ونقلها تمثيلا.
وعند نقله صور الإدراك الحسي والذهني والشعوري لأوزيريس داخل الكلام الذي ينطق به، مراعيا الخيال والتصورات التي مرت به.
واعتمد المؤلف علي ذاكرة المشاهد في بقية أحداث حياة (أوزيريس) السابقة، ليجعل من العرض المسرحي المؤدى، حالة من المشاركة بين الممثلين والمشاهدين ، ليحقق التأثير المنشود.
وبالتالي تتحقق المتعة الجمالية التي يهدف لها فن التمثيل بين المشاهدين والمؤديين، وهذا ما هدف إليه المؤلف المصري القديم، في أعماله المسرحية، من تحقيق شاعرية فن التمثيل بالنسبة للمجتمع المصري القديم.
وفي نهاية تلك المقالة يمكننا القول بأن المسرحي المصري القديم قد فهم الغاية من فن التمثيلي، واستطاع أن يستغلها في أعماله الفنية، وجعل الجمهور مشارك في الحدث المسرحي بذاكرته، وبالتالي جعل من العرض المسرحي قيمة جمالية للمشاهدين.