كتب: محمد حبوشة
ونحن نحتفل بالذكرى الخمسين لانتصار أكتوبر المجيد، خرج علينا فيلم (جولدا)، الذي يعرض السيرة الذاتية لرئيسة وزراء الكيان الصهيوني، ويركز على أيام حرب أكتوبر فقط، في محاولة لتزييف الحقائق الدامغة حول حقيقة انتصار الجيش المصري في المعركة التي حسمت في 6 ساعات.
وعن طريق مؤلفه الكاتب البريطاني (نيكولاس مارتن)، يحاول أن يعرض وجهة نظر محايدة لكونه بريطانيا وليس يهوديا، ولكنه وقع فى كثير من الأخطاء والتى ستصل لكثيرين على أنها حقيقة مع أنها مخالفة للواقع وكل الحقائق،
ولأنه فيلم (جولدا) من إخراج الإسرائيلي (جاي ناتيف) فقد طرح أفكار خبيثة، وكأن انتصارنا لم يبح بكل ذخائره العظيمة المجيدة، فلقد بدأت أحداث الفيلم وهى في لحظة انكسار، وهى في طريقها إلى المثول للتحقيق أمام لجنة أجرانات.
تلك اللجنة التى جرى تكوينها في 21 نوفمبر 1973 – بحسب أحداث فيلم (جولدا) – للتحقيق في القصور الذي تصرف به الجيش الإسرائيلي خلال الأيام الثلاثة الأولى من حرب أكتوبر1973 برئاسة (شمعون أجرانات) والذى تم الإفراج عن كامل التقرير الذى دونته لكل المسؤولين عن هزيمتهم الساحقة عام 1973.
ومن الحقائق المزيفة إن صناع فيلم (جولدا) جاؤوا باسم (أشرف مروان) على أنه رجلهم في القاهرة والذي أبلغهم بميعاد الحرب، ليدلل على أنهم وصلوا إلى صهر عبد الناصر وأقرب المقربين إلى السادات، وهذا على خلاف الحقيقة باعتراف كثير من قادتهم أن مروان قد خدعهم.
وأنهم من خلال استخباراتهم وطيرانهم تم تصوير الحشود العسكرية، ولكنهم لم يرفعوا درجة استعدادهم للدرجة القصوى، والسبب كانت خطة الخداع الاستراتيجى التي مارستها القيادة المصرية ضدهم مرارا، وكلفتهم التعبئة العامة الكثير من الأموال بدون أن يكون هناك حرب.
إقرأ أيضا : (حزنهم يوم فرحنا)
لقد كانت خطة الخداع التي أهملها فيلم (جولدا) لها دور محوري كبير في ترجيح كفة مصر في الحرب، رغم تفوق جهازهم الاستخباراتى لكنهم وقعوا في الفخ، بعد أن أعلن السادات عن زيارته يوم 8 أكتوبر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وتسريح جزء من الجيش، ورحلات العمرة للضباط والجنود، وترحيل الخبراء السوفيت السريع، وغيرها من الأمور التى جعلت الإسرائيليين يصدقون أن مصر عاجزة عن الحرب، واإن حاربوا كما قال ديان سنمزق أطرافهم.
كذلك نقطة أخرى جعلتهم يقعون في فخ وقعنا فيه نحن فى 1967، من سيبدأ المعركة وأن قرار مجلس الأمن رقم 242 لم تحترمه إسرائيل، لكنها تعهدت مع نيكسون الرئيس الأمريكى بعدم بدء القتال.
وقالت (جولدا) في الفيلم الذي زيف كثير من الحقائق: بكل ثقة بأنهم في حالة تلقيهم الضربة الأولى ستكون أسهل عليهم، ولأنهم لايريدون انتهاك قرار وقف اطلاق النار، وسيكسبون ثقة الأمريكان بأن يظهروا بمظهر الضحية، مع أنهم مغتصبون أرض ليست من حقهم بعد استيلائهم على شبة جزيرة سيناء والجولان السورية.
(جولدا) وهول الصدمة
وفى لحظة شق السماء الطيران المصري 220 طائرة تضرب أهدافها بدقة – على حد أحداث فيلم (جولدا) – ووسط نيران المدفعية، وعبور القناة، وتحطيم خط بارليف بكل تحصيناته، ورفع العلم المصري على الضفة الشرقية.
