كتب : محمد حبوشة
في خضم أفلام عيد الأضحى المبارك التي تجنح في غالبها إلى نوع من الكوميديا المستهلكة الأكشن الساذج إلى حد التقزز، قررت العودة إلى الوراء قليلا وأشاهد بمتعة آسرة فيلم المصارع Gladiator، ومن منا لم يستمتع بمشاهدة أهم سادس فيلم في تاريخ السينما العالمية، والذي صور الحملة العسكرية العنيفة التي شنها الجيش الروماني بقيادة الجنرال (ماكسيموس ديسيموس ميريدوس)، على القبائل الألمانية التي كانت تعيش في المنطقة الواقعة بين نهري الراين والدانوب، والذي تم تصويره في ورزازات المغربية.
وبحسب فيلم المصارع، كانت الإمبراطورية الرومانية حينها في قمة سلطتها شديدة الاتساع، إذ امتدت من صحاري إفريقيا حتى الحدود الشمالية لإنجلترا، وقصة الفيلم تتحدث عن تحول (ماكسيموس ديسيموس ميريدوس) من قائد في الجيس إلى عبد يباع ويشترى، قبل أن يصبح مصارعا تحدى الإمبراطور في عقر داره فيما بعد، لكن ما علاقة المصارع Gladiator بالأحداث التاريخية الحقيقية التي وقعت خلال تلك الحقبة الزمنية؟
إقرأ أيضا : خواكين فينيكس .. من جحيم الفقر إلى نعـيم الأوسكار
تبدأ أحداث فيلم المصارع، الذي لعب بطولته (راسل كرو وخواكين فونيكس)، وأخرجه ريدلي سكوت من ألمانيا، حيث كانت تدور هناك حروب الرومان ضد القبائل المحلية، وكانت بقيادة الجنرال (ماكسيموس) الذي استطاع الانتصار في الحرب، والحفاظ على حدود الإمبراطورية الرومانية، وتمحور الفيلم حول بطل خيالي، وهو (ماكسيموس)، المصارع الذي قتل الإمبراطور (كومودس)، الأمر الذي لم يحدث تاريخيا، فشخصية (ماكسيموس) هى شخصية خيالية استوحاها صناع المصارع Gladiator من أكثر من شخصية تاريخية حقيقية.
المصارع وسبارتاكوس
بعض خصال (ماكسيموس) استوحيت من العبد سبارتاكوس، الذي أضحى مصارعا وقاد تمردا ضد الإمبراطورية الرومانية، انتصر خلاله بـ 9 معارك قبل أن ينهزم في نهاية المطاف، وهو ما يذكر بقصيدة الشاعر المصري العظيم أمل دنقل بعنوان (كلمات سبارتاكوس الأخيرة) وهى قصيدة طويلة تلخص معاناة البطل الشعبي حين يفقد قوته وجبروته، ويقول في مطلعها :
(مزج أوّل ):
المجدُ للشيطانِ .. معبود الرياحْ
مَن قالَ (لا) في وجهِ من قالوا (نعمْ)
من علّمَ الإنسان تمزيق العدمْ
من قال (لا) .. فلم يمت،
وظلّ روحاً أبديّة الألمْ !
(مزج ثان):
معلّقٌ أنا على مشانق الصباحْ
و جبهتي – بالموت – محنيّةْ
لأنّني لم أحنها.. حيّةْ!
……………………
يا إخوتي الذين يعبرونَ في الميدانِ مطرقينْ
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الاسكندر الأكبر:
لا تخجلوا.. و لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ:
يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكمْ .. مرّةْ!
(سيْزيفُ) لم تعدْ على أكتافه الصّخرةْ
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق
و البحر.. كالصحراء.. لا يروى العطش
لأنّ من يقول (لا) لا يرتوي إلاّ من الدموع!
.. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهون مثله.. غدا
و قبّلوا زوجاتكم.. هنا.. على قارعة الطريق
فسوف تنتهون ها هنا.. غدا
فالانحناء مرّ..
والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى
فقبّلوا زوجاتكم.. إنّي تركت زوجتي بلا وداعْ
و إن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناء!
علّموه الانحناء!
……………………
اللهُ لم يغفر خطيئة الشيطانِ حين قال لا!
