بقلم: د. مدحت الكاشف*
الفن والتكنولوجيا.. التكنولوجيا والفن.. هل هى علاقة صراع؟ أم تضافر جهود وتحالف إبداعي؟.. هل التكنولوجيا هى التي اقتحمت فنون الإبداع البشري؟ أم أن الفنون هى التي سعت للاستعانة والاستفادة من إمكانات التكنولوجيا لتحقيق مايعتمل في خيال الفنان ولم يكن قد تحقق بالصورة المثلى قبل ظهور التكنولوجيا؟.. إن الأمر مثير بقدر يجعلنا نطرح قضية الفن والتكنولوجيا التي حتما ستفتح آفاقا لانهائية لإجراء دراسات علمية حول تلك العلاقة الشائقة والشائكة بين قطبي الفن والإبداع.
إقرأ أيضا : الذكاء الاصطناعي .. خطر داهم يزحف نحو الفنون الإبداعية!
تتلاحق الأسئلة من جديد وتتقافز الإجابات حولها بشكل لا ينقطع، هل أثرت التكنولوجيا على الإبداع؟.. وإذا كانت قد أثرت، فهل كان هذا التأثير سلبيا أم إيجابيا؟، أو بمعنى آخر: هل كانت التكنولوجيا الجديدة بمثابة التحدي الذي واجهه المبدعون؟ هل هى علاقة شائكة تحاول طمس عمل الفنان وتلغي وجوده بما تملكه من إمكانات باهرة وسريعة تسبق إدراك الفنان نفسه وهو في سبيله لابتكار جديد؟، أم أنها علاقة شيقة للفنان وجد فيها ضالته وأحلامه وأفكاره وخيالاته، واستطاع أن يبحر فيها وينهل منها ويتوسل بها ليخلق فنا أكثر إبهارا وتأثيرا للمتلقين؟، وغير ذلك من الأسئلة التي طرحها في توقعاته المفكر والفيلسوف الألماني المعاصر (والتر بنيامين) W.Benjamin (1892 – 1940) صاحب الرؤى الانتقائية والمساهمات المؤثرة في النظرية الجمالية، والذي يعد من أوائل من طرحوا قضية أثر التكنولوجيا على الفن، وعلى رؤى الفنانين والمبدعين، مناشدا الفنانين على إعادة النظر في إبداعاتهم لتتواكب مع التطور التكنولوجي المرتقب والذي لايمكن كبح جماحه في لحظة ما مستقبلا، مؤكدا أن التكنولوجيا هى مجال اخترعه البشر وصنعه من أجل الارتقاء بالحياة اليومية لأقرانهم من البشر في جميع المجتمعات الإنسانية، ولذا فمن الحتمي – في رأيه – أن يفيد منها المبدعون بما تقدمه من إمكانات أكثر رحابة وطواعية في يد الفنان يحقق بها مايعتمل في خياله الإبداعي.
العلاقة بين الفن والتكنولوجيا
وعليه فقد اعتبر العلاقة بين الفن والتكنولوجيا هى علاقة ترابط وتعاون بوصفهما إبداعين متضامنين وليسا متنافران، وبالرغم أنه قد رحل عنا قبل أن يشهد ذلك التطور المضطرد الذي يلاحقنا بين الدقيقة والأخرى، بشكل ربما لا نستطيع إدراكه مع سرعته وتفوقه في عالم باتت فيه التكنولوجيا هى المحرك الأساسي لكل مناحي الحياة، بما فيها تفكيرنا وطريقة تفكيرنا سواء كنا مبدعين أم متلقين للإبداع، وكما توقع بنيامين أصبحت الفنون اليوم في حاجة ماسة بل وملحة لتوظيف التكنولوجيا، وأصبح الفنان(المبدع) يعتمد في تشكيل مادته الإبداعية على تقنيات الوسائط المتعددة Multi media وتقنية المعلومات Info media والتقنيات الرقمية digital، وتقنية الإسقاط الضوئي Projection Mapping، وتقنية الهولوجرام Hologram، وتقنية الشاشات LED Screens، وغيرها من التقنيات المتلاحقة والتي تهتم بعرض الصور والحركات والألوان في الفضاءات الإبداعية المختلفة، ممايساعد على المزج البصري للصور الحية مع الصور المصنوعة أو ربما المستنسخة، محطمة الحواجز بين الفنون المختلفة، وبناء الوشائج بين الفن والحياة عموما، ومع ذلك يظل الجدل محتدما بين المبدعين حول علاقة الإبداع بالتكنولوجيا، فلايزال نفر منهم يعتقد أن الإبداع بخصائصه الجمالية قد تهاوى وتراجع أمام طغيان التكنولوجيا، بينما يرى البعض الآخر أن التكنولوجيا ساهمت في خلق قيم جمالية جديدة للإبداع.
