كتب: أحمد السماحي
رحل فجر أمس الجمعة الأول من سبتمبر الشاعر العراقي المبدع (كريم العراقي)، الذي قال عنه شاعرنا السوري الكبير نزار قباني (ابق يا كريم مزروعا على شفتي كاظم الساهر، اكتب لنا دائما أحاسيسنا وأحلامنا بأسلوبك الطفولي الجميل).
بمجرد رحيل (كريم العراقي) أمس أصدر المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني بياناً، جاء فيه: (بهذا الفقد يكون الوسط الثقافي والساحة الفنية العراقية قد خسرت شاعراً معطاءً ترك أثراً مهماً في ذاكرة العراقيين الفنية).
وأشار البيان إلى أن السوداني وجه باستكمال الإجراءات المتعلقة بنقل الجثمان من دولة الإمارات ليواري الثرى في العراق.
وقدم رئيس الجمهورية عبد اللطيف جمال رشيد التعازي بالراحل، وقال: (رحل عن عالمنا الشاعر الكبير (كريم العراقي) الذي أغنى الثقافة والفن بالكثير من الأعمال المبدعة).
كما نعى رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي وقدم التعازي بوفاة (كريم العراقي)، مشيراً إلى أن الراحل رفع اسم العراق عالياً في الأوساط الأدبية والثقافية العربية والعالمية).
وقد نعى الراحل كثير من نجوم الغناء على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، منهم (لطيفة، كاظم الساهر، صابر الرباعي، عاصي الحلاني، أحلام، ديانا كرزون)، وغيرهم.
كريم العراقي.. شاعر متفرد
المتابع لمشوار (كريم العراقي) يجد أنه من الشعراء الذين أخذ دورا محسوبا في الأغنية لا يقل شأنا عن الشعر بعامة وشعره بخاصة، بل لعله يزيد، فهو شاعرا يمتاز بالسلاسة لا بالفحولة، وهو شاعرا له نظراء ومنافسون كثيرون.
ولكنه في الأغنية متفرد الطابع والأسلوب، لأن أغانيه لم تكن جوفاء، فقد وفر لها قيما فنية من حيث الصورة والتعبير جعلتها نقطة تحول وعلامة طريق في حياة من تغنى بها من المطربيين الكثيرين الذين تغنوا بها.
مثل: (أصالة، ديانا حداد، صابر الرباعي، عاصي الحلاني، فضل شاكر، لطيفة، لطفي بوشناق، كاظم الساهر، رضا العبدالله، سعدون جابر، سميرة سعيد، غادة رجب، وديع الصافي، ماجد المهندس).
فضلا عن كل مطربي العراق من جيل السبعينات مثل (حسين نعمه، رضا الخياط، رياض أحمد، صلاح عبدالغفور) وغيرهم من مختلف الأجيال.
يا خالة يا الخياطة.. بداية (كريم العراقي)
منذ حوالي عشرين عاما أجريت حوار مطولا مع شاعرنا الكبير (كريم العراقي) في مجلة (الأهرام العربي) وتطرقنا إلى أشياء كثيرة في الحوار، منها كيفية دخوله الوسط الغنائي.
وظروف تعاونه مع رفيق دربه كاظم الساهر الذي كتب له حوالي 100 أغنية كانت أولهم (شجاها الناس) التى كانت من خلال تتر مسلسل (نادية)، بعدها غنى له أيضا تتر في مسلسل (الكنز) وغيرها من المفارقات التى صادفها في مشواره
إقرأ أيضا : صبية صغيرة أعجبت بـ (كريم العراقي) فولدت أغنية (طفلة وغازلتني) لـ (رضا العبدالله)
وعن بدايته وكيفيه دخوله الوسط الغنائي صرح لي (كريم العراقي): إنه في سنوات المراهقة قرأ في إحدى المجلات عن حاجة قسم برامج الأطفال في الإذاعة العراقية إلى أغاني وبرامج، وفي هذه الفترة كان مازال طالبا فغامر واتجه إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون.
وسأله الحارس ماذا تريد يا شاطر؟ فقال له: (أريد قسم برامج الأطفال)، فدله عليه، وهناك قابل شاعر عراقي كبير اسمه (أبوسرحان) وقال لهذا الشاعر أنه معه أغنيتان للأطفال فابتسم أبوسرحان.
