بقلم الدكتور: مدحت الكاشف*
تحدثنا في المرة السابقة عن أن (الصورة التليفزيونية) فى عصرنا الحالى بشكل عام تلعب دورا مهما فى تشكيل ثقافة المشاهد ومزاجه ووعيه بما تتسم به من خصائص استطاعت أن تغير بشكل حاد فى وسائل الاتصال والتواصل بين البشر.
واليوم نستكمل على النحو التالي: فإن الشاشة – ذلك الحاجز المادي – هو الذي تتسم به (الصورة التليفزيونية) التي يتوقف تأثيرها على مدى اندماج المتلقي معها، وعندما يسعى كل من المسرح والتليفزيون إلى محاولة خلق صورة تبدو كما لو أنها امتداد للواقع أو جزء منه.
فإن ذلك يكون بدرجة أكبر في التليفزيون عن المسرح، حيث تكون الصورة في العرض المسرحي تصويراﹰ فنياﹰ مصطنعاً لهذا الواقع، بينما التليفزيون يحاول دوماً التظاهر بأنه ينقل الواقع.
كما هو في الوقت الذي يحاول فيه إخفاء الصنعة، مع العلم بأن التليفزيون – أغلب الأوقات – ينقل صوراﹰ منتمية لأزمنة وأمكنة مختلفة، إلى المتلقي في الحاضر الآني الذي يعيشه.
وبهذا تجاوزت (الصورة التليفزيونية) ما سعت إليه الصورة المسرحية في المحافظة على المساحة بين الواقع والفن، وأنه لابد من صياغة الواقع بطريقة إبداعية.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب: (المسرح) والذكاء الاصطناعي
وذلك عندما فرضت (الصورة التليفزيونية) على المتلقين أبعاداً أخرى لقراءة الصور بوصفها حقائق مسلم بها، ومع مرور الوقت حدثت بعض التطورات لقدرات الصورة في التأثير على المتلقي.
وتنوعت أساليب توظيفها في الميديا كوسائل للترفيه والترويج، ولم تعد خاضعة لمعايير الإبداع بقدر خضوعها لمعايير الإنتاج والسوق.
ففى عصر (الصورة التليفزيونية) إذن وجد الإنسان نفسه مضطراﹰ إلى التفكير عن طريق إستخدام الصور الحسية التى يراها أيسر في إستخدام إمكانياته الذهنية التى كان يرهقها من قبل فى قراءة المعانى والدلالات.
الأمر الذى بات يشكل خطراﹰ داهماﹰ على التفكير العقلى للجنس البشرى،حيث إستطاع التلقى المعرفى بالصورة أن يحل محل التأمل والخيال التصورى.
ولم يعد من الممكن نقل العلاقات الاجتماعية، وأيضاﹰ الأحاسيس والمشاعر الإنسانية على حقيقتها كما كان الأمر من قبل، بل بات يمكن اختزالها في مجموعة من الرموز التي أفرزها المجتمع بعاداته وتقاليده وأعرافه بل وعقائده.
عصر ثقافة (الصورة التلفزيونية)
وهو الأمر الذي جعل أحد أهم سمات عصرنا هو إنصهارنا داخل إطار ما يعرف بثقافة الصورة، أو بمعنى آخر باتت الصورة هى العنصر المهيمن فى علاقاتنا ومعارفنا وثقافتنا وخبراتنا،وحتى على إبداعاتنا .
إن التغيرات المتواترة في المجتمع، والتي جاءت نتيجة لثورة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات،قلبت العلاقات الثقافية السائدة في الحضارة الإنسانية المعاصرة لأنها أعلت من ثقافة الصورة على حساب ثقافة الكلمة.
الأمر الذي يجعل إعادة النظر في بعض المفاهيم ضرورة لطغيان (الصورة التلفزيونبة) في العصر الحديث، وإذا كان في الماضي يتم تصنيف الحضارة الإنسانية تأسيساﹰ على نظاميين أو نموذجيين معرفيين هما الشفاهية والكتابية.
فإننا نجد أن عصرنا الحديث قد أتى بنموذج ثالث إستطاع أن يتسمى باسمه وهو (عصر الصورة) حيث بات البشر يعيشون تحت وطأة مجموعة من الصور، فيمكن لصورة أن تغير وجهة نظر مجتمع في ثقافة ما نحو قضية معينة عند إستغلالها بطريقة أو بأخرى.
إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف: التكنولوجيا وجدلية الفنون!
و(تمتد كلمة صورة image بجذورها إلى الكلمة اليونانية القديمة أيقونة icon والتي تشير إلى التشابة والمحاكاة والتي ترجمت إلى imago في اللاتينية، image في الإنجليزية، وقد لعبت هذه الكلمة ودلالاتها دوراً مهماً في فلسفة أفلاطون.
