(القدس).. جرح غائر في خاصرة الإبداع الفني العربي !
كتب: محمد حبوشة
(القدس) في البال.. هذا كل ما بقي في ذاكرتنا العربية المهترئة نحو زهرة المدائن، بهية المساكن، المكللة بالغار وزهر الليمون، تلك التي تذروها رياح الحقد والغضب الأعمى، فقط من خلال بعض الأعمال الفنية (غناء، سينما، مسرح).
وبعدما وقع المحظور، وعلى أثره اختلط الدم العربي بطعم برتقال يافا وزهور حيفا الموسمية، وغيرها من أشجار الفواكه المثمرة والحمضيات واللوزيات والعنب، ظلت القضية تراوح مكانها يوما بعد يوم حتى كادت تفارق صفحات التاريخ إلا من بعض الأعمال الفنية!
بينما تقف شجيرات الزيتون العتيقة في شموخ اضطراري كشاهد حي على فعل الأبلاسة من أبناء صهيون في (رام الله، الخليل، أريحا، بيت لحم، نابلس، الأغوار، وغيرها) من أماكن تشهد على الصمود في ربوع فلسطين السليبة أمام عجز العرب والمسلمين.
هوت مدينة الصلاة، رغم كل ما ركعنا وسجدنا من أجلها، وكثيرا ما ارتفعت أكفنا بالدعاء وأوقدنا شموع الغضب المكتوم، وظللنا نغني لها أناشيد الحزن، بينما العيون ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد.
وعلى رأسها (المسجد الأقصى) بشموخه الأبدي المستمد من جلال ليلة الإسراء، درب من مروا إلى السماء، وما نزال نحن أبناء الديانات مكتوفي الأيدي، عاجزين عن فعل أي شيئ، في وقت تدوس فيه أحذية بني صهيون – في تحد سافر – كافة مقدساتنا.
إقرأ أيضا : محمد شمروخ يكتب: ماذا قلنا عن (فلسطين)؟.. بين السينما والتعليم والإعلام!
اكتفينا فقط بجلد الذات مع مطلع كل نهار عفي مخضب بصباحات ندية مصحوبة بمشاهد سوداوية، مرددين نفس موال الحزن والأسى بحناجر بعض المطربين على اختلاف ألوانهم وبلدانهم العربية المختلفة.
لأجل من تشردوا، لأجل أطفال بلا منازل، لأجل من دافع واستشهد في المداخل، لكن دون جدوى، فقد استشهد السلام في وطن السلام، وسقط العدل على المداخل، بعدما هوت مدينة القدس، وتراجع الحب، وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب، هكذا تغنت (فيروز) باكية حزينة على ماضاع، وبقيت القدس جرحا غائرا في خاصرة العروبة البالية.
(طوفان الأقصى).. لحظة فاصلة
وها نحن الآن في لحظة فاصلة من عمر الزمن نقف على قمة تلال الخذلان والضياع، في ظل عملية (طوفان القدس)، وبما تبقى من نخوة عربية يعترينا شموخ زائف مكلل بالعار جراء انتهاكات العدو، وهو ما يحتاج منا مئات الأفلام والمسلسلات التي توثق لهذا الحدث الجلل.
وذلك في ظل ما يقصفه في غزة عبرعمليته القذرة (السيوف الحديدة)، ويضرب حصاره الرهيب بمزيد يومي من الأسلاك الشائكة التي تمتد بطول وعرض عالمنا العربي على صخرة الانقسامات الحادة وبلادته المعهودة تجاه أهم قضاياه المصيرية.
ربما يعلق العدو الصهيوني كل أسباب الفشل على شماعة (أوسلو1و2) والرباعية الدولية تارة، ومجلس الأمن والجمعية العامة تارات أخرى، بينما نحن نكتفي يوما تلو الآخر بمبادرات هزيلة لا تغني ولا تسمن من جوع، فكلها مبادرات لم تعد تجدي في ظل الوضع الراهن.
وبعدما اكتظت أروقة المنظمة الأممية بالملفات الساخنة حول (حق العودة) التي كثيرا ما تغنى بها شعراء الأرض المحتلة والعرب جميعا على اختلاف أجيالهم، وعلى رأسهم (إبراهيم طوقان) في نشيده الأبدي (موطنى) الذي تغنى فيه بالجمال والسناء والبهاء في ربى فلسطين، مع كل السائرين على (جسرعودة هارون هاشم رشيد).
إقرأ أيضا : تحفة الدراما السورية “حارس القدس” .. الفن في خدمة الدين
ومع ذلك فلا بقيت الحـياة ولا النجاة والهـناء والرجاء في هواه، ولم يعد كما في خيال (طوقان) سالما منعما غانما مكرما في علاه، وبعد أن توارى حلم الاستقلال لكل الشباب أصبح الذل المؤبد والعيش المنكد يحل محل مجدنا التليد، تعلوه الراية البيضاء بخطين أزرقين، مرصعة بنجمة داود وهى ترفرف في علا موطننا المحاصر.
