كتب: محمد حبوشة
حصد مسلسل (صوت وصورة) منذ حلقاته الأولى اهتمام المشاهدين في مصر، وذلك لأنه يعتمد حبكة درامية مشوقة تتناول لأول مرة في الدراما العربية مخاطر (الذكاء الاصطناعي) وتغول مواقع التواصل وقدرتها على التأثير في الرأي العام.
أعلم أن المؤلف (محمدج سليمان عبد المالك) هو واحد من كتاب الدراما الموهبين حاليا في طريقة تناوله للمشكلات الاجتماعية، حيث يبدأ قصته عادة من نقطة صغيرة تتسع شيئا فشيئا ليصل بخياله إلى جوهر المشكلة وكأنه يمسك بمبضع جراح ماهر.
في مسلسل (صوت وصورة) تبدو المشكلة في أن (عبد المالك) لم يركز جل اهتمامه لعرض إشكالية التحرش في مكان العمل من خلال الزوجة والأم الشابة (رضوى/ حنان مطاوع)، وإنقاذا لزوجها من الديون فحسب.
بل برع المؤلف الموهوب حقا في أن يغلف نصه الدرامي بقضية أخطر من التحرش، وهى (الذكاء الاصناعي) الذي لم يجعل دوره هامشيا في بناء القصة والسيناريو والحوار كغيره ممن تعرضوا لمخاطر التكنولوجيا حاليا، بل جعلها همه الأول.
تناول (عبد المالك) في قصة مسلسله (صوت وصورة) شخصية (رضوى) في البداية بطريقة تقليدية، حيث تعمل في عيادة طبيب معروف يتحرش بها، فتبلغ عنه لئلا يكرر جريمته مع أخريات، لتنقلب حياتها الهادئة رأسا على عقب.
لكنه عمد إلى عرض مساوئ مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تلوك الألسن سيرتها، وينتقدها الجميع بمن فيهم أسرتها، وسط قرار الزوج طلاقها، ومن هنا تعرض (عبد المالك في (صوت وصورة) إلى كيف تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في تأجيج القضية عبر مقاطع فيديو يستعين بها الطبيب لتشويه سمعة المتهمة.
براعة (محمد سليمان عبد المالك) في مسلسل (صوت وصورة) أنه يدرك كيف تفتح القضية شهية رواد التواصل الاجتماعي، حيث يهتم الرأي العام بقضية (رضوى)، فتحاصرها الاتهامات، لا سيما بعد مقتل المتحرش، فتزج في السجن.
مربط الفرس في (صوت وصورة)
يتصدى محام للدفاع عنها، ويشكك في أدلة إدانتها التي يمكن تزييفها عبر تقنية (الذكاء الاصطناعي)، وهنا مربط الفرس، ليس في التحرش في حد ذاته، بل في كيف أن يصنع الذكاء الاصطناعي سيناريو يشبه الحقيقة للتشكيك في القضية.
تتواصل أزمة البحث عن القاتل الحقيقي، والجميع في دائرة الشكوك؛ من زوجة الطبيب وابنه ومحاميته، وزوج المتهمة، والممرضة العاملة في العيادة.
قدم لنا المؤلف محمد سليمان عبد المالك، مسلسل (صوت وصورة) بقالب درامي مبني على التشويق من خلال مشاركة الجمهور في البحث عن القاتل، لافتا إلى أن العمل يشتبك مع هموم عدة ومستجدات العيش اليومية.
وفي نفس السياق طرق ناقوس الخطر الذي يحذرنا من مخاطر استخدام التكنولوجيا في قلب الحقيقة رأسا على عقب، ما جعلنا نشعر بالرعب من هذا الطارئ الجديد (الذكاء الاصطناعي) في حياتنا المعاصرة.
