بقلم: محمد حبوشة
الإعلام المصرى بكل ألوانه (فضائيات – صحافة – مواقع إلكترونية) يعيش أسوأ مراحله، فهو غائب تماما عن كل ما يجرى على الساحة المحلية، فالمواطن يئن من سعار الأسعار، والفساد منتشر بشكل مستشري، والتلاعب في أسعار السلع (الخضار، الفاكهة، الأسماك، اللحوم والدواجن)، فلم يعد المواطن البسيط يستطيع أن يحصل على وجبة آدمية تسد رمقه ورمق أبنائه، والجشع أصبح ظاهرة قبيحة من جانب التجار ومافيا احتكار السلع بشكل مزري للغاية، فنحن نسمع يوميا عن تحكم أشخاص وعصابات بعينها في السلع الغذائية والأدوية، بعد اختراع هيئة الدواء الموحد، والدولة تغض الطرف عن كل ذلك بحجة ارتفاع الأسعار عالميا، والدولار في صعودها الرهيب يؤثر على سنوتش الفول والطعمية الذي تترواح أسعاره من 15 إلى 20 جني، وطبق الكشري الذي يزيد عن 40 جنيه، وغيرها من وجبات شعبية كانت تستر العائلات المصرية، بعد أصبح الحصول عليها درب من دروب الخيال المستحيل!
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: تحديات الإعلام المصري
لا أدرى سببا لغياب الإعلام، بحيث أصبح من الصعب على المواطن المصرى أن يتابع ما يجرى، خاصة أننا نعيش الآن محنة قاسية تهدد كيان هذه الأمة في كل شىء.. في زمان مضى كنا نتابع الأحداث من خلال تحقيقات أو حملات صحفية أو تلفزيونية تلاحق الجشع والاستغلال، وكان الإعلام المصرى سباقا في كل شىء، لكنه الآن ينتظر خبرا من هنا أو صورة من هناك، ومرت علينا أحداث ضخمة لا أحد يعلم عنها شيئا، كان الإعلام المصرى من أهم مصادر المعرفة والمعلومات لسلطة القرار، بل إنه انفرد كثيرا بمواقف خدمت الكثير من القضايا المهمة على مستوى الأمة وليس الوطن، والآن أصبحت شواهد الغياب كثيرة ومؤثرة.
تراجع الإعلام المصري
لقد أصبحنا نتابع الآن كل الأحداث الكبرى من فضائيات غير مصرية، حيث يتوافر مستوى من المهنية والسرعة لا نجده في أي فضائية مصرية، إن بعض هذه الفضائيات يحمل وجهات نظر مختلفة – ويتلاعب بالقضايا ويختلق الأكاذيب حول تدني الخدمات وتراجع الحكومة في وعودها للمواطن في ضبط الأسواق وملاحقة الجشعين – ولكنه يقدم الجديد والكاشف للفساد والمحسوبية، أنا لا أتحدث عن قنوات مشبوهة تخرج من تركيا أو قطر أو لندن، ولكن أتحدث عن فضائيات جادة ومؤثرة، مثل قناة العربية والقناة الفرنسية والروسية، لم يعد لدينا هذا المستوى الجيد في الأداء والسرعة، وقد حلمنا يوما بقناة إخبارية مصرية تعبر عن الإعلام المصري، ولكن التجارب لم تصل إلى ما كنا نتمنى، حتى أن تجربة (القاهرة الإخبارية) التي كان يعول عليها أصبحت الآن في خبر كان!
إقرأ أيضا : أين الإعلام المصري من مقال فورين بوليسي التحريضي ؟!
لم يكن غريبا أن يأتى الإعلام المصري بآخر القائمة في مستوى الأداء والمهنية والتغطية الجادة، حتى فيما يخص ما يجرى في الساحة المصرية نفسها، لقد غلب الأداء الإعلانى على ما يقدم الإعلام المصرى من الموضوعات والأخبار والتحليلات، وهذا النوع من الأداء يفتقد في أحيان كثيرة التأثير والمصداقية، لأنه يفتقد الرأى الآخر ويكون أقرب إلى التقارير الموجهة بعيدا عن العمل الإعلامى السليم، وذلك لأنه يفقتقد أبسط قواعد المهنية والمسئولية الاجتماعية التي تصنع الحماية للمواطن، علما بأن القائمين على الإعلام المصري (خاص، وقومي) يتقاضون رواتبهم من دافعي الضرائب الذين يعانون الأمرين في الحصول على رغيف الخبز الحاف!