لم تصدق (جولدا) ولا الإسرائيليين ولم يفوقوا من هول الصدمة، فاتصلت بهنرى كيسنجر لتقول له إن مصر هى المعتدية مع أن هذا مخالف للحقيقة والفيلم يدعى ذلك، فمصر تريد استعاده أرضها ولم ولن تكون أبدا دولة معتدية.
قالت (جولدا) كما سارت أحداث الفيلم لكيسنجر: سنقاتل حتى يعبر آخر جندي القناة، وهذا يدل على عدوانيتها وأفعالها البغيضة التي قامت بها فى بحر البقر أو حتى داخل إسرائيل.
هذا فضلا عن عدائها الشديد للعرب عموما، لكن لا ينكر أنها سياسية كبيرة، فهي المرأة الحديدة كما كانوا يطلقون عليها وأم اليهود، ولها تاريخ طويل مع (بن جوريون وألفى أشكول) في تأسيس إسرائيل.
لكن أغرب ما فى الفيلم أيضا هو إظهار مرضها وشقائها فى فترات كثيرة من الأحداث، وهو ما يسجل براعة البطلة، وأنها رغم هذا المرض اللعين تجاهد نفسها وتتماسك من أجل الدفاع عن حلم كل الإسرائليين، مع أنها معتدية ومغتصة ماهو ليس لها وهذا ما أراد المؤلف أن يوضحه على خلاف الحقيقة لتكسب التعاطف.
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب : فيلم عربي .. حيلة إسرائيلية مكشوفة
أوضح فيلم (جولدا) قلقها الدائم من الروس مع أنها مواليد أوكرانيا – وقت أن كانت تابعة للاتحاد السوفيتي – وعلاقتها بالأمريكان فى وقت كان (نيكسون) تحت ضغط فضيحة وترجيت، إلا أن (هنري كيسنجر) نقل لها وقوفه بجانبهم.
ولعل مقوله (كيسنجر) لها أنه فى المقام الأول أمريكى وثانيا أنه يهودى يدل على دوره الكبير فى مساعدة اليهود حتى اكتشاف الثغرة، وموقفة من أن السادات قبل وقف إطلاق النار وأن أمامها 18 ساعة لإعلانه عند عودته إلى واشنطن أعطاها الضوء الأخضر لانتهاك القرار حتى يتم إعلانه، وقالت يجب إمساك السادات من عنقه.
نعم لقد كانت الثغرة خطأ جسيما من جانبنا، وتحريك اللواء المدرع الموجود بالقاهرة إلى ساحة المعركة كان خطأ آخر لا محل لمناقشته الآن.
لكن أثناء مباحثات الكيلو 101 نقل الجانب الإسرائيلى إلى جولدا تحيات الرئيس السادات، بقوله رئيسة وزراء إسرائيل وهنا ابتهجت جولدا فقد اعترف السادات بدولة إسرائيل هذا ما وصل إليها، ومعنى ذلك أنها تقبل التفاوض.
وذهب السادات إلى عقر دارهم في الكنيست وقال خطبته المشهورة، حتى وصلنا إلى اتفاقية كامب ديفيد وعادت أراضينا بكاملها لنا.
(جولدا) تحاول نيل التعاطف
مؤلف فيلم (جولدا) ركز في سياق الأحداث على مرض السيدة العجوز لتنال العطف، وأخطأ على إظهار مصر بأنها دولة معتدية، وأن مروان كان جاسوسا لإسرائيل، وعرضه مشهد الجثث أكثر من مرة لدلالته على السادية والعنف من جانب المصريين وهذا غير صحيح.
كما قلل من حجم المساعدات الأمريكية لهم مع أن الأمريكان قاموا بعمل جسر جوي لتقديم المساعدة وليس كما تقول جولدا هم الأمريكان مش عايزنا ننهزم، بس عايزنا ننتصر بأنف مكسور، ولكنه صدق في أننا كبدناهم هزيمة قاصية، فتحية لكل شهدائنا الأبرار.