وقد جسد هذا الرعب الضابط (حسين/ رامي الطمباري) المحقق في قضية (رضوى) حين راح يسرح بخاليه، وهو ترتعد فرائسه من أخطار (الذكاء الاصطناعي) حتى امتلكه الخوف على شقيقته المراهقة فراح يراقب تليفونها المحمول.
ومن هنا طرح الضابط حسين سؤلا مثل: (هل نحن مؤهلون للتعامل مع هذه التكنولوجيا المرعبة أم لا؟)، وأعقب السؤال بتمتات غير مفهومة للضابط الذي يساعده في التحقيق في القضية، قائلا: ربنا يستر علينا من هذا الوافد الجديد.
ربما هى المرة الأولى التي تعرض فيها الدراما إشكالية التحرش في مكان العمل، وقد عمد المؤلف إلى طرحها بشكل جدلي للتوصل إلى سن تشريعات قانونية، ولعل عنوان المسلسل يوحي برسالته، وهى أنه لا حقيقة مؤكدة.
(صوت وصورة) في عصر التزييف
وإن قدمت أدلة بالصوت والصورة، فنحن في عصر يسهل فيه التزييف عبر تقنيات حديثة تحول البريء إلى متهم.
وعلى الرغم من أنني لا أميل إلى الكتابة عن عمل قبل أن تنتهي حلقاته، لكن رأيت أن قضية مخاطر استخدام التكنولوجيا وعلى رأسها (الذكاء الاصطناعي) تستحق أن نسلط عليها الضوء أكثر في ظل اجتياح طوفان هذا النوع الجيد من التكنولوجيا لمجمل حياتنا، وخاصة أنه يهدد حياة البشرية بالانقراض.
ومع ذلك فلابأس من ذكر بعض الإيجابيات التي تمتع بها العمل، وعلى رأسها بالطبع تأتي الكتابة، إذ أجاد (سليمان عبد المالك) السيناريو والحوار، وتمثل ذلك في سرد درامي تصاعدي ذي إيقاع متزن.
كذلك اهتم (عبدالمالك) بالتفاصيل التي تعكس الخصائص النفسية لشخصيات الأبطال على تنوع خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والمادية، فلم تبرز تلك الاختلافات فقط من خلال الحوار، وإنما تأكدت كذلك عبر لغة الجسد والملابس والإكسسوار والديكور.
وهو ما جعل العمل أشبه ببناء هرمي يكمل بعضه بعضا للخروج في أفضل حالة ممكنة على مستوى المعالجة الدرامية فائقة الجودة، والأداء من جانب فريق تمثيلي رائع، فضلا عن الإخراج والمونتاج والموسيقى التصويرية.
براعة (حنان مطاوع) في (صوت وصورة)
أما اختيار الممثلين الذين أسندت البطولة إليهم، فيكاد يكون مثاليا، أولا مع (حنان مطاوع) والتي أصنفها شخصيا من أفضل ممثلات مصر حاليا، إلا أنه في (صوت وصورة) قدمت عملا، جعل الغالبية يجمعون على الإشادة بأدائها.
وربما سمعت (حنان) جملا من جانب الجمهور والنقاد تعبر عن الدهشة والمفاجأة بسبب إتقانها لأدوارها ومن تطور أدائها التمثيلي، لكن الحقيقة أنها لم تفاجئني مطلقا، إذ استطاعت أن تثبت نفسها ممثلة قوية ومحترفة منذ فترة طويلة.
إقرأ أيضا : وجوه .. دراما تكشف روعة أداء حنان مطاوع
تتمتع النجمة (حنان مطاوع) برؤية ثاقبة ووعى تام بمسئولية الفن، وتختار أدوارها بعناية خاصة جدافهى فنانة متمكنة صنعت لنفسها مكانة خاصة على الساحة الفنية، استطاعت بأداء سهل وبسيط الوصول إلى قمة الهرم التمثيلي.
فتجسد جميع الأدوار بحرفية كبيرة ومن خلال هذا الأداء الرائع تجعل المشاهد يتعايش معها وكأن هذا العمل حقيقي وليس مجرد تمثيل، وفضلا عن هذا فهى تمتلك صوتا إذاعيا مثاليا يجسد المعاني التي تنطقها.
