* يأتي في مقدمة دراما الانتفاضة من حيث الجودة، مسلسل (الاجتياح) من إخراج المبدع التونسي شوقي الماجري
* جاءت (التغريبة الفلسطينية – عام 2004) للمخرج حاتم علي، والمؤلف وليد سيف بمثابة (أيقونة الدراما الفلسطينية) بلا منازع
* يأتي مسلسل (حارس القدس) واحد من الأعمال الفنية التي تحمل رسالة أو هدف في ظل الهابط والمتردي والأعلى صوتا المنتشر حاليا
كتب: محمد حبوشة
في الحلقة الأولى قلنا أن الدراما كانت الأنضح والأذكى، والأكثر تأثيرا في نفوس أهالي (فلسطين) والعرب، ولعلها كانت السبب وأشعلت الشرارة الأولى للانتفاضتين الأولى والثانية.
يأتي في مقدمة دراما الانتفاضة من حيث الجودة، مسلسل (الاجتياح) من إخراج المبدع التونسي شوقي الماجري، سيناريو وحوار رياض سيف، وبطولة (عباس النوري وصبا مبارك ومنذر رياحنة ونادرة عمران وحسين نخله وأنطوانيت نجيب وإياد نصار).
فضلا عن غيرهم من السوريين والفلسطينيين والأردنيين، وقد صور المسلسل معاناة الشعب الفلسطيني خلال اجتياح الضفة الغربية ومجزرة جنين سنة 2002 .
تدور أحداث العمل في فترة الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رام الله وحصار كنيسة المهد في بيت لحم ومدينة جنين ومخيمها، ويتجاوز العمل التناول النمطي والشعاراتي الصارخ والمستهلك ليقدم عملا زاخرا بالحياة والعاطفة، عبر تجسيد درامي للحياة اليومية للمواطن الفلسطيني.
سفر الحجارة) و(فلسطين)
ومن بعده يأتي (سفر الحجارة – 2009) من تأليف هاني السعدي وإخراج يوسف رزق، ويروي حال الفلسطينيين منذ 2001 حتى أحداث غزة 2009.
ويتخذ المسلسل عائلة (أبو محمود) محورا للقصة، حيث تتكون هذه العائلة من أم محمود زوجة الشهيد وأم لأربعة رجال، استشهد ابنها الأكبر وابنتها برصاص المحتل الإسرائيلي ضد (فلسطين).
فهي تمثل رمزاً للعزة والصمود والشموخ، والقصص التي تحدث مع أولادها وأبرزها قصة (خلدون) الذي يتم استغلاله لخدمة الموساد من دون أن يدري، والأخ الأكبر الذي يشكل جزء هام من حركة المقاومة الفلسطينية في القدس.
أيقونة الدراما (فلسطين)
ربما لم ينل مسلسلي (عائد إلى حيفا) ونظيره (عياش) فرصا جيدة في العرض، ولم يشفع لهما الموضوع والإخراج والأداء الجيد لفريق عمليهما، رغم إعادتهما أكثر من مرة على عدد محدود من الفضائيات.
لكن جاءت (التغريبة الفلسطينية – عام 2004) للمخرج حاتم علي، والمؤلف وليد سيف، بمثابة أيقونة دراما (فلسطين) بلا منازع، وعلى الرغم من أن المؤلف ذاته كان قد سبق له أن قدم عملا مشابها مع المخرج الأردني صلاح أبو هنود بعنوان (الدرب الطويل) ولم يحقق نجاحا يذكر.
إلا أن (التغريبة الفسطينية) امتلكت خصوصية في عرضها الشيق لتجربة النكبة، وتجربة الاقتلاع واللجوء، فضلا عن كونه قد رسم صورة شاملة وبواقعية للنضال الفسلطيني المنسى، تبدأ من أعمال المقاومة المبكرة في (فلسطين) وينتهي إلى المصائر التي آل إليها الفلسطينيون في الشتات.
إقرأ أيضا : حارس القدس وحراس الدراما السورية
وتبدو دهشة (التغريبة الفلسطينية) الإبداعية في قدرته على نقل حياة الفلسطينيين في بيئاتهم المختلفة بأمانة، وبعمل جسور على أدق التفاصيل، إلى جانب ذكاء خطاب المؤلف والمخرج بلغة امتلكت القدرة على أنسنة الفلسطيني.
وفي نقديته لمشكلات هذا المجتمع الذي ظل يقدم بصورة ذهنية ومعمقة على الشاشة، ولنتأمل مليا المشاهد الأولى لحاتم على في (التغريبة)، فبعزف شجي حزين على إيقاع (القانون).
وفي شموخ يرقد الجسد المسجى بعد طوال عذاب، إنه (أحمد أبو صالح الشيخ يونس)، والذي يجسد دوره الفنان الكبير (جمال سليمان) في ارتجال مذهل.