و الودعاء الطيّبون..
هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنّهم.. لا يشنقون!
فعلّموه الانحناءْ..
وليس ثمّ من مفرْ
لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ..
فخلف كلّ قيصرٍ يموتُ: قيصرٌ جديدْ!
وخلفَ كلّ ثائر يموتُ: أحزان بلا جدوى ..
و دمعة سدى!
ماكسيوس المصارع العتيد
وربما كان أمل دنقل يرى ما تمناه (ماكسيوس) قبل أن يقتل الأمبرطور (كومودوس) في حلبة المصارعة ويموت بعدها، فقد اعتمد مؤلفو فيلم المصارع على شخصية (تارتينس باترينوس) قائد القوات الرومانية ضد الألمان (179 سنة قبل الميلاد)، وكان للمحارب السوري (تبيريوس كلاوديوس بومبيانوس) نصيب من شخصية (ماكسيموس الخيالية)، إذ كان محبوبا لدى الإمبراطور (ماركوس أوريليوس)، وتزوج من ابنته (لوسيلا).
وطبقا لأحداث فيلم المصارع الغريبة والمثيرة التي تعتمد على المفارقات المذهلة بعد أن انتهت الحرب، طلب الجنرال (ماكسيموس) من قيصر روما (أوريليوس) أن يعود إلى بلاده من أجل رؤية زوجته وابنه، لكن القيصر رفض، وطلب منه أن يقوم بواجبه تجاه روما وأن يعيدها إلى ما كانت عليه، وبذلك يتسلم ماكسيموس سلطات القيصر كاملة بعد وفاته ليعيدها إلى مجلس الشيوخ، تمهيدا لإعادة الحكم الجمهوري إلى روما، والقضاء على حكم الفرد الواحد.
يرفض (ماكسيموس) في البداية طلب القيصر، لكنه وتحت إلحاح القيصر يقرر التفكير في الأمر الذي لن يتم بسهولة، وخلافا لما جاء في فيلم المصارع Gladiator، ووفقا للأحداث التاريخية لم يرغب القيصر في إعادة روما إلى العهد الجمهوري، كما لم تكن لدى مجلس الشيوخ أية نية في الإمساك بمقاليد الحكم، وانتقل عرش روما بشكل شرعي إلى ولي العهد الإمبراطور (كومودس)، الذي كان يبلغ حينها 18 من العمر، وعلى غرار ما جاء في أحداث الفيلم كان (كومودس جبانا)، وعلى الرغم من ذلك كان متعلقا بشدة بألعاب القتال في روما.
ووفقا لأحداث فيلم المصارع، فإن (لوسيلا) شقيقة الإمبراطور (كومودس) خططت للانقلاب على حكم أخيها، وذلك بالتعاون مع مجلس الشيوخ والجنرال (ماكسيموس) ، لكن الحقيقة كانت أسوأ قليلا، فما قامت به (لوسيلا) في الواقع هو تدبير قتل شقيقها بالتعاون مع مجلس الشيوخ، عبر قاتل مأجور، وعلى غرار ما جاء في الفيلم اكتشف أخوها المؤامرة، وألقى القبض على القاتل، ونفى شقيقته إلى جزيرة كابري الإيطالية، وفور أن علم (كومودس) بمخطط والده قرر قتله على الفور، ثم طلب الولاء والإخلاص من قائد الجيش الروماني الجنرال ماكسيموس.
هرب المصارع مكسيموس
علم المصارع (ماكسيموس) بأن (كومودس) قتل والده بسبب وصيته الأخيرة، لذلك رفض تقديم الولاء للإمبراطور الجديد، الذي بدوره أمر بقتله في غابات ألمانيا، واستطاع ماكسيموس الهرب من جنود الإمبراطور الجديد، لكن ما إن وصل إلى بيته حتى وجد جنود الإمبراطور قد سبقوه إلى هناك وقتلوا زوجته وابنه، دفن ماكسيموس عائلته وسقط مغشياً عليه، ليجد نفسه بعد ذلك عبدا بإقليم (زوكابار) الروماني، وبعد أن ألقى تجار العبيد القبض على (ماكسيموس) أثناء فقده للوعي باعوه إلى بروكسيمو، أحد المصارعين القدامى الذين ينظمون مباريات القتال أمام الجماهير الغفيرة، والمصارع المنتصر هو الذي يقتل جميع الموجودين في حلبة المصارعة ويبقى حياً حتى النهاية.
