بقلم: محمد شمروخ
لم أكد أصدق عيني وأذنى بعد أن توقفت بالريموت كنترول أمام حلقة من برنامج الزميل الأستاذ الصحفي مصطفى بكرى على قناة صدى البلد، إذ سمعته يتحدث عن النصر في (حرب أكتوبر) في حلقة خصصها للاحتفال باليوبيل الذهبي للعبور.
فقد عركت عينى مراراً وأنا أشاهد لقطات تلفزيونية مسجلة يظهر فيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – رحمه الله – وسط جنود القوات المسلحة، بينما صوت الأستاذ بكرى في الخلفية يمجد انتصار (الشعب المصري) في معركة العبور المجيد في حرب أكتوبر!
وقد جاءت تلك اللقطات المصورة مباشرة بعد تسجيل صوتى للرئيس الراحل أنور السادات – رحمه الله – لمقطع من خطبته الشهيرة التي أعقبت العبور في (حرب أكتوبر).
ولكن لست بحاجة إلى السؤال عن مناسبة حشر جمال عبد الناصر صوتا وصورة، في حديث عن (حرب أكتوبر)، ذلك لأنى أعلم الإجابة جيداً، إذ أن هناك اعتقاد راسخ لدى قطاع كبير من الإخوة الناصريين، أن انتصار أكتوبر كان بسبب الخطة التى وضعها جمال عبد الناصر، وإن كان هناك من يستحق أن ينسب له النصر، فهو جمال عبد الناصر!
إقرأ أيضا : بليغ حمدي .. بطل حرب أكتوبر الغنائي الذي تنبأ بالنصر!
وطالما سبق لى أن عانيت كثيراً من بعض أصدقائي الناصريين حول هذا الأمر الذي يتردد بينهم، لا كافتراضات تقبل الجدل وتستحق التصديق أو التكذيب، بل وليس كمعلومات تاريخية مؤكدة أو مشكوك فيها.
بل كبديهة رياضية أو قانون طبيعى أثبتته التجربة، ومن ثم يجب التسليم بلا نقاش، وكان دائما ما يضيق الأصدقاء من سخريتى من مجرد إلقاء هذا الطرح العابث للنقاش الجاد.
(حرب أكتوبر) في عهد السادات
إذ أننى يمكن أقبل به كنوع من الهزل على سبيل المجاملة لعدم تعكير جو الصداقة!
لكن عند الجد، فمعلوم أن الخطة التى وضعت للعبور في (حرب أكتوبر) في عهد عبد الناصر، ليست عملا فرديا يمكن أن ينجزه عبد الناصر وحده أو أن يكون من بنات أفكاره بافتراض أنه زعيم ملهم.
بل هى خطة تفرضها معطيات كثيرة وظروف محيطة وطوارئ متوقعة وافتراضات بعيدة الوقوع.
أنت حين تضع خطة (حرب أكتوبر) أو غيرها في عهد عبد الناصر أو السادات، فأمامك أشياء كثرة لابد من التعامل على أسس منها، كوقائع الجغرافيا وقدرات التسليح واستعدادات المقتالين وردود فعل العدو واستراتيجيات المرحلة وتحمل الاقتصاد والظرف التاريخي وثوابت ومتغيرات السياسية المحلية والدولية.
لكن الإخوة الناصريين يحدثونك وكأن خطة (حرب أكتوبر) كانت موضوعة داخل مظروف مغلق ومختوم بالشمع الأحمر، تركه جمال عبد الناصر وأوصى إلى من يأتى بعده أن يفتحه في الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر!.
ولعلى أوجه إلى السيد الأستاذ مصطفى بكرى نفس السؤال الذي يضيق بطرحه أصدقائى الناصريون، وهو: كيف ينهزم جمال في حرب 67 التى مات بعدها بثلاث سنين، بينما ينتصر في حرب 73 والتى مات قبلها بثلاثة أعوام؟!
لكن لن يعجب السؤال بلدياتى القناوى العتيد مصطفى بكرى، ولا غيره من أصدقائي وغير أصدقايى من الناصريين، بسبب الحب الأعمى لعبد الناصر الذي فاضت به قلوبهم ولكنه كان كثيراً ما يرين على عقولهم، فلا يرون أي شيء، إلا من خلاله!
أما إذا تصادمت معتقداتهم في ناصرهم، مع حقائق التاريخ أو مسلمات المنطق، فعلى هذين الآخرين أن يراجعا موقفهما.
…………………….
أما وأنى لا أنكر إعجابي الشديد بشخص وتجربة جمال عبد الناصر، حتى أن كثيرين ظنوا أنى ناصري الانتماء، خاصة لأننى تقريبا عشت حياتى محاطاً بدائرة أصدقاء غالبيتهم من دراويش الطريقة الناصرية، بيد أنها ليست تهمة لكى أدفعها، بل هى شرف، ولكن لا أدعيه.
…………………….
عبد الناصر والعبور في (حرب أكتوبر)
وإن كان حق للأستاذ مصطفى بكرى، أن يكون ناصريا وله مطلق الحرية في أن يعتقد بأن عبد الناصر هو الذي وضع خطة العبور في (حرب أكتوبر)، لكنه ليس له أدنى حق في أن يفرض على المشاهد لقطات مسجلة لزيارة جمال عبد الناصر للجنود على الجبهة وكأنه ابتعث من موته ليقود الحرب!
وكذلك فالمعلومة غير المجهولة عن السيد (بكرى) والتى يجب وضعها في الاعتبار، أنه (يكره) شخص وتحربة أنور السادات، كراهية واضحة قامت عليها الأدلة التاريخية والصحفية، إذ أن أحد شروط تحقق الانتماء الناصري هو أن تكره (أنور السادات) وتنزع عنه كل جميل وتنسب إليه كل قبيح!
