في ذكراه الثلاثين.. كيف جمعت سامية جمال (بليغ حمدي) بأم كلثوم؟
كتب : أحمد السماحي
نحيي اليوم 12 سبتمبر الذكرى الثلاثين لرحيل عبقري النغم (بليغ حمدي) الذي تزداد نجوميته عاما بعد عام، والذي تزداد ألحانه توهجا بمرور الوقت من فرط عبقرية موسيقاه التى تخاطب الروح وتأثر الوجدان، فتترى لها المشاعر الدافئة وتتوق لها النفوس المعذبة في دنيا الهوى والغرام.
وتهتز لها الأبدان المفتونة بعشق تراب الوطن، وبمفعول السحر تسرى جمله اللحنية في عروق البسطاء نابضة بدماء الحرية فتغلى مثل بركان هادر يدفع نحو حافة خلاص النفوس من الظلم والاستبداد.
(بليغ حمدي) وتعدد منابعه
على صغر سن (بليغ حمدي) في بداياته الموسيقية فقد تعددت منابعه حيث أعطى اهتماماً بالغاً للموسيقى التركية والفارسية، وموسيقى الخليج العربي، وموسيقى بلاد المغرب العربي، وكذلك موسيقى بلاد الشام.
وليس هذا فحسب بل إن (بليغ حمدي) اهتم بدراسة آلات هذه البلدان وإيقاعاتهم ومقاماتهم، وأساليبهم في الغناء والتطريب والتأليف الموسيقي، كما ذكر لي مطربنا العراقي الكبير (سعدون جابر) الذي تعاون مع عبقري مصر في أربع ألحان رائعة.
إقرأ أيضا : زينب علي البحراني تكتب: وردة وبليغ حمدي.. حكاية زواج الحُب بالموهبة
وأقام (بليغ حمدي) مزجا حيا بين كل تلك الموسيقات التى استمع إليها، واعتمد أيضا في تكوين خبراته الموسيقية على الموسيقى الشعبية المصرية والفولكلور المصري ولاسيما الفولكلور الصعيدي، فضلا عن درسته العميقة لعلوم الموسيقى الأوربية بما فيها الهارموني والتوزيع الموسيقي.
(بليغ حمدي).. زرياب العصر
إذا كان (زرياب) تلميذ (اسحاق الموصلى) قد زاد في أوتارعوده وتراً خامساً فاكتسب به ألطَف معنى وأكمل فائدة ، وأدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله، فإن (بليغ حمدى) استطاع أن يستوعب كل ذلك ويضيف آلاف من الأوتار التى تعزف على ايقاع المشاعر الإنسانية الرقيقة والغالبة على كل معنى وقيمة.
فتميزت ألحانه للأغنية المصرية بالشكل القومي، وتميز عن جيله وكل من سبقوه باستلهام الألحان من التراث وإعادة تقديمها في شكل مبتكر يناسب العصر وإيقاعه.
(بليغ حمدي)، هو الذى أدخل التوزيع الآلي في ألحانه، وطور في أسلوب أداء المجموعة الصوتية (الكورال)، فقد أعطى للمجموعة الصوتية المصاحبة للمطرب دوراً بارزاً بعد أن كان دورها ثانوياً، ووظف بعض الآلات الجديدة على التخت العربي بطريقة مبتكرة مثل الساكسفون والجيتار والأورج، كما أدخل الموسيقى الإلكترونية في ألحانه ليستوعب في النهاية كل أدوات عصره.
سامية جمال و (بليغ حمدي)
يعتبرعام 1959 هو عام السعد بالنسبة للشاب الصغير والملحن الموهوب (بليغ حمدي)، حيث تعرف في هذا العام على أكبر مطربات الشرق (أم كلثوم)، وأعطاها لحنه الأول (حب أيه)، كلمات صديقه الشاعر عبدالوهاب محمد.
ولقد حكى بليغ حمدي، وحكى كثيرين قصة هذا اللقاء في العديد من البرامج التليفزيونية، لكن لأول مرة سنكشف أدق تفاصيل هذا اللقاء، ودور الفنانة سامية جمال في هذا اللقاء.
فلنربط الأحزمة، ونعود بالزمان إلى عام 1959، حيث طلب (بليغ حمدي) من شقيقه الأكبر الكاتب الصحفي مرسي سعد الدين أن يذهب معه لخطبة الفنانة (سامية جمال)، التى ربطته بينهما علاقة حب رائعة.