وبعد أن سلم الروح لبارئها، يدخل الأخ الأصغر (على) وقام بدوره (تيم حسن) في واحدة من أعماله الدرامية الناضجة – على صغر سنه آنذاك – ، كان حضر لتوه من عمان التي استقر بها بعد جسد الحلم الكبير للعائلة بحصوله على الدكتوراه من أمريكا.
العمود الفقري لعائلات (فلسطين)
يدخل في مشهد يعد الـ (ماستر سين) للمسلسل، ليجتر الذكريات التي عاشها في كنف أخيه الأكبر (أبو صالح) الذي كان يمثل العمود الفقري للعائلة الريفية الفلسطينية الفقيرة.
فقد ارتاح المناضل الأسطوري لتوه بعد أن ذاق مرارات الغربة والتهجير كل سني عمره ، وعايش الانكسارات والهزائم الكبرى التي سبقت النكبة وما بعدها دون وصول إلى أفق قريب للعودة.
لقد عمد المخرج ومن اللحظة الأولى إلى تثبيت مشاهد الريف الضائع في الذاكرة التي لم تغاردها حتى الآن، وقد نجح بالفعل في إزاحة اللثام عن تلك السير الحية من البطولات المنسية.
والتي روت بدمائها الطاهرة الذكية أرض (فلسطين) في بواكير الزحف الصهيوني، في أعقاب (وعد بلفو) اللعين وهبوب الرياح العدائية لـ (الهجاناة) بأفعالهم المشينة التي استهدفت الأرض والناس حتى وقوع النكبة التي انفرط العقد الفلسطيني على أثرها بهزيمة وتراجع الجيوش العربية.
يقف الأخ الأصغر (على) أمام جثمان (أبو صالح) بشاربه الأبيض الكث والشال الأبيض الذي يعكس نورانية تلك اللحظة، وفي تلخيص غير مخل يسرد جوانب المأساة محدثا نفسه بمرارة:
الأب الروحي لنضال فلاحي (فسلطين)
(أبو صالح، يا خوي أبو صالح.. أنا على.. أخوك.. أخوك وإبنك ، هسه بدي أقولك إشي: أنا لولاك ما صرت إشي، ياحبيبي يابو صالح، ياحبيبي ياخوي). ثم يستعرض بصوته تاريخ الأب الروحي لنضال فلاحي (فسلطين)، وبأسلوب الرواي يقول في آسى موجع: (رحل الرجل الكبير، وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخي أحمد (أبو صالح) لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات.
ولم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر رواة المسنيين، أولئك الذي عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبئ الذاكرة ؟.
ومن يكتب سيرة من لاسير لهم في بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس، وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لاتدل عليهم.
إقرأ أيضا : (طوفان الأقصى) يتجسد في ألبوم (يا قدس يا حبيبتي) تحية لشعب (فلسطين)
وللحقيقة فإن كاميرا (حاتم على) مخرج العمل حلقت ببراعته المعهودة لتغوص بليونة خاطفة تحت جلد القضية.
وفي عمق هذا الجرح الغائر يفور الدم الفسطيني فواحا برائحة المسك والعنبر، مخلوطا بطعم المجد والخلود الأبدي لأولئك الذي فنوا في سبيل القضية التي ماتزال تشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالي.
نسرين طافش.. رمز (فلسطين)
وكأنها تعيد من عام إلى عام ووصولا للانتفاضة الثالثة التي تدق أبواب التارخ الآن (أسطورة سيزيف) ليعاود الكرة من جديد دون جدوى الصعود الهبوط.
ارتعاشات الرعب ومرارة اللحظات المأساوية التي اعترت مجمل القضية تجلت في أداء بارع لكل من: باسل خياط (حسن)، خالد تاجا (أبو أحمد)، جوليت عواد (أم أحمد)، يارا صبري (فتحية)، نادين سلامة (خضرة)، قيس الشيخ نجيب (صلاح)، مكسيم خليل (أكرم السويدي)، سليم صبري (أبو اكرم السويدي)، حسن عويتي (أبو عايد.
فضلا عن أداء استثنائي لحورية الدراما العربية نسرين طافش بدور(جميلة) والتي عبرت فيه بصوت شجي عن تلك الأنثى المسكونة بالعفة والعفاف، على رقة حالها وغلبتها على أمرها، مقهورة بتخلف عشيرتها.
وبمزاج من عفوية وتلقائية الموهبة التي تفوق سنها وخبرتها – آنذاك – كممثلة شابة استطاعت في ثلاثة حلقات فقط أن تبكينا بكاءا حارا يدمي القلوب على تلك الفتاة، رمز فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، ناهيك عن عذوبة أداء حاتم على نفسه في دور (رشدي).