وتمتلك حنان طاقة مسرحية كبيرة تمنحها قدرة نوعية على الاقتراب من المشاهد وكأنها تؤدي دورها أمامه على الخشبة، علاوة على إحساس صادق وكأنها تجسد شخصيتها الحقيقية في قصة حبها الأولى.
وهى على الرغم من قوة موهبتها، فإنها قدمت بعض المسلسلات مؤخرا حصلت خلالها على آراء متفاوتة، لكن هذه المرة، أعرب الكثيرون عن إعجابهم بتجسيدها للشخصية، وخاصة بعد مرور الحلقات الأولى التي غلب عليها الطابع الميلودرامي.
(وليد فواز).. مفاجأة (صوت وصورة)
وبعيدا عن (حنان مطاوع) ، هناك عدة أسماء أخرى لفتت الانتباه أكثر كونها كانت مفاجئة أكبر من التوقعات، أولهم (وليد فواز) العائد بعد فترة غياب، والذي سبق أن كشف عن موهبته بمسلسلات أخرى مثل (الرحلة، السبع وصايا، بدون ذكر أسماء، العهد).
لقد تعامل (وليد فواز) منذ اللحظة الأولى مع (عبد الرازق) بطريقة التقمص المتقن، وحول الشخصية بتكنيكه الخاص وبراعته التي عهدتها عليه في تطوره من عمل لآخر.
واشتغل على التفاصيل ليحولها إلى شخصية من لحم ودم، ويبدو جليا عمله على تفاصيلها ودراسة تاريخها النفسي وتصرفاتها الآنية، بحيث بدا واضحا للجميع زيف مشاعره تجاه زوجته الأمر الذي حير رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
وذلك عبر ردود الأفعال التي أجمعت على أن (وليد فواز) لفت الأنظار ببراعته كممثل يقدم الشخصية بكل تفاصيلها، ويعمل على توسيع مساحات اللعب بأدائها عبر جوانب مختلفة، منها النفسية والجسدية وصولا إلى طريقة الكلام وتقاسيم الوجوه، ومرورا بنظرات العيون التي كانت تتحدث عن الحالة التي تعيشها الشخصية.
غير أن الأعمال التي باتت تعرض له مؤخرا لم تعطه المساحة الكافية لاستعراض عضلاته الفنية، فهو فنان يملك قدرات هائلة على مستوى تكنيك الأداء ولغة الجسد المعبرة للغاية.
فمع دوره هنا في (صوت وصورة) يعود ليُثبت نفسه مؤكدا قدراته التمثيلية، جسّد فواز شخصية (عبد الغني) بكل خلجاته، نبرة الصوت، الحركة الثقيلة، وحتى الوزن الزائد.
تلك الشخصية التي قد تبدو سهلة لكنها في حقيقة الأمر معقدة، فهو شخص ظلمته الحياة، فبات مسالما إلى حد الضعف المثير للاشمئزاز، مما يجعل المشاهد تارة يحتقره وتارة يتعاطف معه.
وتأتي (نجلاء بدر) في المرتبة الثانية من حيث جودة الأداء، في أفضل أدوارها على الإطلاق، حيث لعبت شخصية مركبة لامرأة تخفي أكثر مما تظهر، وتضطر للتعامل بثبات انفعالي مع أولادها والمجتمع والقضاء.
وذلك رغم كل ما بداخلها من هشاشة وانكسار إثر فضائح زوجها المتتالية وتأكدها من خيانته لها، برعت في التعبير عن ذلك الوجع الذي تداريه بكل طاقتها لكنه يتسلل للمشاهد عبر نظراتها الزائغة ودموعها المعلقة ونبرات صوتها المرتجفة أحيانا.
