فى ذكرى (وديع الصافي) .. (عبدالوهاب وفيروز و حليم) غنوا كورس له !
كتب : أحمد السماحي
نحيي اليوم الذكرى العاشرة لرحيل الصوت الذي تهدر فى نغماته شلالات لبنان، ويتعانق فيه ضوء القمر وحفيف الشجر، المطرب الكبير أسطورة لبنان الشامخة (وديع الصافي) الذي قال فيه الموسيقار الكبير (محمد عبدالوهاب): أنه الأجمل منذ ألف سنة، وصاحب أجمل صوت بين الرجال في الشرق، ولو جمعت أصوات المطربين كلهم فى صوت واحد لما ألفت صوت وديع الصافي.
وقال العملاق (رياض السنباطي) عن (وديع الصافي): لا أتصور أن فى تاريخ الغناء كله صوتا بهذه الروعة، وهذا الجمال، وهذه القدرة على إثارة الشوق، وأثنى الموسيقار المبدع (محمود الشريف) على صوته قائلا: إن وديع الصافي هبه الله للشرق على صعيد الصوت والأداء..
وقالت سيدة الغناء العربي أم كلثوم عن (وديع الصافي): إذا كان صوت كل مطرب فى فمه، فصوت وديع الصافي في يده، واسمه طبق الأصل عن صوته، وإذا كان الغناء هو خلاصة النشوة والعافية والأمل، فإن صوت وديع الصافي أصدق من يعبر عن هذه الأوصاف وأبرع من يصور المستقبل الجميل.
نشوة عبدالوهاب من (وديع الصافي)
يحكي الكاتب الكبير جورج إبراهيم خوري رئيس تحرير مجلة (الشبكة) اللبنانية أن عبدالوهاب كان عاشقا ومغرما لصوت (وديع الصافي)، وأنه في بداية عام 1959 عندما استمع إلى أغنية (ولو هيك بتطلعوا منا، وما تعودوا تسألوا عنا) لأول مرة كان عبدالوهاب بين كل جملة وجملة يتأوه ويردد الله الله، كان يترنح من النشوة وهو لايشرب.
كان كمن تنشق عبير الجنة فاستسلم للأحلام اللذيذة، وكان يمسح وجهه براحتيه ويردد الله، يا سلام، يا روحي، وطلب أن يستمع إليها مرة ثانية وطلب من الموجودين معه وهم (جورج إبراهيم الخوري، فيلمون وهبي، رفيق شكري، جورج المر) أن يفهموا كيف يؤدي (وديع الصافي) وهو يؤدي جملة (عالقليلة تذكروا الماضي، بسمة على شفاف الوفا كنا).
وفى ربيع نفس السنة (ربيع الدفء والخير والسلام، ربيع الورد واللوز وزهر الليمون، ربيع الحب والموسيقى والليل اللبناني المترف)، كان وجود (عبدالوهاب) في بيروت مثل الغدير الذي يستقطب الطيور العطشى، فقد وصل بعده إلى الثغر (عبدالحليم حافظ) قادما من القاهرة فى طريقه إلى لندن للعلاج.
إقرأ أيضا : نكشف أغنية (وديع الصافي) في وداع (جمال عبدالناصر) التى أبكت لبنان
وعاد (وديع الصافي) من الأميريكتين بعد غياب سنة كاملة عن لبنان، ثم جاء (فيلمون وهبي) من الجزيرة العليا في سوريا الشمالية بعد رحلة صيد، ثم التف حوله صديقاه الحميمان (عاصي ومنصور الرحباني) وفيروز، ووقف المنتج الشهير (تيودور خياط) منشرح الصدر أمام هذا الحشد الفني الخطير.
وقال لـ (عبدالوهاب): مارأيك دام فضلك فى سهرة عامرة أقيمها في بيتي وأدعوكم كلكم إلى ليلة من ليالي العمر؟، ومال عبدالوهاب إلى زوجته العروس (نهلة القدسي) وقال لها: أيه رأيك يا نانا؟ فضحكت وقالت له: يا ريت يا بيبي.
و(نانا) هو اسم الدلع لنهلة، و(بيبي) هو اسم الدلع لعبدالوهاب، وتقرر إحياء الحفلة مساء الخميس 16 أبريل 1959 وأحيطت بالكتمان الشديد، وفى هذا الليلة التى لا تنسى من ليالي العمر كانت نجوم السماء تسهر فوق نجوم الأرض عند (تيودور خياط).
وكانت السهرة تضم (محمد عبدالوهاب وزوجته، عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، عبدالحليم حافظ، جورج إبراهيم الخوري، فيلمون وهبي)،بالإضافة إلى (وديع الصافي)، وعلى رنين الكأس الأولى، وقبل أن ينتقل العود من يد فيلمون وهبي إلى حضن (وديع الصافي)، وقف عبدالوهاب وقال: ايه رأيكم لو لعبنا شوية لعبة (زي عروستي) وبالفعل لعب الجميع اللعبة التى استمرت وسط ضحكات الحضور، وبعد تعب الجميع هتفوا جميعا: اشتقنا يا وديع.
