بقلم الدكتور: كمال زغلول
قلنا في الحلقة السابقة قلنا في الحلقة تاريخ الفن المسرحي ارتبط بذكر مصر، وهذا التاريخ قد نوه بإشارات غير موسعة، عن طبيعة الفن التمثيلي المصري، واليوم نستكمل نفس المظاهر حول احتفال المصريون بالخصب، فقد كان المصريون يقيمون احتفالا لـ أوزوريس، ويخرجون في مواكب، وقد كانت النساء تحملن الأعضاء التناسلية الذكرية المنحوتة وتحركنها بواسطة خيط، و يشير هيرودوت إلى أنه يكاد يكون احتفال المصريين بعيد (ديونيسيس) أن يشبه من جميع الوجوه احتفال اليونانيين به فيما عدا الرقص، وقد ابتكروا تماثيل بدلا من المذاكير، طول التمثال منها ذراعا يمكن تحريكها بواسطة خيط، تطوف به النساء في القرى وعضو التذكير بها متحرك لا يقل كثيرا في طوله عن باقي الجسم ، ويتقدم الزمار الموكب ، تتبعه النساء اللائي تتغنى بديونيسيس، أما عن السبب الذي من أجله كان عضو التذكير كبير الحجم، وكان يتحرك دون سائر أعضاء الجسم ، فلذلك قصة يروونها.
ونلمح من قول هيرودوت – إشارة إلى سبق المصريين في تكوين الرموز التمثيلية التي تدل على قصة أوزوريس – أن قصة عضو التذكير الخاصة بأسطورة أوزوريس والذي أكلته السمكة وأصبح يرمز للخصب والنماء، قد تم اختزالها في صورة رمز، وتم صنع هذا الرمز بأكبر من حجمه الطبيعي، ليكون دالا على مفهوم اعتقادي عندهم، يرتبط بعملية الخصوبة، ولكن توجد إشارة هامة في قول هيرودوت، وهى معرفة المصريين بفن العرائس، وذلك من خلال التماثيل التي كانوا يصنعونها ويحركون جزءاً من أعضائها بخيط، وهذه فكرة العروسة المتحركة التي تستخدم في مسرح العرائس، ولكن لم نجد أثراً لتلك العرائس المتحركة حتى الآن .
أوزوريس في مصر واليونان
ونلاحظ هنا مدى التشابه بين المصريين واليونانيين في عيد أوزوريس، وخاصة تلك الاحتفالية التي كانت تقام في اليونان لديونيسيوس، ويشير التاريخ المسرحي دوما إلى خروج الدراما اليونانية من خلال تلك الأعياد التي كانت تقام لهذا لديونيسيوس في اليونان، وخاصة العيد الذي كان فيه اليونانيون يحملون العضو الذكري ويخرجون في مواكب، ولكن كان لمصر السبق في تلك الاحتفالات، وهذا يعود لسبب هام ألقى هيرودوت عليه الضوء وهو أن (ميلاميوس بن أموثيون) هو الذي أدخل عبادة أوزوريس إلى اليونان تحت اسم جديد هو (ديونيسيوس) ونقل معه جميع الاحتفالات الخاصة بأوزوريس، وقد تحدث عن ذلك بقوله: (ويخيل إلى ميلاميوس بن (أموثيون) لم يكن يجهل الاحتفال بل كان به عليما لأن (ميلاميوس) في الواقع كان أول من أدخل في بلاد اليونان اسم (ديونيسيس) مستمدا من قصة أوزوريس والاحتفال بعيده وموكب الذكر، إلا أنه لم يفهم بدقة كل ما يتعلق بالفكرة التي جاءهم بها، ولكن الحكماء الذين تلوه هم الذين شرحوها بالتفصيل، أما عن موكب الذكر الذي يقام لديونيسيس، فميلاميوس هو أول من أدخله، ومنه تعلّم اليونانيون ما يعملون.
وهذا يعني أنه كان هناك تأثراً بمعتقدات المصريين من قبل اليونانيين، ودخل في لب ثقافتهم عبادة أوزوريس، ونقل معه جميع أشكاله الاحتفالية إليهم، وقد رأي هيرودوت أن المصريين هم أوائل الشعوب التي عرفت الاحتفالات والمواكب وقد تعلمها اليونانيون عنهم ونقلوها إلى بلادهم، وهذا دال من قوله: (ولقد سبق المصريون الشعوب إلى إقامة الأعياد العامة والمواكب العظيمة، وعنهم تعلمها اليونانيون، ودليلي على ذلك أنها تقام عند المصريين منذ زمن بعيد، بينما لم يحتفل بها اليونانيون إلا منذ وقت قريب.
ويصف لنا هيرودوت عيد إيزيس حبية أوزوريس الشعبي وينقل لنا احتفال الشعب بذلك العيد، باستخدام الدفوف والطبول والرقص، ويتم هذا وهم (وفي طريقهم إلى (بوباسطيس)، يسلكون هذا المسلك: يبحر الرجال والنساء معا ويحمل كل قارب عددا كبيرا من الجنسين، ويطبل بعض النسوة على الطبول بأيديهن، وبعض الرجال يزمرون طوال الطريق، أما باقي النساء والرجال فيغنون ويصفقون فإذا ما بلغوا -أثناء إبحارهم – مدينة من المدن جنحوا بزورقهم إلى الشاطئ وقاموا بما يأتي: بينما تستمر بعض النسوة في القيام بما وصفت سابقاً، تعلو أصوات بعضهن هاتفات، ساخرات بنساء هذه المدينة، وبعضهن يرقصن، كما يقف بعضهن رافعات ثيابهن، والناس يفعلون مثل ذلك عند كل مدىنة على شاطئ النهر وعند وصولهم إلى (بوباسطيس) يحتفلون بالعيد ويقدمون أضحيات عظيمة.