ولا نغمطه حقه في كراهية السادات، لكنه أيضاً لا يبرر له ما كان في حلقة الخميس ليلة 6 أكتوبر.
وكدا أشم رائحة شياط أعصاب (الأستاذ مصطفى) من جراء اضطراره بث صوت أنور السادات، إذ لا يمكن بأى حال من الأحوال تجاهله في تلك المناسبة وهو قائد الانتصار الحقيقي الذي فعل الأعاجيب كي ينفذ خطة العبورفي (حرب أكتوبر).
وكم حدثنا القادة العسكريون عن خطط (حرب أكتوبر)، فهى ليست خطة واحدة لكنها خطط متعددة كشأن أى حرب تتغير بتغير ظروف كثيرة قد تقع لم تكن في الحسبان قبل أو خلال المعركة.
…………………….
إقرأ أيضا : 100 أغنية تسجل أسطورة الجيش المصري العظيم في حرب أكتوبر
بالمناسبة قبلها بأيام تحدث اللواء سمير فرج، عن تلك النقطة بالتحديد في برنامج مع الزميل الصحفي الأستاذ أحمد موسي، على القناة نفسها التى يبث منها الأستاذ بكرى برنامجه.
ولكن اللواء (فرج) شرح التعديلات والتغييرات التى طرأت على الخطة منذ وضعت ملامحها على عهد عبدالناصر وحتى تمام تنفيذها في يوم 6 أكتوبر 1973.
ومن المنتظر والبديه، أنه كان لابد من وضع خطة للحرب وعبور قناة السويس، بعد وقوع هزيمة 67 المريرة.
ولكن للدقة، لم يقل اللواء (فرج) إن عبد الناصر وضع الخطة، بل إن الخطة وضعت على عهد عبد الناصر وتحت إشرافه، كذلك لم يدع (فرج) أن السادت أجرى تعديلات على الخطة، بل كان دقيقا ونسب التعديلات لقادة القوات المسلحة في عهد وتحت إشراف السادات.
ومع وضوح حب اللواء سمير فرج لعبد الناصر، إلا أنه كرجل عسكرى يتحكم في مشاعره، ليس له أن يخلط الحقائق بالعواطف الشخصية.
فلا عبد الناصر ولا السادت، وضع أي منهما خطة العبور، فبرغم خلفيتهما العسكرية، إلا أن كلاهما كان يمارس دوره السياسي تاركاً جل الأمر للعسكريين الذين انغرسوا في جبهات القتال.
وهم أكثر دراية بكل الظروف المحيطة بالمعايشة المباشرة وسط الجنود وعلى مسارح العمليات، فمن البديهي أن يكونوا هم المخططين الأساسيين للعمليات الحربية في المعركة.
هذا عن المعركة.
فماذا عن (حرب أكتوبر)؟!
الفارق بين المعركة والحرب
وهل ثمة فارق بينهما؟!
الإجابة: إن الذي لا يعرف الفارق الدقيق بين المعركة والحرب لا يحق له الحديث عن أي منهما، فالمعركة عمل عسكري خالص، أما الحرب فعمل تشترك فيه السياسة مع العسكرية، بل وتقودها السياسة وتوجهها، فالحرب عمل سياسي في الأسس والغايات.
وكذلك يمكن للسياسة أن تحول خسائر المعارك إلى مكاسب ومكاسبها الى خسائر!
فعلي سبيل المثال، حدث في عام 1956 أن خسرنا المعركة العسكرية، ولكننا كسبنا الحرب الساسية فكان النصر من نصيبنا باعتراف العالم أجمع.
ومثال آخر: لنرجع إلى الوراء كثيرا، لنرى الحملة الفرنسية غي سنة 1801، وقد انسحبت قواتها متخاذلة بعد ثلاث سنوات فقط من وصولها بر مصر المحروسة، مع أن قوات الحملة كسبت جميع معاركها العسكرية ضد عساكر المماليك على أرض مصر.
إقرأ أيضا : نكشف لأول مرة: (حرب أكتوبر) أوقفت بعض الأعمال الإذاعية والتليفزيونية (2/2)
هل أذكرك بذكرى مؤلمة في بدايات التاريخ المصري المعاصر، عندما حولت قوى العالم العظمى في مؤتمر لندن سنة 1840، جميع انتصارات معارك (إبراهيم باشا) في الأناضول، إلى هزيمة سياسية خلفت انكسارا مريرا انتهى به مشروع محمد على إلى الأبد!.
لكن كما قلت لك إن مصطفى بكرى غلب عاطفته الشخصية بحبه لعبد الناصر، في برنامجه عن حرب أكتوبر التى قادها السادات، ولم يكتف بذلك بل إذا به بجانب بث لقطات عبد الناصر في جبهة القتال، يتحدث عن ابن السيد (عبد الحكيم عبد الناصر) بدون أى مناسبة ولا أى داع لذكره مع الاحترام له ولوالده.
ولا أدرى أهو هوس الحب أم حنق الكراهية الذي يؤدى إلى محاولات طمس الحقائق وإخضاع المعايير لأهواء الانتماءات السياسية والإيدلوجية؟!
ولعمرك: لكى لا أظلم (مصطفى بكرى) وحده، فإنها ظاهرة تنتشر بين الناس لا يعفى منها المثقفون، فترى عقول كثير منهم تتفاقم بينهم هذه الظاهرة المريضة فإذ بهم يقيمون كثيرا من الأفكار والأحداث لأشخاص والمواقف بمقاييس الهوى، إن كان يمكن انه يكون للهوى مقاييس!
لكنه الهوى:
(والهوى آه منه الهوى).. على رأي الست ثومة في آخر أغانيها (حكم علينا الهوى)!