حاول فيلم (جولدا) حاول استغلال موضوع حرب أكتوبر في الترويج لصورة متوازنة للأيدلوجية البعيدة عن التطرف ظاهريا، لكنها بها كل العناصر (المتطرفة)، وبها رغبة في تأصيل شخصيات بعينها.
ومنها شخصية (جولدا مائير)، رئيس وزراء إسرائيل السابقة، واللعب على وتر محاكمة الذات، والتأكيد على فكرة إسرائيلية مفادها (أننا وحدن ولا يساعدنا أحد) وفكرة (الكرامة) المتضخمة لدى الجانب الإسرائيلي.
وهو ما تجلي واضحا بجملة تقولها شخصية (جولدا) ضمن الفيلم: (هم الأمريكان مش عايزنا ننهزم، بس عايزنا ننتصر بأنف مكسور)، وهى فكرة كسر الأنف أو ذلة وهزيمة كرامته، والتي تعتبر الأنف المعقوف علامة أو رمز لدى اليهود في الثقافة العالمية.
إقرأ أيضا : إسرائيل تحاول السيطرة على محتوى منصة (نيتفلكس)!
يحمل فيلم (جولدا) الذي تلعب بطولته البريطانية (هيلين ميرين) بعض المشاهد الحقيقية التي تبرز خلالها حرب أكتوبر والانتصار المصري وسط صدمة الإسرائيليين ضمن تناوله للسيرة الذاتية لرئيس وزراء إسرائيل، وتلقيبها بالمرأة الحديدية في المجتمع اليهودي.
وكذلك القرارات التي اتخذتها خلال حرب أكتوبر، وحملت بعض مشاهده اعترافا من الإسرائيليين في انخداعهم بقوتهم وغطرستهم، وكيف فاجأهم الجيش المصري بالحرب والانتصار، إلى جانب عرض لمشاهد تبادل الأسرى واستلام رفات الجنود الإسرائيليين.
(جولدا) تتجاهل احتلال سيناء
سيناريو فيلم (جولدا) يتجاهل تماما احتلال (الكيان الصهيوني) لسيناء المصرية، والجرائم التي تم ارتكابها ضد الأسرى المصريين بعد الهزيمة، ويقفز لمنطقة مريحة بالنسبة له من حيث السرد.
وهى الأيام أو الساعات القليلة اللي سبقت حرب 73، وكيف كان هنالك تخبط كبير بين الساسة الإسرائيليين في تحديد موعد الحرب بدقة، بسبب خطة الخداع الإستراتيجي التي نجحت فيها مصر، وبسبب المعلومات المغلوطة اللي دستها المخابرات المصرية ضد الإسرائيليين للتغطية على الحرب.
من خلال أحدث فيلم (جولدا) لابد وأنك تلحظ التحول الدرامي الخطير لموشي ديان وزير الدفاع، وهو يتحول من الغطرسة الكذابة والثقة العمياء في القدرة على الانتصار، إلى الهلع التام وإحساسه إنه فقد السيطرة على الجيش لما حصل الهجوم المصري السوري المشترك.
إقرأ أيضا : سؤال للفضائيات والتليفزيون: لماذا لا تُعرض الأفلام التسجيلية والوثائقية عن حرب أكتوبر ؟!
من المفهوم تماما ونحن نشاهد فيلم (جولدا) أنه يتبنى وجهة نظر إسرائيلية صرفة، بدليل ذلك التهويل من حجم الثغرة، ومحاولة تصويرها كانتصار، ومحاولة لوي دراع المنطق والجغرافيا والتاريخ.
وذلك من أجل أن يصوروا لنا انهم خرجوا من الحرب منتصرين، أو على الأقل بأقل خسائر ممكنة/ لكن نسي فيلم Golda إنه يناقض نفسه بنفسه، وإننا نرى خلال الأحداث صرخات الجنود الإسرائيليين وهم تحت النيران المصرية، وإجبارهم على الاستسلام والانسحاب وترك مواقعهم، وإنهاء اسطورة الجيش الذي لا يقهر.