مستجدات التكنولوجيا عبر العصور
ولما كان المسرح أبو الفنون فقد استطاع رغم طبيعته الحية عبر تاريخه الموغل في القدم ونظامه التفاعلي والتواصلي مع جمهوره، وطبيعته التركيبية، أن يؤلف بين عدد من العناصر منها ماهو أصيل فيه، ومنها ماهو دخيل عليه، فلم يكف المسرح منذ نشأته عن توظيف كل مستجدات التكنولوجيا عبر العصور منذ آليات المنظر في المسرح الإغريقي مرورا بتطور المنظر المسرحي وآلياته في عصر النهضة وصولاﹰ إلى تدخل الإبداع الرقمي في تشكيل صورة الفضاء المسرحي، عندئذٍ تتحول تلك العناصر الدخيلة عليه إلى عناصر أصيلة وأساسية تلازمه وتساعده على إعادة تعريف نفسه في كل عصر، حتى بات المسرح مع الوقت مكاناﹰ للتصور والتحليل بغية بناء جسور من التفاعل والتواصل مع متفرجيه، وذلك من خلال تطويره لعناصره البصرية والسمعية بشكل مستمر، ولاشك أن توظيفه المعاصر للتكنولوجيا الرقمية والوسائط المتعددة multimedia لم يكن من قبيل الاستفادة من التطور التكنولوجي فحسب، ولكن من أجل الاستعانة بالتقنيات فائقة القدرة لبناء الصور فى الفضاء المسرحي، بما يحقق رؤى وتصورات أحلام وطموحات رجال المسرح منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين والتي امتدت إلى منتصف القرن العشرين حتى بدأت تأخذ صداها في بعض تجارب مسرح الستينيات، وتتبلور منذ السبعينيات كتيار مسرحي مستقل ﹸيعرف بمسرح الصورة.
المسرح والتكنولوجيا:
لقد كان توظيف التكنولوجيا في العرض المسرحي يرتبط بوضعية الممثل وسط عناصر الصورة التشكيلية في المسرح، انطلاقاﹰ من رؤية اشترك فيها معظم المسرحيين حول طبيعة فن الممثل، وهى أن الممثل المسرحي يقوم بأداء شخصية وهمية، غير واقعية، إنها شخصية مختلقة غامضة، تكشف عن ماهيتها بالتدريج، لتصبح تلك الشخصيات التي يؤديها الممثلون جزءاﹰ من حيوية وحياة العرض المسرحي، وذلك من خلال الانفعالات التي تنتاب كل ممثل وجسده أمام المتفرجين، فالممثل يخوض في سبيل إنجاز عمله رحلة طويلة من الحركات الدالة عندما يتحرك أفقياﹰ دلالة على الانطلاق بسرعة، ويتحرك رأسياﹰ لأعلى للتعبير عن التصاعد والتحرر، ويتحرك في مسارات مائلة أو منكسرة بطريقة أو بأخرى، للدلالة على الاضطراب وعدم التوازن في دخيلة الشخصية كما في مشاهد التعبير عن العقبات التي تواجهها الشخصية في سياق ما، كما تدل حركة تراجع الممثل إلى الخلف، والتي تقلل من تركيز الانتباه إليه بعدم الأهمية أو بقصد اخفاء شيئ ما.
إقرأ أيضا : الذكاء الاصطناعي .. هوس النجوم الجديد!