إقرأ أيضا : مجدي نجيب يحكي قصة أول أغنية جمعته بالعبقري بليغ حمدي وغنتها شادية
وبالفعل ذهب الشقيق الأكبر وخطب لشقيقه الفنانة سامية جمال، وعن هذه الخطبة يقول أستاذنا مرسي سعد الدين في أحد حوارته الصحفية: (رحت معاه، وكانت سامية ساكنة فى الزمالك على النيل فى عمارة (ليبون)، خطبتها له لكن ما أعرفش ليه الجوازة لم تتم، وعمرى ما سألته رغم الحب الكبير اللى شفته بعينى بينهما.
وأضاف الكاتب الكبير: (سامية هى التى فسخت الخطوبة رغم إلحاح بليغ، وطلبه من فريد الأطرش التدخل، مما جعلها تقول له (حب إيه اللى انت جاى تقول عليه) فاقتنص الجملة وصنع منها لحنا حقق له النجاح مع كوكب الشرق أم كلثوم.
(بليغ حمدي) وعبد الوهاب محمد
بعد أن فسخت سامية جمال خطبتها السريعة مع (بليغ حمدي)، ذهب وهو متأثرا يحكي ما حدث بينه وبين خطيبته الراقصة الشهيرة لصديقه الشاعر عبدالوهاب محمد، وبعد أن انتهى (بليغ حمدي) من قصته، قال له عبدالوهاب محمد كما ذكر في أحد البرامج: هى سامية قالت لك أيه يا بليغ في نهاية كلامها معك؟!
فقال له بليغ: قالت (حب أيه اللي أنت جاي تقول عليه يا بليغ؟!)، فقال له عبدالوهاب: (هذا مطلع مونولوج حلو تغنيه ثريا حلمي بطريقتها المعروفة)، فرد عليه ثريا أيه ولحن ايه وغناء ايه؟ هو ده وقته؟!
بعد أيام أسمع عبدالوهاب محمد كلمات أغنية (حب إيه) لصديقه (بليغ حمدي)، في وجود عازف الكمان الشهير أنور منسي، وتحمس بليغ للكلمات، وحتى ينسى حبه لسامية، قرر الغرق في الشغل.
وبدأ يلحن مرثية حبه التى أوحت بها حبيبته سامية جمال، وكتبها صديقه عبدالوهاب محمد، وأعجب أنور منسي بما لحنه (بليغ حمدي) على مدى أيام وكان يصاحبه بالعزف على كمان.
ونترك (بليغ حمدي) يستكمل حكاية لحن كان نقطة تحول في مشواره، فيقول كما جاء في مجلة الموعد: (محمد فوزي هو أول من احتضن موهبتي كملحن، وخصوصا عندما أسس شركة (مصرفون) للاسطوانات والتسجيلات.
وكان يفتح لي أبواب الشركة على مصراعيها، ويتيح لي الفرصة لأسجل ما ألحنه بأي أصوات أختارها، وفي تلك الفترة كنت أنعم برعاية وتشجيع الشاعر كامل الشناوي، وكنت أستفيد من جلسة واحدة معه أكثر مما كان يمكن أن أستفيده فهما وفكرا وثقافة وفنا لو قرأت عشرة كتب.
(بليغ حمدي) ومحمد فوزي
يتنهد (بليغ حمدي) ويتابع: كان محمد فوزي العظيم يعيش في فيلا بآخر شارع الهرم، وعندما كنت أسهر عنده فإنني كنت أجالس كبار أهل الفن والشعر والسينما، ومنهم على سبيل المثال (مأمون الشناوي، وصالح جودت)، فضلا عن كبار الكتاب والصحافيين.
وكانت كل جلسة تتحول إلى ندوة فنية وأدبية، وفي هذه الفترة كان محمد فوزي اتفق مع أم كلثوم على تسجيل أغانيها على اسطوانات لشركته، ولم أكن أعرف شيئا عن هذا الاتفاق ولا سمعت به.
وذات يوم سمع محمد فوزي لحن مطلع أغنية (حب أيه) فأعجب به جدا، وسألني من في ذهنك يا بليغ لهذا اللحن؟ فقلت له: مافيش حد معين، لكن عبدالوهاب محمد بيقول أنه يصلح لثريا حلمي، حيث بدايته فيه سخرية من الحبيب! وسرح محمد فوزي وصمت!.
بليغ حمدي وأم كلثوم وجها لوجه
ويستكمل بليغ حمدي حديثه قائلا: بعد عدة أيام قال لي محمد فوزي : أسمع يا بليغ إحنا الليلة معزومين عند الدكتور زكي سويدان!، فقلت له: ولكني لا أعرفه، وهو لم يدعني إلى بيته، ورد فوزي : يا أخي، زكي سويدان صديق عبدالحليم حافظ وكمان هو طبيبه الخاص.