وقال له: أسمعني مطلع إحداهما، واسمعه، فقال له: (أحسنت)، واستلم منه المظروف الذي فيه الأغنيتين، وعاد (كريم العراقي) إلى منزله سعيدا، وكل يوم يحكي لأصحابه عن رحلته لمبنى الإذاعة والتليفزيون!.
وبمرور الأيام نسى حكاية الأغنيتين، بعد عشرات الأيام من الانتظار، وأدرك هو وأصدقائه أن الأغنيتين ذهبتا مع الريح، وذات نهار كان في مقهى بعنوان (صاحب) وإذا به يسمع من بعيد كلمات أغنيته ملحنه ومغناة.
فما كان منه أن طلب من الجميع أن يصمتوا، وذهب إلى المذياع يحتضنه وقال لأصدقائه هاتفا: اسمعوا، فصمت الأصحاب، وكل من في المقهى، وإذا بهم جميعا يسمعون أغنية (يا خالة يا الخياطة) التى كان يقول مطلعها:
يا خالة يا الخياطة وين أثيابنا
بكري يجينا العيد ويدق بابنا يا خالة
فدوه يا خالة بساعك، الله يعين ذراعك
بكره نغني بكل درب، ونطوف شارع، شارع
حلوين يحسدنا الورد، بوجوهنا الضي الساطع
(كريم العرقي).. موقف ضاحك
بمجرد انتهاء الأغنية اشتعلت الأكف تصفيقا، وبعد أيام قاده صديقه حسين حافظ ومعه مجموعة من الأصدقاء إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون، وسأله كريم: إلى أين تقودني يا حسين؟ فقال له: نتسلم أجرك من الإذاعة لنثبت لأبيك أن الشعر يطعم خبزا.
فوافق بسرعة، وكأنه ولي أمره، وتقدم كريم لموظف الحسابات الذي سأله ماذا تريد يا حبيبي؟ فقال له كريم: (أنا مؤلف أغنية الخياطة، وأريد أجري عنها)، فقال له الموظف : (أعطني بطاقتك الشخصية) فقال له كريم : ليس معي بطاقة شخصية فأنا طالب مدرسي!.
فقال له الموظف: وكيف أعرف أنك المؤلف الحقيقي للأغنية؟
فقال له كريم: أقرأ لك الكلمات.
فضحك الموظف ساخرا وقال له: الأغنية تذاع يوميا وأصبحت مشهورة، وأي شخص يمكن أن يقرأها لي.
وتصبب كريم عرقا وأصدقائه يضحكون عليه، وفجأة ظهر ملحن الأغنية (خزعل مهدي) الذي جاء هو الآخر يقبض أجره، وعندما نطق باسمه وأنه ملحن أغنية (الخياطة) حتى اقترب منه كريم وعرفه بنفسه.
فأخذت المفاجأة (خزعل مهدي) وضحك وهو يصغي لحكاية (كريم العرقي) مع موظف الحسابات، وقال له: (انك أصغر مؤلف أغاني في البلد)، تعال معي يا ولد، واصطحبه إلى موظف الحسابات وتعهد عند الموظف بأن هذا الشاب الصغير هو مؤلف أغنية (الخياطة).
وبهذا حسم (خزعل مهدي) مشكلة أجر كريم، وقبض كريم أجره وكان ستة دنانير، وكانت فرحته تاريخيه وكذلك فرحة أصدقائه، وهنا أفتى كبير الأصدقاء حسين حافظ، بأنهم يجب أن يحتفلوا بهذا الأجر عن طريق صرفه كله على الأكل والملبس.
وبالفعل ذهب كريم وأصدقائه إلى مطعم دجاج، بعدها ذهبوا إلى محلات الملابس لشراء ملابس لكريم حتى يظهر بمظهر لائق بين الفنانيين الذين أصبح واحدا منهم من الآن.
يا شميسة ثاني أغنيات كريم العراقي
لم تمر أيام حتى أطلت أغنية كريم العراقي الثانية للأطفال أيضا وكانت بعنوان (يا شميسة) لكن هذه المرة كانت من خلال التليفزيون، فكانت فرحة كريم أكبر حيث أعجب بجمال تصويرها وكتابة اسمه في التليفزيون كمؤلف الأغنية التى حققت نجاحا جماهيريا كبيرا، وكان يقول مطلع الأغنية:
داير ما داير غطينا يا شمسية شوية شوية
ش ما نلعب خلينا، يا شمسية شوية شوية
مر طير الصبحية وسلم، أهلا أهلا أهلا بيك
قال لي صباح الخير وسلم أهلا أهلا بيك
صفق بجناحه وعنى لي، فك باب الغيم وضوالي
وصلني لبيتي وقدم لي، مهره وثوبين وكوفيه
وقال للي مبارك ألف مبارك يا حرية.