حارس القدس في خدمة (فلسطين)
ويأتي مسلسل (حارس القدس) واحد من الأعمال الفنية التي تحمل رسالة أو هدف في ظل الهابط والمتردي والأعلى صوتا المنتشرحاليا ، خاصة في السنوات الأخيرة، من تأليف المبدع (حسن .م. يوسف) إخراج المتميز (باسل الخطيب)
وبطولة عميد الدراما السورية (رشيد عساف) ومعه كوكبة من النجوم المتميزين، وجاء هذا العمل كأبلغ رسالة لكارهي الفن، أن الفن حلال وجميل جدا، وأن الوعي بالفن وأهميته له دوره الفعال في تهذيب مشاعر الإنسان وأحاسيسه.
يتناول (حارس القدس) سيرة حياة (المطران ايلاريون كابوتشي) أو(كبوجي) الذي عرف بمواقفه الوطنية المعارضة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وعمل سراً على دعم المقاومة.
ومعروف أنه قد اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1974 أثناء محاولته تهريب أسلحة للمقاومة، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاما، أفرج عنه بعد 4 سنوات بوساطة من الفاتيكان، وأبعد عن فلسطين عام 1978، وأمضى حياته بعد ذلك في المنفى في روما حتى وفاته.
إقرأ أيضا : تحفة الدراما السورية “حارس القدس” .. الفن في خدمة الدين
وقد اتسم السيناريو برحابة الأفق، وعمق الفهم، ولم يسقط فى هوة شوفينية عنصرية عقيمة، بل قدم نماذج شديدة الإنسانية والصدق، على جانبي الحلقات.
مثل شخصية (أم عطا) السيدة الفلسطينة البسيطة التى احتضنت المطران عند قدومه للتعليم فى القدس، وساندته، والتى أبكتنا جميعا برحيلها، وأيضا شخصية (مريم) المسيحية، التى أحبت شابا مسلما وأرادت الزواج منه، وتراجعت في اللحظات الأخيرة وندرت نفسها للرب وخدمة الدير، وأيضا علاقته برفيق الطفولة (برو) العاطل عن العمل.
وقد حفل المسلسل بمباراة رائعة في الأداء، خاصة العملاق (رشيد عساف) الذي جسد شخصية (المطران كبوجي) فوعاها ودرس خصائصها وعبر عنها فى إيجاز واقتصاد وبلاغة وحنكة.
بحركة يد أونظرة عين، بمشية دقيقة، محسوبة ونبرات صوت مترعة بالثقة والحكمة والصبر والجلد، لدرجة أنك تشعر أن (المطران كبوجي) عاد إلى الحياة ليقوم بنفسه ببطولة هذا المسلسل الذي يحكي قصة حياته. وأصبح (المطران كبوجي) هو (رشيد عساف)، و(رشيد عساف) هو (كبوجي).
النصيب الأكبر في دراما (فلسطين)
وللإنصاف فإن الدراما السورية كان لها النصيب الأكبر في التعبير بصدق وواقعية للرواية المعقدة للألم الفلسطيني، ربما بحكم أنه كان عناك ما يقرب من 600 ألف لاجئ فلسطيني.
وعلى رغم توزعهم على عدد من المخيمات في المحافظات السورية، فإنهم قد حققوا قدراً كبيرا من الاندماج في المجتمع السوري من دون أن يتخلوا عن هويتهم الوطنية.
لذا أسهم هؤلاء فيه منذ وقت مبكر، ابتداء من ممثلين رواد كالراحل (يعقوب أبو غزالة ولينا باتع)، مرورا بالراحلين (يوسف حنا وصبحي سليمان)، إضافةً إلى (بسام لطفي وتيسير إدريس ونزار أبو حجر) وصولا إلى جيل الشباب.
ومنهم نجوم أكفاء مثل (عبد المنعم عمايري، جومانة مراد، نسرين طافش، نادين سلامة، إياس أبو غزالة، أناهيد فياض، ديمة بياعة)، وفي الإخراج برع كل من: (المخرج والممثل الكبير حسن عويتي، باسل الخطيب، بسام سعد، المثنى صبح).
إضافة إلى أن المخرج المتميز (حاتم علي) المنحدر من الجولان حيث نشأ في مخيم للاجئين، لذلك لم تكن حساسيته غريبة عن التراجيديا الفلسطينية في رصد جوانب كثيرة من المأساة الكبرى.
وعلى مستوى الكتابة الدرامية هناك وفرة في الأسماء الفلسطينية اللامعة، مثل (أمل حنا وريم حنا، حسن سامي يوسف، هاني السعدي رائد دراما الفنتازيا، وأكرم شريم) والأخير كتب أول الأعمال التي صورت البيئة الدمشقية (أيام شامية – 1992) مع المخرج بسام الملا.
وصولا إلى (عبد المجيد حيدر)، الذي قدم عددا من الأعمال المهمة، وهو كان يعكف على تحضير عمل درامي عن ياسر عرفات، لكن رحيله عام 2022 حال دون ذلك.