إقرأ أيضا : حسين نوح يكتب : ضحايا ومبدعون (٣) .. موتسارت العرب بليغ حمدي
وعلى العموم فهو سيتصل بك، وفعلا دعاني الدكتور سويدان إلى العشاء في بيته، وذهبت إليه مع محمد فوزي، وكانت أكبر مفاجأة لي عندما وجدت في صدر صالون البيت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وزوجها الدكتور حسن الحفناوي.
ووجدت أيضا صديقي العزيز أنور منسي، وعبدالغني السيد، واقتربت من أم كلثوم وصافحتها وأنا سعيد جدا، ثم جلست صامتا، وبعد مرور ساعة في الحديث بين الجميع، رأيت أنور منسي يجيئ بكمانه ويقول لأم كلثوم: عاوزين نسلطنك يا ست!.
أخذ أنور في عزف روائعه، واستمعت أم كلثوم إلى المطرب الذي كانت تحبه كثيرا عبدالغني السيد، ثم احتضن محمد فوزي عوده وغنى إحدى أغنياته الخفيفة الدم، وما إن انتهى من غنائها حتى طلبت منه أم كلثوم الاستماع إلى أغنية (لي عشم وياك يا جميل).
أم كلثوم وحب ايه
يتابع (بليغ حمدي): بعد ذلك اتجه محمد فوزي إلى وأعطاني العود وهو يقول لي: سمعنا بقى يا بليغ؟! وارتبكت وقلت له: أسمعك إيه؟ وأنا مالي ومال الغناء؟! وهنا تدخلت أم كلثوم ووجهت كلامها لي وقالت لي: سمعت لك ألحان حلوة قوي سمعنا حاجة منها.
وهنا زاد ارتباكي والتفت لي محمد فوزي وقال لي: سيبك من ألحانك القديمة، وسمع الست أم كلثوم حاجة جديدة زي (حب إيه) اللي سمعتها منك في المكتب منذ أيام.
وعلى الفور بدأ أنور منسي يعزف مقدمة اللحن، وكان قد حفظه مني في جلستنا معا والتى كانت تشاركنا فيها تحية كاريوكا، وبدأت أعزف على العود مشاركا أنور منسي، وبدأت أغني، وانتهيت من غناء مطلع الأغنية، وحاولت التوقف عند هذا الحد لأنني كنت أغني على أعصابي.
إقرأ أيضا : هدى العجيمي تكتب : لقاء بليغ حمدي تسبب في غضب زوجي
ولكن أم كلثوم ألحت على أن أعيد غناء المطلع وأتبعه بأول مقطع من الأغنية، واستعادت المطلع والمقطع أكثر من مرة، وفي كل مرة تستمع وتردد الآهات بلا تحفظ.
يضيف بليغ حمدي: في هذه الليلة شعرت بالحب الكبير لأم كلثوم التى كانت تتصرف بكل بساطة، ودون عنجهية، أو تكبر وزاد شعوري بالألفة معها عندما نادتني بعد الغناء وقالت لي: تعال أقعد جنبي، وأنا أغني، وغنت رائعتها (رق الحبيب).
وعندما انتهت السهرة وهمت أم كلثوم بالانصراف هى وزوجها الدكتور الحفناوي، التفتت إلى محمد فوزي وقالت له: طيب يا فوزي ابقى شوف امتى نتقابل أنا وأنت وبليع؟!
أم كلثوم تتصل بـ (بليغ حمدي)
في اليوم التالي بحثت أم كلثوم عني، ووجدتها تريد رؤيتي مجددا، وبالفعل ذهبت إليها، ووجدتها تقول لي: أسمعني حب إيه؟ فقلت لها: ليس معي عود، فقالت بسيطة وأحضرت عود، ويومها لم أكن أحفظ باقي كلمات الأغنية، فاتصلت بصديقي عبدالوهاب محمد وطلبت منه الحضور إلى فيلا أم كلثوم.
ويومها ضحك عبدالوهاب محمد وأعتقد أنني شارب، وعندما أعطيت السماعة لأم كلثوم وكلمته، ترك عبدالوهاب شغله وفي دقائق معدودة كان يجلس معنا، وأعتقدت يومها أنها تريد الأغنية لإبراهيم ابن شقيقها الراحل الشيخ خالد الذي كانت تتبناه، وتريد تقديمه إلى الساحة الغنائية.
كما كان المنتج رمسيس نجيب يرشح المطرب الشاب إبراهيم خالد لبطولة أحد الأفلام، ولم يخطر ببالي إطلاقا أنا وعبدالوهاب محمد أنها تريد الأغنية لنفسها، وعندما أخبرتنا بهذا لم نصدق أنفسنا، لكنها كانت جادة في كلامها.
وبالفعل غنت الأغنية وحققت نجاحا كبيرا وكانت نقطة تحول في مشواري الفني، ومن هنا بدأت رحلتي مع كوكب الشرق أم كلثوم.