(صدقي صخر) في (صوت وصورة)
أما (صدقي صخر)، الذي تتاح له للمرة الأولى مساحة درامية أكبر من المعتاد في (صوت وصورة)، فقد استطاع إثبات تمتعه بموهبة جيدة ستبرز أكثر مع اختياراته الإيجابية بعدما جذب الانتباه بمسلسل (ريفو).
بالإضافة إلى موهبته تمتع (صخر) بإطلالة ذات خفة وتلقائية جذابة، في خلط كوميدي تراجيدي ممتاز ظهرت ملامحه أكثر خلال العلاقة الثنائية التي جمعته بعمرو وهبة، الذي يلعب دور مساعده بالمسلسل.
المزاوجة هنا بين ذروة الشخصية وفهم المشاهد لعوالمها وسلوكها وردود أفعالها، عادة ما يكون مهمة السيناريو بالدرجة الأولى، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير (محمد سليمان عبد المالك)، وذلك بتحديد ذروات الحبكة الخاصة بشخصية (لطفي).
وسخر بقية المشاهد للتمهيد لهذه الذروات وتبريرها وتعزيز قوى الخصومة التي تجعل من تلك الذروات لحظة انفجار حقيقية بالنسبة للشخصية، ولحظة كشف عظمى بالنسبة للمشاهد.
و ربما يبدو من الصعب العثور على ما هو إيجابي في داخل (لطفي) وفق البناء الحكائي للمسلسل، إلا أن (صدقي صخر) أوجد الفكاهة في سلوك الشخصية ولغة جسدها، ولاسيما عبر عضلات وجهه النافرة.
وبالمناسبة كان (عمرو وهبة) هو الوجه الوحيد المبهج بين كافة الأحداث السوداوية الأخرى بالكوميديا الخفيفة التي قدمها بطريقة تلقائية تنم عن موهبة حقيقية، مما جعل الجمهور يطالب – ساخرا – بتعميم دوره بكافة المسلسلات الدرامية الثقيلة.
وبغض النظر عن الجودة الفنية والحبكة التي تزداد تشويقا، يحسب لـ (صوت وصورة) كونه الأول من نوعه بالدراما العربية الذي يستعرض فكرة الذكاء الاصطناعي.
وكيف يمكن استغلاله في قلب الحقائق أو حتى إشعال منصات التواصل بفيديوهات ملفقة يصعب تفريقها عن الحقيقية، ومن هنا سلط (صوت وصورة) الضوء على منصات التواصل التي يمكن لها أن تكون سلاحا ذا حدين.
تارة بمنح الضحايا الفرصة لمخاطبة الجمهور والكشف عن الظلم الذي وقع عليهم، وتارة أخرى بنشر أكاذيب مضللة، والأخطر استغلالها كل شيء وأي شيء لخلق ضجة وعمل إعلانات لتصدر محركات البحث حتى لو جاء ذلك على حساب القيم المجتمعية والإنسانية.
وعلى خلاف الدراما المعتادة مؤخرا التي تحاول الانتصار للمرأة طوال الخط، أشار صانعو العمل لأحد حقوق الآباء المهدرة، إذ شاهدنا المحامي (لطفي عبود/ صدقي صخر) الذي طلق زوجته، ويعاني من تعنتها في السماح له برؤية ابنه رغم إنفاقه على الطفل ومنحها كافة حقوقها.
يذكر أن (مؤسسة المرأة الجديدة) التي تدعم حقوق النساء في مصر، استغلت أحداث المسلسل لإعادة طرح أهمية وجود نص واضح وصريح ضمن قانون العمل للحماية من العنف والتحرشات الجنسية.
وهو ما أكدت المؤسسة أنه لن يتحقق على أرض الواقع إلا بتصديق مصر على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 190 والتوصية 206 الملحقة بها، كونها تقدم حلولا واقعية وحاسمة تفعل آليات ذات جدوى سواء للإبلاغ أو التحقيق بمسائل التحرش والإساءات.