عبدالوهاب وحليم وفيروز كورس (وديع الصافي)
حمل (وديع الصافي) عوده، وراح ينقر بريشته كنقر البلبل على منقود حبيبته، وقام عبدالوهاب وجلس قرب (وديع الصافي)، ونهضت فيروز ولحقت بعبدالوهاب، وأحاط به الأخوان رحباني وفيلمون وهبي، أما عبدالحليم حافظ فقد تواضع لله وللصوت الجميل وقعد على الأرض، وأسرع سارق الأغاني (إلياس المر) صديق (تيودور خياط) يضع الميكرفون أمام وديع والمسجلة في الزاوية.
وأخذ (وديع الصافي) يغني الليالي وآه من تلك الليالي، وسرح بموال لبناني تبعه بأبيات من الزجل على نغم المعنى والقرادي، وكان لابد له من كورس يسعفه فتطوع موسيقار الشرق والعندليب الأسمر وسفيرتنا إلى النجوم فيروز، والأخوان العبقريان، والملحن الموهوب، وقاموا له بدور الكورس، فكانت إحدى لفتات الفن الكريم والخلق الموسيقي والأدب الاجتماعي الذي يبلغ الذروة.
إقرأ أيضا : تعرف على أغنية (وديع الصافي) التى غيرت (وردة) كلماتها، وغنتها بصوتها !
ولما أحس (وديع الصافي) بهذا الشعور الدافق من أعظم كورس في الدنيا، انطلق على سجيته وهات يا غناء يعصر القلوب ويفتت الأكباد ويذيب الأجساد، فقال عبدالوهاب لوديع: ولو وهنرد وراك، فغنى (ولو هيك بتطلعوا منا)، وقال له فيلمون: (قالت بترحلك مشوار قلتلا يا ريت).
وغنى وغنى، وعادوا يمسكون له الوحدة ويضبطون له الإيقاع، وقفز ملحن الأغنية فيلمون وهبي إلى صحن الدار وراح يهز ويرهز ويغني: (كترلو ترلو ترلو)، وأثار منظر فيلمون صديقه اللدود عاصي فصرخ به متحديا: بتزاجل؟، أي أتدخل معي بمساجلة زجلية ارتجالية؟ فصرخ فيلمون : أف معلوم!.
وبدأت المساجلة، مساجلة فكاهية رائعة، ساخرة، و(حامية)، وضحك الساهرون وكان أكثرهم فرحا وضحكا وهزيجا موسيقار الشرق محمد عبدالوهاب هذا العبقري الذي أحب لبنان، فأحب أرضه وكان الدافع إلى هذه السهرة الخالدة فى ليلة من أحلى ليالي العمر بلبنان.
سر بكاء وديع الصافي!
كان عبدالوهاب في كل مكان يظهر فيه يتحدث عن حبه لمطرب لبنان وأسطورتها الخالدة (وديع الصافي)، وكان الصافي بالمثل عاشقا هو الآخر لموسيقار الأجيال، وفى بداية الثمانينات كتب الفنان الموهوب متعدد المواهب (محمد سلمان) قصيدة مدح فى الموسيقار (محمد عبدالوهاب).
ويومها وحسب كلام (وديع الصافي) فى أحد حوارته قال: لم أنم ليلة سمعت الأبيات التى كتبها صديقي الفنان الشامل (محمد سلمان) إلا بعد أن أكملت تلحينها، وبعد ذلك بكيت، بكيت لإحساسي بأهمية هذه الهدية التى أتاحت لي الظروف أن أقدمها لمطرب العالم العربي الأول الذي علمني وعلم كل الفنانيين العرب.
تقول كلمات القصيدة التى لحنها وغناها وديع الصافي حبا في عبدالوهاب..
كلما حاولت أن أنظم فى فنك شعري
هربت مني القوافي حالمات وهى تجري
قائلات ليس بالإمكان فى شعر ونثر
وصف من قد أذهل التاريخ فى فن وفكر
هو كالنيل خلودا أو كأهرامات مصر
صوته بدر العذارى غاب في غيمة عطر
لحنه يسري إلى القلب كما الجندول يسري
فإذا غنى يقول :
أنت عمري، أنت من أشرق فى صوتك عمري
يا ليالي الشرق عودي، فى أغانيك العذاب
يا كليوباترا وأنطونيو، إشربا نخب الصحاب
وأت يا قيس بليلى وانسيا كل العذاب
اذهبوا وأتوا بشوقي كي يرى حلم الشباب
من تبناه صغيرا مطربا غض الإهاب
أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب
إنه كالعود كالقيثار كالناي كأوتار الرباب
لا لمصر بل لكل العرب، في كل الروابي