كريم العراقي.. جنة.. جنة
بعد أغنيتي (الخياطة، ويا شميسة) قدم أغنية ثالثة للأطفال بعنوان (جنة.. جنة والله يا وطنا) والتى حققت نجاحا عربيا أكبر من (الخياطة، ويا شميسة).
وتجاوزت شهرتها حدود العراق، حيث غنيت في تونس والأردن ولبنان بأصوات عربية عديدة، ثم قدمها منذ سنوات المطرب ماجد المهندس بعد أن أضاف إليها كريم (كوبليه) جديد لم يكن موجودا في كلمات الأغنية الأولى.
كريم العراقي وعمرو موسى
من الأغنيات الرائعة التى كتبها (كريم العراقي)، واستلهمها من جملة قالها عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية أغنية (لا تتبغدد علينا) التى كتبها لتوأم روحه المطرب كاظم الساهر الذي قام بدوره بتلحينها وغنائها وتصويرها كفيديو كليب ظهر فيه كريم العراقي.
وحكاية الأغنية ترجع إلى عام 2006 حيث كان (كريم العراقي) يشاهد إحدى الفضائيات، ولفت نظره لقاء يجمع أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، ومجموعة من الصحافيين ومراسلي القنوات الفضائية لبحث شأن عربي ما.
وبعد أن ألقى عمرو موسى كلمته في هذا الشأن العربي، بدأ يتلقى أسئلة الحضور فتقدم (عبدالحميد الصايغ) رئيس قناة (البغدادية) وسأل سؤال، وبعد عدة أسئلة من زملائه، رفع (الصايغ) يده مرة أخرى ليسأل مجددا وكانت أسئلته ساخنة، فنظر إليه عمرو موسى وقال له: يا صايغ لا تتبغدد علينا!
فلفت الجملة انتباه كريم العراقي، وعلى الفور أحضر ورقة وقلم وكتب جملة (لا تتبغدد علينا) ووجودها جملة شائعة ومنتشرة في مدن عربية كثيرة منها (مصر وتونس والمغرب وفلسطين والشام) ومعناها لا تتدلل علينا.
ومن هنا كتب (كريم العراقي) الأغنية، وبعد انتهائه من كتابتها أسمعها لصديقه كاظم الساهر، فسعد بها ولحنها على الفور، وقام بتصويرها كفيديو كليب وظهر في هذا الكليب كريم العراقي رحمة الله عليه.
(كريم العراقي) والمسرح
لم يقتصر عطاء كريم العراقي فقط على الأغنية، ولكنه كتب أيضا للسينما والمسرح حيث عرضت المسارح العراقية من تأليفه عدة مسرحيات منها (يا حوته يا منحوته) للفرقة القومية للتمثيل أخرجها سليم الجزائري الذي أخرج له أيضا (عيد وعرس) لفرقة الرافدين.
كما كتب (كريم العراقي) مسرحيتي (دنيا عجيبة) لفرقة مسرح بغداد، أخرجها مقداد مسلم، ومسرحية (يقظة الحراس) لأكاديمية الفنون الجميلة أخرجها حسين الأنصاري.
(كريم العراقي) والسينما
كما كتب (كريم العراقي) العديد من الأفلام السينمائية منها فيلم (عريس ولكن) الذي كتبه بمشاركة قاسم الملاك، وقام بإخراجه محمد أمين، وكتب أيضا فيلم (أفترض نفسك سعيدا) إخراج عبدالهادي الراوي.
و(مخطوبة بنجاح ساحق) إخراج محمد منير مندي، وقدم فيلم للأطفال بعنوان (الخياط المرح) إخراج رضية التميمي، وكان آخر أفلامه (شباب.. شباب) إخراج ياسر الياسري.
كلمة أخيرة
(كريم العراقي) قد يختفي من حياتنا الظامئة لحضوره، ولكنه يبقى حيا في أرواحنا وقلوبنا وعقولنا إلى ما شاء الله.