وكذلك في تأسيس كثير من أنظمة التمثيل أو التمثل reperesentation للأفكار والنشاطات في الغرب، الأمر الذي دفع العديد من المفكرين والمنظرين المعاصرين.
ومنهم (رولان بارت) إلى القول بأننا نعيش حضارة الصورة، و(جي ديبور) الذي أكد في كتابه (مجتمع الفرجة) بأننا نعيش في مجتمع المشهد، حيث ترتبط القيمة والجودة بالرؤية ومظهر الشئ.
ومن هنا يمكن القول إن (الصورة التلفزيونية) هى بمثابة صناعة ثقافية تسهر عليها المؤسسات والأفراد والكيانات العلمية والاجتماعية، وحتى النظم السياسية.
ولنا مثال على ذلك في أفكار (إدوارد سعيد) التي تبلورت في كتابه (الاستشراق) حينما تناول بالتحليل رسم الثقافة الغربية ومؤسساتها العلمية صورة متخيلة عن الشرق لا تمت للواقع بصلة من أجل محاولة استيعابها وإدماجه داخل مركزيتها المعرفية.
ومما سبق نجد أن الاهتمام المتزايد للصورة ومحاولة قراءتها، يكشف عن أهمية الصورة في صناعة الثقافة السائدة وصناعتها للمعنى، وأن كل ثقافة تزداد قوتها وحضورها الآن بقدرتها على صناعة الصور وترويجها في وسائط عدة مثل وسائل الإعلام.
ومن هنا نجد أن الصورة المعاصرة إرتبطت بمعان ثقافية واقعية أو رمزية، ﹸيناط بها طرح أنماط حياتية جديدة وأسلوب مغاير للثقافة الشفاهية والكتابية، لا تؤطر في سياقات محددة ومقننة.
أدوات (الصورة التلفزيونية) ودلالاتها
بل أنها تدخل فيها العلوم الانسانية مثل الفلسفة والمنطق وعلم النفس وبالطبع علم الاجتماع وعلم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا)، والصورة بهذا المعنى هى (تمثيل وتشخيص لشئ أو لكائن ما).
وتختلف أدوات الصورة ودلالاتها من وسيط معرفي لآخر، فالصورة لها حضور أساسي في فن الرسم والنحت و التصوير الضوئي أو الفوتوغرافي.
وبينما نجد الصورة الفوتوغرافية هي محاكاة أو نسخة عن الواقع، فإننا نجدها في الرسم أو النحت هي محاولة لإعادة صناعة العالم للواقع بصورة إبداعية أو رمزية.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب: الثقافة .. والصناعات الإبداعية
وبالطبع لا تشذ (الصورة التلفزيونية) الدرامية بوصفها نشاطاً إبداعياﹰ رمزياً في إنتاج الواقع بصورة إبداعية لأنها تعتمد على نقل المعاني الثقافية التاريخ والجغرافيا بصورة وجدانية بواسطة سياق مثير للذة والمتعة.
وفي إطار علاقات اجتماعية متخيلة ذات صلة وثيقة بعالم المتفرج تدمج المتفرج في سياقها نتيجة عوامل الجذب التي يبنى عليها بنائها الدرامي مقابل الإقناع العقلي في بعض الأحيان.
ومن هنا تكمن خطورة الصورة الدرامية في تمرير بعض الرسائل الثقافية في سياقها الفني لأنها تنشأ في مناطق مشتركة ما بين الخبرات الموضوعية والخبرات الذاتية لمبدعيها ولمتفرجها.
وبالتالي فإن الصور الدرامية التي تنتجها المسلسلات التلفزيونية، تجعل منها لو استخدمنا مفاهيم (بيير بورديو) منظومة رمزية باعتبارها أدوات للمعرفة والتواصل.
أن تمارس السلطة وتفرض البنيات إلا لكونها تتحدد هي كذلك كبنيات، إن السلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع وهي تسعى لإقامة نظام معرفي.
ومن هنا يمكننا القول إن الصورة التلفزيونية في الأساس تنتمي لمنظومة رمزية وأن لغتها هي لغة فنية/ رمزية (قد تكون علامات مكتوبة أو علامات بصرية تنتجها الصور) غير بعيدة عن هذه التطورات المختلفة التي تحيط بالمجتمع والخطابات الثقافية التي تسبح فيه.
تنتجها أنظمة معرفية مختلفة من دين واجتماع وفلسفة وأيديولوجيا، وتدخل في تشكيلها الفني، مما يجعلها تدخل في كتابة الثقافة المعاصرة.
ولذا نجد أن اللغة الفنية تخضع لبعض الخطابات التي تحاول إنتاجها منها خطاب الجنس الفني وأدواته الإبداعية والخطاب المعرفي السائد الذي يتحكم في انتشار وتداول الخطابات ويكسبها شرعية الوجود.
* أستاذ بأكاديمية الفنون