أما التقدم نحو الأمام فقد يدل على تركيز المخرج على الشخصية وإبراز تفاصيلها بوضوح، وفي المقابل استطاعت التكنولوجيا في وقت لاحق بتحقيق كل هذه الدلالات المطلوبة، على شكل صور متتابعة ومصاحبة لأداء الممثل الحي الذي يكون أقل حركة بل وأقل جهداﹰ عن ذي قبل، فلقد فرضت عليه التكنولوجيا أن يقتصد في حركاته وسكناته، ولم تتوقف التكنولوجيا عند حد القيام بأعمال نيابة عن الممثل فحسب، ولكنها أيضاﹰ استخدمت جسده الحى كجزء من البنية التشكيلية، بل أحياناﹰ تصنع من جسده شاشة عرض، يرى المتفرج من خلالها صوراﹰ دلالية متحركة،وقد يتحول الممثل إلى قطعة إكسسوار يتم استخدامها استخداماﹰ دلالياﹰ، أو أن يتحول جسده امتداداﹰ لشكل ما في الصورة المسرحية، ولاشك أن الممثل سواء بوعي منه أو بغير وعي بطبيعة عمل تلك التكنولوجيا فهو يساهم بدرجة ما في جذب المتفرج لسينوغرافيا العرض، فهو لايزال مركز التكوين والموقف الدرامي،فأحياناﹰ هو الذي يحدد مكمن القوة والضعف فيها، وهو الذي يحدد صدارة الصورة المطلوبة.
ولما كان المسرح نتاجاً لتكامل النص مع التعبير الصوتي والحركي للممثلين وتفاعلهما مع الديكور والإضاءة والأزياء، فتظهر من هنا إمكانية استخدام الحاسب الآلي لاسيما في التقنيات الرقمية، في جزء من الديكور والمؤثرات الصوتية والضوئية، وعلى سبيل المثال: يمكن استخدام شاشات للعرض متصلة بأجهزة حواسب لتعطي مؤثرات مكملة للديكور، ويمكن استخدامها على هيئة مجموعة كبيرة يتحكم فيها أكثر من جهاز حاسب، بحيث تُكون مُؤثراً قد يكون على شكل أجزاء من صورة أو صور مختلفة وتتغير من شكل إلى آخر لتعطي المؤثر المطلوب، وباستخدام الفي تكنولوجيا العرض مع بعض برامج الحاسب الآلي مثل D Graphics3 أوVirtual Reality يمكن تكوين شعور بالعمق وبمناظر مختلفة تتناسب مع العرض المطلوب، وتتميز بإمكانات ديناميكية لا تتوافر في الديكور المبني بالأساليب التقليدية.
وعلى سبيل المثال يمكن لهذه الديناميكية أن تسمح بتغيير عناصر العرض مع الاستفادة من عروض فيديو أخرى لتكون جزءاً مكملاً للخلفية، إن هذه المؤثرات الفعلية أوالحقيقية هى استثمار أقصى الطاقات غير النهائية لجهاز الحاسب الآلي والتكنولوجيا في ابتكار أدوات العمل الفني ورموزه واستنساخها صوتاً وصورة بحيث يتعدى تأثيره على المشاهدين أحياناً حاجز الواقع إلى عالم ما وراء الواقع الافتراضي أحياناً أخرى، والمؤثرات الفعلية تقدم لمستخدم الحاسب الآلي أدواتها التي تجعله يغوص في تجربة وهمية أو إيهامية بحيث تبدو كأنها واقع ملموس، وعندما يرى المشاهدون تلك المؤثرات الفعلية تشعر نسبة منهم أنهم يشاهدون العمل وكأنهم داخل جهاز الحاسب نفسه، وذلك حيث تكون المؤثرات الواقعية قد جرى تكوينها، ومن المجالات التي شهدت توظيف أشعة الليزر بدرجة عالية من الكفاءة هو مجال التصوير ثلاثي الأبعاد أو الهولوجرام، والذي يمنح المتفرج صورة تتشابه تماماً مع الصورة الحقيقية، مما يُؤثر تأثيراً مباشراً وغير مباشراً في عملية الإبداع الفني عند كل من المخرج ومصمم السينوغرافيا وبالطبع الممثل.
*أستاذ بأكايمية الفنون