الاحتفالية التمثيلية – عيد آريس
وهذا العيد به واقعة تمثيلية يؤديها جمهور المحتفلين أمام المعبد وهم كثرة في العدد، ويقول هيرودوت: (فأما في بابريميس فيقربون الأضحيات ويؤدون الشعائر كما في سائر الجهات، وعند ميل الشمس إلى الغروب تنصرف قلة من الكهنة إلى الاهتمام بتمثال الإله أوزوريس ويقف أكثريتهم مزودين بعِصِي من الخشب، بينما يحتشد عند مدخل المعبد وفي مواجهتهم جمع آخر من الرجال يربو عددهم عن الألف يوفون بالنذور وبأيديهم عِصِي أيضا، أما تمثال الإله وقد وضع في مقصورة صغيرة من الخشب المذهب – فينقل ليلة العيد إلى بناء آخر مقدس، والفئة القليلة التي كانت تُرِكَت حول التمثال تجر محفة ذات أربع عجلات، تحمل المقصورة والتمثال الذي بداخلها، وبينما يمنعهم الكهنة الذين يقفون عند المدخل من الدخول، يتقدم الذين يوفون بالنذور لنجدة الإله ويضربونهم فيدافع هؤلاء عن أنفسهم وعندئذ تنشب بينهم معركة حامية بالعِصِي؛ فتشج رءوس، بل ويموت كثيرون – كما يخيل إلى – بسبب جراحهم ولو أن المصريين أكدوا لي أنه لا يموت أحد.
ونرى هنا أن تلك الاحتفالية كانت تمثيلية يقوم بها عدد كبير من الأشخاص، وذلك تصويرا لحادثة وقعت لآريس وفق اعتقادهم وقيامهم بهذا العيد إذ (إن نشأة هذا العيد ترجع إلى تلك الحادثة: كانت أم آريس تسكن هذا المعبد، وكان آريس قد رُبِّي بعيدا عنها فلما بلغ سن الرجولة جاء ليتحدث إليها، ولكن أتباعها لم يسمحوا له بالدخول وردوه؛ لأنهم لم يكونوا قد رأوه من قبل فرجع آريس وجاء من مدينة أخرى بحشد كبير من الرجال فأخذ الأتباع بالعنف ودخل على أمه، ومن هنا جرت العادة بأن تنشب هذه المعركة في عيد آريس)، وجميع هذه الأشكال الاحتفالية كانت تتم في مصر القديمة، وبالرغم من أنها تحتوي على بعض المَشاهِد التمثيلية إلا أنها ليست عروضاً مسرحية شعبية، ولكنها تنتمي إلى نمط الاحتفالية فقط، ولم تخرج من هذه الأشكال عروض مسرحية شعبية، بل إن العروض المسرحية الشعبية قد ظهرت مبتعدة عن هذه الأشكال، وكانت ذات طبيعة أدبية تمثيلية وتُقدَّم في صورة عروض مسرحية، وهذا ما سوف نلاحظه عند التعرض للمسرح المصري القديم .
أوزوريس والمأساة المصرية الشعبية
ما وصل إلينا من بعض المدونات الحجرية وأوراق البردي، ينوه بشكل كبير على معرفة المصري بفن المسرح الشعبي، وهذا المسرح كان مؤسساً وفق قواعد فن التمثيل، فقد وجد بعض أشكال الأدب التمثيلي، مع وجود بعض النصوص التي توضح الإرشادات المسرحية لإخراج هذه العروض ومعنى ذلك أن هذا الأدب قد تم تطبيقه في صورة عروض مسرحية (دراما)، وبالرغم من أن هذا الأدب يرتبط بالعقيدة المصرية القديمة، بيد أنه له فكر وأسلوب في الكتابة المسرحية، وطريقة عرض مسرحي وفق رؤيا إخراجية، وإذا تعرضنا للفكر الذي ناقشه هذا الأدب سنجد أنه يناقش عملاً مأساوياً، فقد أظهر هذا الأدب التمثيلي الشعبي الفجيعة الأولى والتي حدثت لـ أوزوريس، وناقش أولى المآسي التاريخية
تتحدث الأسطورة المصرية القديمة ، عن أولى المآسي التاريخية ، وهى مأساة ذات طابع إنساني وتتمثل في قتل الأخ لأخيه، إذ أن ست قتل أوزوريس، وذلك نتاج حقده عليه وعلى أفعاله التي فعلها للمصريين، والتي كانت سبباً في حب المصريين الشديد لهذا الشخص، فهي لم تكن مأساة خاصة بشخص، ولكنها مأساة خاصة بالشعب الذي علمه أوزوريس الحضارة، إنه البطل الشعبي المصري الذي قدَّسه المصريون، ومن هنا نلاحظ أن هناك معنى للمأساة داخل الثقافة المصرية الشعبية، وتلك المأساة تم التعبير عنها في صورة تمثيلية مسرحية صورت آلام أوزوريس ومعاناته والناتجة عن المحاولات التي يقوم بها أخيه لقتله، ونتعرف على هذا الشكل المسرحي عبر الدراما المنفية – أو مسرحية بداية الخليقة .