إن إصرار الإعلام المصرى على الاهتمام بالشأن الداخلى شىء مطلوب ومشروع، ولكن نحن نعيش في عالم تغيرت فيه كل الحسابات وأصبح قرية صغيرة، ولا يعقل أن يكون لدينا هذا العدد من الوسائل الإعلامية دون أن يكون لها تأثير في الأحداث المحلية من غلاء أسعار وفساد ومحسوبية ومافيا التحكم في السلع الغذائية والدواء وغيرها من متطلبات أساية للمواطن البسيط، وحتى ما يحيط بنا من تغيرات حادة شملت كل شىء على المستوى السياسى والاقتصادى والثقافى غائبة تماما عن المشهد الإعلامي الغارق في التفاهات والمنوعات، وحتى منوعاته أصبحت ساذجة وترسخ لقيم الاستهلاك والتدني السلوكي، كما يبدو ذلك في السينما والدراما التلفزيونية والبرامج التي تجري وراء الترند المعلون.
الإعلام المصرى ليس مصدر الحقيقة
كان الإعلام المصرى في يوم من الأيام مصدرا من أهم مصادر الحقيقة في كل ما يجرى حولنا من أحداث وكوارث، ولم تكن عقول الناس ضحية إعلام فاسد مشبوه يحاصرنا من كل مكان، ورغم الملايين التي تنفقها الدولة على الإعلام المصرى إلا أنه غائب تماما بين المسلسلات وكرة القدم والبرامج التافهة والفن الهابط.. أين الدور التاريخى للإعلام المصرى، لقد غاب تماما راح في سبات عميق حتى أنه يغض الطرف عن إنجازات الرئيس، ولا أدرى هل يمكن أن نستعيد شيئا من تأثير هذا الدور.. هل يمكن أن نشاهد على شاشاتنا وصحفنا ومواقعنا الإلكترونية صورة ما يجرى حولنا على المستوى الداخلي، وما يجرى في الشارع من أزمات تتعلق بالأسعار وملاحقة الفاسدين ومحتكري السلع.
لم يعد خافيا أن الدولة المصرية تعاني أزمة كبيرة في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، أزمة بدأت في سنوات ما قبل الخامس والعشرين من يناير 2011، وكرستها بشدة أحداث 25 يناير ومتلاحقاتها التي فرضت فوضى إعلامية لا تخطئها عين، وقادت إلى إشكاليات وخيمة في المنتج الإعلامي باتت تهدد بقوة المنظومة الإعلامية، ولم يتمكن دستور 2014 الذي كان أحد ثمار خريطة المستقبل لثورة 30 يونيو 2013 وما تضمنه من مواد وبنود لتنظيم الإعلام والصحافة من معالجة هذه الإشكاليات، التي باتت تعصف بمستقبل الإعلام لأسباب مختلفة.
إقرأ أيضا : الإعلام المصري في قبضة (أسد جريح) لايسمح بالاقتراب من عرينه!
تتلخص الأزمة بتبسيط شديد في المقام الأول في الموارد اللازمة للصرف على الإعلام، وهى ستظل المحور الرئيسي الذي تدور حوله باقي الإشكاليات، فقبل الخامس والعشرين من يناير وحتى الآن، كانت الدولة ملتزمة بالصرف على المؤسسات الصحفية القومية وعلى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، هذا، في الوقت الذي بدأت فيه الدولة السماح بتغلغل رجال الأعمال لقطاع الإعلام، ومع تردي وترهل وضع المؤسسات الصحفية القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون اقتصاديا، والمغريات المقدمة من صحف وقنوات رجال الأعمال، فقد أدى ذلك لظاهرة الطيور المهاجرة، حيث تركت القواعد الأصيلة مؤسساتها تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية متجهة صوب الصحف والقنوات الخاصة برجال الأعمال، محملة بإحباطات هيمنة شلل بعينها والمقربين منها على مقدرات الأمور في هذه المؤسسات، وانعدام معايير واضحة للترقي وتقلد مناصب أعلى إلا لذوي الحظوة في مداهنة السلطة، ومؤشرات للفساد استشرت في ربوع هذه المؤسسات دون أن تجد من يوقفها ويعيد تصويب الأمور قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة.
