بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
توقفت جميع فعاليات وزارة الثقافة المصرية بعد ثورة يناير 2011، واختفت من على الأجندة العالمية جميع المهرجانات الدولية المصرية كمهرجان القاهرة السينمائى و مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية ومهرجان القاهرة للمسرح (التجريبى)، بل ان وزارة الثقافة نفسها صارت في مهب الريح.
فلقد توالى على مقعد الوزارة عدد كبير – نسبيا – في فترة قصيرة ، فلقد تولى الأستاذ الدكتور جابر عصفور منصب الوزير في أول وزارة بعد الثورة التي رأسها الفريق أحمد شفيق وسرعان ما قدم استقالته قبل أن يتم تغيير الوزارة بأكملها.
ليأتى بعده الأستاذ محمد عبد المنعم الصاوى، الذى وقف المثقفون ضد اختياره، وأعلنوا رفضهم له، ليحل محله الدكتور عماد أبو غازى، وهكذا في الفترة من 28 يناير إلى 3 مارس (حوالى 35 يوم) توالى فيها على وزارة الثقافة ثلاث وزراء.
وبمجرد تولى الدكتور عماد أبو غازى الوزارة انفجرت في وجهه المطالب التي كانت معظمها مطالب فئوية، وبعض المطالب كانت (انتقامية) نتيجة لإحساس بعض الأفراد بالتهميش والظلم أو ربما نتاج أحقاد خلقتها سنين من التكلس و الجمود و عدم اتاحة الفرص لأجيال بكاملها.
المهرجان (التجريبى) والوزارة
لذا كان أغلب المسرحيين في تلك الفترة لا يوافقون على إعادة أي نشاط يرتبط باسم القيادات السابقة للوزارة و خاصة وزيرها السابق الفنان فاروق حسنى، ولما كان المهرجان (التجريبى) يحظى باهتمام شديد من الوزير وتُسخّر له كل إمكانات الوزارة.
فقد اعتبره البعض مهرجان (فاروق حسنى) وأعربوا عن رفضهم لعودته وكأن عودته هى عودة للنظام السابق كله، لم يراع هؤلاء أن الحياة الثقافية قبل الثورة لم تكن كلها سيئات وأن من الأفضل استمرار و استثمار حسناتها.
ولكن البعض كان لديه خلط بين الأشياء وأصحابها، كما ساد فهم خاطئ في أن توفير ميزانيات المهرجانات وخاصة (التجريبي) سيصب في خانة انتاج العروض و بالتالى ستساهم في تشغيل العاطلين عن العمل من ممثلين و مخرجين و مصممى ديكور..إلخ.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب: الدورة الـ 30 من (المهرجان التجريبى): ماهو التجريب؟!
ولكن (أبو غازى) تعامل مع تلك الانفجارات بهدوء وصبر وبقدرة فائقة على الامتصاص، و استطاع ترتيب الأوضاع داخل الوزارة حسب الظروف المتاحة وقتها.
وانطلقت أهم مشروعات وزارة الثقافة في تلك الفترة (قوافل الثورة) التي اتجهت إلى المحافظات من أجل تحقيق عدالة ثقافية مفتقدة بإعطاء الفرصة لكل المبدعين المهمشين بعيدا عن العاصمة، وكانت تلك القوافل بمعاونة صادقة من بعض المسرحيين الذين رأوا عدم التوقف لمحاسبة الماضى وإنما المضي إلى الأمام.
ومن نفس المنطلق كانت مجموعة من لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة – ضمت الدكتور حسن عطيه والناقد جرجس شكرى والمخرج عصام السيد – ترى ضرورة لوجود المهرجان (التجريبى) كنافذة هامة على المسرح العالمى المعاصر لا يجب أن نغلقها.
عودة المهرجان (التجريبي)
وأن إغلاقها يمثل خسارة فادحة للحركة المسرحية، فالانعزال عما يجرى في العالم من اتجاهات جديدة سيخلق جيلا منغلقا ومتخلفا لذا اجتمعت تلك المجموعة بدعوة من المخرج ناصر عبد المنعم (رئيس المركز القومى للمسرح في ذلك الوقت) لتناقش أمر عودة المهرجان (التجريبي).
وبعد مداولات طويلة و اختلافات كثيرة توافقت على أن يعود المهرجان، ولكن في صورة جديدة هى: مهرجان عالمى للمسرح يحمل اسم القاهرة، ولكن الدكتور حسن عطيه تشدد في طلب عقد مهرجان عربى للمسرح منفصل عن المهرجان الدولى معللا ذلك بأنه لا يصح ألا يكون للقاهرة مهرجانها العربى وهي قلب العروبة و العرب، وهكذا توجهت تلك المجموعة للدكتور عماد أبو غازى بطلب عقد المهرجانين العربي و(التجريبي).