وللحقيقة فإن الأداء التمثيلي لـ (هيلن ميرن) في دور جولدا مائير كان أكثر من رائع، على العكس من (رامي هيوبيرجير) الذي كان أداؤه لشخصية موشي ديان ثقيل الظل جدا، وغير احترافي و Over في كتير من المشاهد.
(جولدا).. ضعف في الميزانية
ويبدو واضحا أن فيلم (جولدا) كان لديه مشكلة في الميزانية، أو في تصميم المعارك، لأن كل المشاهد اللي رأيناها عن الحرب كانت إما مشاهد قصيرة جدا مأخوذة من أعمال تانية، أو مشاهد لايوجد بها مجاميع أو أي تصوير خارجي.
ومثال ذلك أن مشاهد معارك الدبابات التي تم الاستعاضة عنها بتصميم جرافيك ضعيف جدا، وكنا نحتاج بما أننا نتحدث عن فيلم حربي، أن نرى مشاهد معارك متعوب ومصروف عليها.
كان هذا سيكون أفضل بكتير من محاولات الفذلكة الإخراجية من المخرج (جاي ناتيف) في عمل قطعات ونقلات بين المشاهد، كان واضح إنها متصنعة جدا وغير موظفة بشكل جيد، مثل مشاهد دخان سيجارة جولدا مثلا.
على أية حال، فيلم (جولدا) يعتبر ردا مثاليا على أبناء العم الذين يدعون أننا ما لم ننتصر في الحرب، لإنه جسد مدى ثِقل المعركة على الساسة الإسرائيليين، وفشلهم الاستخباراتي والعسكري، وللأسف بعد 50 سنة من الانتصار نرى فشلا سينمائيا في محاولة قلب الحقيقة وتزييف القصة.
وبعد مشاهدة فيلم (جولد) الذي حاول تزييف الحقائق، دعونا نتذكر هذه اللحظات الرائعة، التي عند ذكرها يشعر المواطن المصري بالفخر والاعتزاز بقواته المسلحة وعزيمته وعدم استسلامه حتى حطم صفوف الجيش الإسرائيلي.
دعونا نتذكر استغاثة (جولدا مائير)، رئيسة وزراء الاحتلال الإسرائيلي للولايات المتحدة الأمريكية عندما قالت: (إذا تركتمونا سيدمرنا الجيش المصري ويدخل تل أبيب)، دعونا نتذكر جملتها الشهيرة عندما قالت: (رجالنا تذهب للحرب وتعود ممزقة).
دعونا نتذكر خطابها لشعبها وهى تؤكد لهم أن موقف جيش بلادها قوي رغم انهزامه وتحطيمه، دعودنا نتذكر موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي في حرب أكتوبر، وإصابته بالجنون بعدما رأي الجيش المصري يدمر صفوف جيشه واحد تلو الأخر، ثم دعونا أيضا نتذكر باعترافه بالهزمة أمام شعبة.
(جولدا) حاول تزييف الحقيقة
فكيف كانت إسرائيل على حافة واحدة من الانتصار بحسب فيلم (جولدا) وهى مدمرة باعترافات قيادات إسرائيل، سواء جولدا مائير أو موشيه ديان، أو إيلي زعيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وتصريحه الشهير الذي قال فيه: (المصريون يستحقون نيشان على خطة الخداع).
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه؟: لماذا أصر القائمون على فيلم (جولدا) على تزييف الحقيقة، ووضع جملة إسرائيل على بعد خطوة واحدة من الفوز بالعرب وهى مدمرة ولا حول لا ولا قوة.
وقد خسرت أكثر من نصف قوتها الجوية والعسكرية، والعديد من الدبابات وغيرها، بينما الجيش المصري خسائره لم تتخط الـ 5% وفي المقابل خسائر إسرائيل تخطت 50%؟ قبل وضع هذه الجملة.
وأخيرا: هل شاهدتهم فرحة (جولدا مائير) بعدما وافق الرئيس السادات على السلام ووقف إطلاق النار؟، هل هذه الفرحة توحي بأنها كانت ستنتصر؟، أم تحطمت وعندما وجدت حبل للنجاة من سحقهم تمسكت به؟.. تلك هى الحقيقة المؤسفة التي تحاول إسرائيل تزيفها!