بقلم الدكتور: كمال زغلول
ومما سبق في الحلقات الثلاثة السابقة نجد ملاحظة هامة وهى: اهتمام المصري القديم بالعرض المسرحي، وتقديمه في الأماكن المناسبة لموضوعه، ولذلك كان يُمَثَّل جزء من تلك المسرحية في أماكنها الطبيعية، ففكرة المسرح في الأساس ليست وجود مكان مخصص للعروض، ولكن أساس المسرح هو العرض المسرحي، ومن العروض التي ظهرت بصورة أكثر تطورا نجد مسرحية (انتصار حورس) ونستعرضها لنلحظ هذا التطور في النص والأداء.
انتصار حورس في المسرح
وهذه المسرحية اكتشفها وحققها العالم (هـ. و. فيرمان)، وهى شكل من أشكال الأدب التمثيلي في المسرح الشعبي، وتتميز تلك المسرحية بأنها شكل متقدم في أسلوب الكتابة المسرحية والعرض والأداء، وهذا ما نلاحظه من النص الذي حققه (فيرمان).
إقرأ أيضا : كمال زغلول يكتب: أوزوريس في مسرح مصر القديمة (2)
حبكة هذا العرض في المسرح، قائم على تصوير الصراع بين (حورس وست)، والصراع يدور حول ملك مصر، وتتميز الحبكة بأنها من أولى الحبكات الأدبية في التاريخ والتي تجسد صراعا بين قوى خيرة وأخرى شريرة، يتصارعان مع بعضهما البعض، وقد صور هذا الصراع أيضا بين الخير والشر من خلال مأساة (أوزوريس)، ولكن لم يدم انتصار (ست) كثيرا، حيث لحق به حور وانتصر عليه، وبناء الحبكة يعتمد على وجود مجموعة من الشخصيات مثل: حورس ، إيزيس ، آلهة ، كورس ، راوية (معلق على الأحداث)، وتتميز هذه الحبكة بالرجوع بالزمن إلى الوراء، لتجسيد كيفيه انتصار حورس على ست ، وقتله لفرس النهر .
ومن شخصيات هذا العرض في المسرح نجد أنها يحتوي على راوٍ يعلق على الأحداث، وكورس يشد من أزر حورس وقد يعلق في بعض الأحيان على الأحداث وجميع شخصيات المسرحية تظهر من خلال الأبعاد (مادية – اجتماعية – نفسية).
حوارية العرض في المسرح
نثرية حوارية تنطق على لسان الشخصيات أنفسهم من خلال العرض في المسرح، ونقدم جزءاً من الحوار:
المنشد في عرض المسرح: اليوم يواكب مرور انتصار حورس على أعدائه حينما أسرع لقتل أعدائه بعد الذهاب إليهم للمعركة، وقد حكم ست في محكمة راع ، وقال تحوت.
تحوت: يوم سعيد في هذا اليوم الذي ينقسم إلى دقائق يوم سعيد في هذا اليوم الذي ينقسم بالساعات، يوم سعيد في هذا الشهر الذي ينقسم بالعيد يوم الخامس عشر له، يوم سعيد في هذا العام الذي ينقسم أشهر!، يوم سعيد في هذا الخلود الذي ينقسم إلى سنوات.
حورس في عرض المسرح: يوم سعيد لقد ألقيت حرابي في شغف، لقد تمكنت يداي من رأسه، لقد أطلقت حرابي على أفراس النهر في مياه عمقها ثمانية أذرع، ألقيت حرابي على ثور مصر السلفي في مياه عمقها عشرون، وفي يدي حربة طولها أربعة أذرع وحبل طوله ستون ذراعاً، وحربة طولها ستة عشر قدماً، أنا شاب طولي ثمانية أذرع ، وحاربت بغضب ورميت وأنا واقف في مياه عمقها عشرون ذراعاً، صوبت بيدي اليمنى واستدرت على اليسار كما يفعل الرجل المغوار الشجاع.
إيزيس في عرض المسرح: الإناث الحوامل من أفراس النهر لن يلدن ، أي واحدة منهن لن تحمل عندما يسمعن دوي رمحك، وصليل سلاحك مثل الرعد في الجزء الشرقي من السماء مثل الطبل في يد طفل، وهذا يدل على معرفه المصريين بالأدب التمثيلي، وقد مارسوه في بعض أعمالهم.
و نرى أن هذا العرض المسرحي برغم أدبه التمثيلي وطرق أدائه، إلا أنه كان يخدم أهدافاً دينيةً، وليس وسيلة من وسائل المتعة الجمالية التي تحدث بين الممثل والمتلقي ولكن على ما يبدو أن المصريين كانوا متقدمين في فن التمثيل (هذا العرض في المسرح) منذ القدم، ومعنى أنهم انتجوا تلك المسرحيات، فهم بذلك أولى الدول التي أرست فنون العرض والأداء، وهذه المسرحيات ذات الصبغة الدينية، وممثلوها من رجال الدين ( لم يكونوا محترفين لكنهم أناس اختيروا اختياراً دقيقا وتم تدريبهم)، ونلاحظ أن العروض المسرحية جميعها مرتبطة بالثقافة الشعبية المصرية، وهذا نوع من الفن الديني المرتبط بثقافته.
إمحب وفن اللعب في المسرح
لقد عرف المصري القديم فن التمثيل خارج جدران المعابد، إذ اُكتُشِفَ أثرٌ لممثل جوال يدعى (إمحب) في عرض المسرح، ومن ضمن أقواله في لوحة إدفو: (كنت ذاك الذي يتبع سيده في كل جولاته دون ضعف في الأداء.. ولقد أرد على سيدي كل أدواره: فإذا (قام بدور) الإله كنت (أقوم بدور) الحاكم، وإذا أمات أَحْيَيت.
وهذا الممثل الجوال (إمحب) يوضح أنه كان تابعاً لممثل رئيسي لم يذكر اسمه، وهذا يعني أن مصر كان بها ممثلون جوالون محترفون، مهنتهم فن التمثيل، وكانوا يؤدون شكلاً من أشكال العرض في المسرح، ولكن لا ندري هل كان ارتجالا أم أن هناك نصوص معينة يؤدونها؟، ولكن هذا الممثل يؤكد على وجود ممثلين في مصر ليسوا من رجال الدين، بل فنانين محترفين يؤدون عروضهم في أماكن متعددة في ربوع مصر، إذ أن إمحب في (السطر 12) يوضح جولاته المسرحية (فنعرف منه أنه انحدر معه إلى الجنوب حتى بلده (مبو) على أطراف النوبة، كما يصعد معه إلى الشمال حتى مدىنة (أواريس) التي كانت قد استخلصت للمرة الثانية من أيدي الهكسوس.
وبهذا الأثر لإمحب تكون مصر عرفت فن اللعب التمثيلي على المسرح، ولكن كان هذا الفن يقدم في صورة عروض مسرحية متجولة، وبالطبع كان الهدف من تلك العروض هو التسلية والمتعة الجمالية، ويطوف الممثلين بالعروض لتقديمها في أماكن متعددة في ربوع مصر، وقد كانت مهنةً للبعض يرتزق منها، وهنا يظهر أول الممثلين المحترفين في مصر، وهم فنانون ممثلون عرفوا المسرح لأول مرة في التاريخ الإنساني على وجه الكرة الأرضية، وبهذا يكون المسرح في مصر القديمة قد سبق العالم بقرون عديدة.