لم تمهل الأحداث المتسارعة (أبو غازى) طويلا ، فلقد قدم استقالته بعد 8 شهور من توليه الوزارة نتاج لأحداث محمد محمود، وبعدها دخلت مصر في نفق الأحداث التي صنعها (طرف ثالث) لم نعرفه حتى الآن، وأصبح السطح الذى نقف عليه أسخن بكثير من عقد المهرجانات كما أن الإضرابات المتتالية لم تكن لتسمح بها!
إقرأ أيضا : مهرجان المسرح التجريبي.. الحزن يسيطر على ختام الدورة الثلاثين
ومرت الأيام وأصبحت العواصف تحيط ليس بأنشطة وزارة الثقافة وحدها ولكن بهوية مصر ذاتها، فلقد كانت هناك مخطط لتوشيح مصر بالسواد، و صار الدفاع عن حرية الإبداع بل عن ضرورة وجوده أهم بكثير من المهرجانات.
وهكذا انقضى ما يقرب من عامين حتى انتهت سيطرة فصيل التأسلم السياسى على الشارع وعلى قرارات الدولة، ومع أول وزارة بعد ثورة 30 يونيو، تم عقد أول – و آخر – مؤتمر للمثقفين والفنانين يقومون هم أنفسهم بتنظيمه ولا تتدخل فيه وزارة الثقافة، تحت اسم ثقافة مصر في المواجهة في الفترة من 1 الى 3 أكتوبر 2013، وكان من ضمن قراراته دعم توصيات مؤتمر المسرح الذى انعقد قبله بعدة شهور والذى أوصى بعودة المهرجان .
و مع إعادة تشكيل لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة برئاسة الأستاذ الدكتور سامح مهران للمرة الثانية بعد الثورة، برزت مرة أخرى إلى السطح ضرورة عودة المهرجان (التجريبى)، خاصة بعد أن استطاعت اللجنة أن تعيد المهرجان القومى للمسرح إلى مساره الصحيح بعد دورة امتلأت بالمشاكل وأوجه القصور.
و سعى الدكتور مهران وبمعاونة من أعضاء اللجنة، خاصة المؤلف الأستاذ أبو العلا السلامونى، والمخرج الأستاذ فهمى الخولى إلى استصدار قرار وزارى بعودة المهرجان (التجريبي)، ولكنهم لاحظوا وجود تسويفات متعددة، لذا تقدمت اللجنة لوزير الثقافة في ذلك الوقت الدكتور جابر عصفور بطلب عقد اجتماع معه لمناقشة الأمر.
المهرجان (التجريبى) بصيغته القديمة
خلال اجتماع اللجنة مع الوزير كانت المفاجأة هى انقسام آراء اللجنة إلى ثلاث مجموعات، الأولى بقيادة الأستاذة الدكتورة نهاد صليحة ترى ضرورة عودة المهرجان (التجريبى) بصيغته القديمة، في مواجهة مجموعة ثانية – أقل عددا و لكن أعلى صوتا – بقيادة الأستاذ جلال الشرقاوى ترفض إقامة المهرجان.
وتدعى أنه كان مهرجانا للعرى والعروض الإباحية، بينما وقفت المجموعة الثالثة – التي كانت أغلبية – في المنتصف، فهى ترى ضرورة وجود مهرجان دولى للمسرح (التجريبي) أيا كان اسمه.
وخلال المناقشات المطولة طرحت كل مجموعة أسانيدها ودافعت عن وجهة نظرها، ولكن لوحظ أن الوزير لا يميل لعودة المهرجان (التجريبي) ربما لأسباب سياسية وربما خوفا من الذين ادّعوا أنه كان مهرجانا إباحيا.
حتى أن الناقد جرجس شكرى توجه إليه بسؤال مباشر: هل هناك تحفظ من الدولة على إعادة المهرجان؟ فقلت له هامسا في سخرية: يعنى لو فيه تحفظ هيقوله في اجتماع رسمي؟!!
إقرأ أيضا : ذكاء ليلى علوي أنقذ المسئولين عن مهرجان المسرح التجريبي !
وفجأة اقترح الدكتور حازم عزمى أن يعود المهرجان تحت مسمى (مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى)، ومضى يشرح أنه ليس هناك تناقض بين المصطلحين، وأن الاتجاهات المعاصرة تضم أيضا التجريب، وأن التسمية الجديدة أعم و أشمل و تضمن الحفاظ على تاريخ المهرجان وتضمن له التجديد واستقبال عددا أكبر من العروض على اختلاف اتجاهاتها.
رفض البعض التسمية الجديدة، ولكن الأغلبية ضغطت من أجل القبول بها ، فقد رأت فيها طوق نجاة لعودة المهرجان (التجريبي)، وحلا وسطا يرضى كافة الأطراف، و لكننى أصررت على أن يسجل في محضر الجلسة أن تكون الدورة القادمة هي الدورة الثالثة والعشرين لهذا المهرجان بعد أن توقف المهرجان (التجريبى) عند الدورة الثانية والعشرين).
فليس من المعقول خسارة إرث وتاريخ وسمعة دولية لمهرجان عريق استمر لمدة اثنين و عشرون دورة بنجاح، و لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن!
ولهذا حديث آخر…