ومنذ أكثر من 75 عاما من الزمان تقف تلك الراية حائلا بيننا وبين حلم العودة المفقود – تحت غطاء مسموم من فتاوى الحاخامات – نحو المزيد من التهام الأرض والعبث بالتراث والهوية الفلسطينية، بينما يلهث البعض منا نحو التطبيع مع الصهاينة الذين يعدون العدو الأول للعرب والمسلمين.
ومن عام إلى عام نغفو ونصحو على كارثة جديدة تدور في فلك ترهات بناء الهيكل المزعوم، وعادة ما يبارك ذلك الزحف العنصري قطيع الغربان الأمريكية والأوروبية التي تعزف في انتظام سيمفونية الخراب الكوني مستغلة لحظات الضعف والهوان العربي في ضرب غزة والضفة وغيرهما من مدن وبلدات فلسطينية.
القصة طويلة، والمأساة كما جسدتها الآداب والفنون على اختلاف ألوانها ومشاربها تشير إلى دراما واقعية سوداوية، ننتقي بعضا من فصولها التي تمتد لأكثر من قرن من الزمان، بدءاً بالثورة العربية (1915) ومرورا بالنكبة (1948)، والنكسة (1967)، والانتفاضة الأولى (1987)، والانتفاضة الثانية (2000).
ووصولا إلى الانتفاضة الثالثة حيث تصاعدت أعمال اقتحام الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين للمسجد الأقصى في سبتمبر 2015، بعدما امتدت التداعيات المؤلمة إلى كافة المدن الفلسطينية المحتلة، حتى أطلق عليها مجازا (انتفاضة السكاكين) بحسب الأحداث التي وقعت في غزة وغيرها من مناطق في الضفة والقطاع.
(القدس) ما قبل الكلام:
وقبل الكلام عن الأعمال الغنائية والسينمائية والتلفزيونية التي تناولت (القدس) والقضية الفلسطينية، لابد لنا من توطئة تاريخية نقول فيها: داعبت القضية الفلسطينية برمتها والقدس على وجه الخصوص مخيلة الأدباء والشعراء وفناني الغناء والسينما والدراما طوال قرن من الزمان جراء خصوصية المكان، وقداسة ورمزية المدينة العتيقة عند كل أصحاب الديانات على وجه السواء.
ففي دراسة له بعنوان (القدس في مدوّنة الشعر العربي الحديث) يقول الشاعر والناقد الأكاديمي السوري الدكتور خليل موسى: القدس من أقدم المدن التي عرفها التاريخ.
وهي مدينة مقدّسة عند أصحاب الديانات السماوية من جهة، وبوَّابة واسعة للقارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا من جهة أخرى، ومن هنا استرعت اهتمام الغزاة والفاتحين.
فتعرّضت في تاريخها الطويل إلى ما لم تتعرض له أي مدينة أخرى على بقاع المعمورة، نظرا إلى موقعها الجغرافي ومكانتها عند الأمم، وهي مدينة (يبوسية كنعانية)، واليبوسيون بطن من بطون العرب الأوائل ينتمون إلى القبائل الكنعانية التي نزحت من الجزيرة العربية.
إقرأ أيضا : حارس القدس وحراس الدراما السورية
والأرجح أن (ملكي صادق) أحد ملوك اليبوسيين هو أول من خطّط لها وبناها، وكان ذلك نحو 3000 قبل الميلاد، وسميت حينذاك بـ (يبوس)، ثم تعاقبت عليها الأمم من فراعنة وإسرائيليين وآشوريين وفرس ويونان ورومان إلى أن جاء عصر السيد المسيح.
فبدأ بنشر رسالته التي تختلف في مضمونها إلى حد التناقض عن رسالة الإسرائيليين، وهى تقوم على المحبة والتسامح ونشر العدالة بين الأمم، وشتان ما بين الرسالتين: رسالة البغضاء والتفرقة والدماء ورسالة المحبة والتسامح.
وكان غضبه منصبا على رؤساء الكهنة منهم، وقد وصفهم بأبناء الأفاعي والذئاب الكاسرة، وهو وصف ينطبق عليهم تمام الانطباق، وكان يدرك أنَّهم يطلبون حياته، فنصبوا له الشراك في دروبه كلها، وأرادوا الإيقاع بينه وبين السلطة الرومانية الحاكمة.
(القدس) في عهد عمر
وأخيرا تمكنوا من ذلك في عهد (بيلاطس) وصلبوه، وهكذا إلى أن جاء الفتح الإسلامي أو استعادة القدس وتحريرها عربيّاً في زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة 15هـ – 636م، ثم بني المسجد الأقصى سنة 74هـ – 693 م في عصر عبد الملك بن مروان.