ريادة الإعلام الخاص
أسهمت هذه القيادات في وضع الصحف والقنوات الخاصة في وضع الريادة ووصل الأمر لصحيفة أو اثنتين إلى الدخول في منافسة مباشرة مع كبرى المؤسسات الصحفية، وكانت الكارثة في اتحاد الإذاعة والتليفزيون الذي بات واضحا أنه عاجز تماما عن المنافسة في هذا التوقيت وعدم قدرته على ملاحقة التطورات الجارية حوله في القنوات الخاصة، وقد استعرض الإعلام الخاص عضلاته أمام المؤسسات القومية الحاملة للإعلام المصري، ولم يكتف باستقطاب كبار كتابها وصحفييها وإعلامييها ومعديها ومصوريها ومخرجيها، ولكنه شرع في ضربها في الصميم، بتأثيث وكالاته الإعلانية الخاصة، تلك الوكالات التي نافست على استحياء في البداية وكالة الأهرام للإعلان والقطاع الاقتصادي في اتحاد الإذاعة والتليفزيون، ثم وجهت لها مع إندلاع أحداث يناير الضربات القاضية، وباتت إحدى الوكالات الإعلانية الخاصة هى المهيمنة على السوق الإعلانية في القنوات والصحف الخاصة، ووصل بأخرى هى الأحدث على الساحة المصرية إلى السيطرة حتى على الإعلانات في قنوات النيل المتخصصة وعدد كبير من الإذاعات.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: (كله حصري × الإعلام المصري)!
وتكمن الخطورة في الإعلام المصري، في أن المتحكم في المال والإعلان يتحكم في المنتج الإعلامي، يتحكم في المضمون، يمنح ويمنع، يمارس ما لا يدعيه ويدعي ما لا يمارسه، يفرض سيطرته ويعرض ما يرغبه على قنواته ويمنع ما لا يتوافق معه، والمبرر موجود: (لا توجد إعلانات على هذا البرنامج ومذيعه)، وكم من حالات لإعلاميين جماهيريين رصدت بعد ثورة 30 يونيو تم استبعادهم ووقف برامجهم باستخدام هذا المبرر، وكم من حالات مفروضة لأن وكالات الإعلانات تحميها وهى لا يشاهدها إلا من يحرص على استمرارها في توصيل رسائل معينة في برامجها، رسائل باتت مرفوضة من القطاعات الأكبر من المصريين التي انصرفت عن مشاهدتها.
إن تلاحم عنصر سيطرة المال والإعلان على الإعلام مع عنصر التضخم الذاتي الشديد لبعض الإعلاميين، لم يقدنا إلا إلى إعلام يبحث عن المصلحة الشخصية لصاحب رأس المال والإعلان من جهة والإعلامي من جهة أخرى، أو إلى إعلام يبحث عن التقرب من القيادة السياسية، كل ذلك على حساب الوطن والمواطن بحثا بعد 30 يونيو عن إعلام وطني يقدم ما يبعث على التفاؤل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو عن إعلام يعكس الثقافة الوطنية والقيم الأصيلة، فلم يجدا إلا إعلاما محبطا، تتنازعه المصالح الرأسمالية والأهواء الشخصية التطلعية والذاتيات المنتفخة، لا يقدم تثقيفا أو يشجع على المسئولية الاجتماعية التضامنية، وإنما يناقش قضايا ومحاور شبه يومية ومتكررة في كل برامج التوك شو باختلاف المذيع، فما أن تقلب من قناة لأخرى ستجد نفس القضية تناقش بضيوف مختلفين وقد يكونوا متكررين، ولم لا والمتحكم واحد، هو صاحب المال والوكالة الإعلانية الذي يريد فرض هذه الخريطة القيمية المختلة على المجتمع المصري.
وفي النهاية: رأي الشخصي أن القائمين على الإعلام المصري (القنوات الفضائية ومحطات الراديو وحتى الصحف القومية الكبرى وبعض الصحف الخاصة والمواقع الإلكترونية)، مصابون بحالة من عمى البصر والبصيرة في التصدي للجشع وغلاء الأسعار، حتى يشعر المواطن بصدقية إعلامه الوطني بدلا من الإهمال الذي تعرض له هذا الشعب خلال الشهور والأيام الحالية، وبتشخيص دقيق لمعاناة الناس الذين نالت منهم المعاناة وتجاهل الدولة وعدم اهتمامها بالإنسان، وتبدل اتجاه الدولة فأصبح الإنسان المصرى فعلا وقولا هو المستأثر بإهمال الدولة بعد أن كان محور اهتماماتها خلال السنوات الثمانية الماضية، حتى شهد الإعلام المصري خلال الشهور القليلة الماضية أكبر (انتكاسة مهنية) في تاريخه الحديث، ومن هنا أطالب بالعمل الجاد للارتقاء بمستوى الإعلام، وضرورة تحويل دفته لصالح الوطن والمواطن لرفع المعانة عن كاهله بفعل سعار الأسعار والفساد والاحتكار الذين أصبح كالسو الذي ينخر العظام.. هل يسمعني أحدا؟!