مرت بالقدس أحداث جسام وتعرضت للغزو غير مرة وصمدت في وجه الجحافل من صليبيين ومغول وسواهما، ولكن ما تعرضت له في العصر الحديث.
كان فوق ذلك نتيجة لتآمر الغرب الاستعماري على العرب – هذا مانشهده حاليا من مواقف (أمريكا، والغرب الأوروبي) تجاه (طوفان القدس) – وخوفه من الوحدة الكبرى التي تعيد لهذا الشعب الممزق عصر الفتوحات والبطولات من جهة.
وللخلاص من فئة تبحث عن وطن قومي لها رأى الغرب من الصعوبة بمكان أن تعيش من دون أذى بين شعوبه من جهة ثانية، وهى تمثل عنصر الشر وتبث سمومها وأحقادها في مجتمعاته وتنخرها من الداخل.
فوجد فيها فائدتين: التخلص منها وإلحاق أضرارها بالمجتمع العربي الذي يمثل المارد النائم الذي إذا استيقظ قد يمثل خطراً عليه، فكان (وعد بلفور) المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني لسنة 1917.
واستغلت العصابات الصهيونية هذا الوعد، وعملت على تحقيقه في ظل الاحتلال البريطاني الذي تكفل بإنشاء الوطن القومي لليهود وعمل على تضييق الخناق على العرب في المدينة المقدسة بوضع قوانين صارمة على البناء في القدس الشرقية.
ثم عمل على تحويل المدينة إلى عاصمة للدولة اليهودية، وسعت الوكالات الصهيونية إلى قلب الميزان الديمغرافي في القدس لمصلحة اليهود، وهكذا إلى أن أصبحوا أغلبية في المدينة.
ولما انسحب البريطانيون من فلسطين كانوا قد هيؤوا لهم فرص الانتصار على العرب، فقامت العصابات الصهيونية بالمذابح الجماعية، ولا سيما مذبحة (دير ياسين) التي كانت نقطة التحول، وقد قال عنها مناحيم بيجن: (لولا النصر الذي حققناه في – دير ياسين – لما كانت هناك دولة إسرائيل).
ثم بدأت محاولات تنفيذ المخططات الصهيونية الخاصة بمدينة القدس لما لها من مكانة كبيرة في الديانات السماوية الثلاث، وأولها تأهيلها لتكون عاصمة للدولة بدلاً من تل أبيب.
القدس والهوية اليهودية
ولذلك كان من الضروري تغيير ملامحها العربية وإبراز الهوية اليهودية بالقوة وترسيخ الادعاءات الباطلة، وساروا في تنفيذ مخططاتهم في خطّين متزامنين: ضمّ القدس إلى الكيان الصهيوني، وتهويدها.
وهذا ما حدث للقدس الغربية في عام 1948، ثم احتل الصهاينة القدس الشرقية، واستطاع (مناحيم بيجن) اقتحام المدينة القديمة في صبيحة السابع من يونيو1967.
ودخلها (دايان) ليعلن أمام حائط المبكى: (لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، عدنا ولن نبارحها أبدا)، وواضح من هذه العبارات أن الصراع الحقيقي في المنطقة سيكون بعد احتلال المدينة احتلالاً كاملا.
لأن طرفا من الطرفين جاء ليبقى ويهيمن ويفرض إرادته على العرب والعالم، وهو لن يتنازل عن أيّ شبر من هذه المدينة التي استولى عليها، ومنذ ذلك الوقت عملت الجرافات الإسرائيلية على تغيير ملامح المدينة جغرافياً وديمغرافيّاً، وهي تسعى إلى التهويد الكامل وتصفية المؤسسات العربية.
إن مشكلة القدس مختلفة عن مشكلة أي مدينة أخرى في العالم، وهى معقدة الخيوط، فعلى الرغم من صغرها نسبيا بين المدن الكبيرة في العالم غير أنها تعج بالأماكن المقدّسة عند أصحاب الديانات الثلاث.
ولهذه الأماكن ذاكرة تاريخية تزيدها قداسة، ككنيسة القيامة والمسجد الأقصى وسواهما، ومن هنا يتوقع المرء أن يطول زمن الصراع على هذه المدينة، وأن جميع الحلول التي تقترحها هذه الجهة أو تلك ستظل حلولا مؤقتة وموضعية.
فالصهاينة لن يتنازلوا عن شبر واحد فيها، وقد حزموا أمرهم على ذلك، والعرب مسلمون ومسيحيون لن يتنازلوا عن منازل الآباء والأجداد من جهة، ولن يسكتوا عما يُصيب مقدساتهم ومعتقداتهم في هذه المدينة من جهة أخرى.
في الحلقة القادمة: فلسطين جمعت حناجر كل المطربين العرب