استطاع المصارع ماكسيموس الصمود بسبب مهاراته القتالية، وفي تلك الأثناء قرر الإمبراطور الروماني الجديد (كومودس) استضافة دورة ألعاب مصارعة استجداء لحب الشعب، وتمهيدا لسحب كافة السلطات من مجلس الشيوخ، وبسبب مهارات (ماكسيموس) البارعة في القتال، يقرر (بروكسيمو) اصطحابه إلى روما للمشاركة في دورة الألعاب المزمع إقامتها في مدرج روما الكبير، وبحسب أحداث فيلم المصارع، استطاع (ماكسيموس) أن يحظى بحب الجماهير، بسبب أدائه البارع في القتال، وهو ما حدا بالإمبراطور الجديد إلى النزول إلى الحلبة من أجل مقابلة المصارع القوي، الذي كان متخفيا حينها في خوذته الحديدية.
ولكن الإمبراطور يطلب منه الكشف عن هوية المصارع البارع، ليتفاجأ بكونه جنرال الجيش الروماني، يحاول الإمبراطور بعدها قتل (ماكسيموس) أكثر من مرة، خاصة بعد علمه أن أخته (لوسيلا) حاولت التواصل معه من أجل تنفيذ وصية والدها، وتسليم السلطة لمجلس الشيوخ، فقد كان (كومودس) يعلم بمخططها وقبض على (ماكسيموس) مقررا قتله أمام شعب روما في معركة بينهما في حلبة القتال، لكن بسبب معرفة الإمبراطور الجديد بقدرات (ماكسيموس) القتالية، طعنه في كتفه بشدة قبل بداية المعركة حتى يؤثر على قوته.
المصارع ماكسيموس يقتل كومودوس
لكن المصارع ماكسيموس استطاع في النهاية قتل (كومودس)، وبسبب جرحه البالغ مات هو أيضا في النهاية، بعد أن سلم سلطات القيصر إلى مجلس الشيوخ، لكن في القصة الحقيقية، كان الإمبراطور (كومودس) مولعاً بألعاب القتال وتربية الحيوانات المفترسة، تمهيدا لدخولها الحلبة من أجل قتل المصارعين، وقد كان (كومودس) يقضي أغلب وقته مع الأسود والنعام داخل ساحات القتال في روما، وعوضا عن قضاء الوقت في تربية الحيوانات من أجل التدريب على القتل، قرر (كومودس) استئجار مصارع وتدريبه على القتال داخل ساحات روما، وهو المصارع (نركسوس)، وبعد أشهر من التدريب خنق (نركسوس) الإمبراطور الصغير حتى الموت.
وبغض النظر عن القصة الحقيقية لفيلم المصارع، فإن الأداء التمثيلي لكل من بطل الفيلم (راسل كرو/ ماكسيموس) وغريمه (خواكين فوينكس) كان غاية في الدقة والإتقان على مستوى لغة الجسد، فقد برع (راسل كرو -Russell Crowe) في تجسيد دور (ماكسيموس) القائد الروماني الذي تجبره الخيانات والغدر والظروف على أن يصبح عبدا باحثا عن الإنتقام من (كومودوس)، كان تحت رعاية الإمبراطور (ماركوس أوريليوس) ويحظى بعطفه ورعايته، مثلما كان يحظى بحب واحترام (لوسيلا) قبل أن تبدأ أحداث الفيلم، وكان (ماكسيموس) يريد العودة إلى دياره بعد أن انتهت الحرب بالانتصار، لكن الامبراطور استبقاه لمهمة أخيرة كي يكون وصيا ويعيد روما إلى عهد الجمهورية، بعد مقتل زوجته وابنه يعاهد نفسه على الانتقام، وهي في الواقع شخصية خيالية استلهمها المؤلف من شخصيات تاريخية واقعية عديدة مثل (ماكرينيوس ونارسيسيوس وسبارتاكوس وماكسيموس الإسباني) وغيرهم، وبالمناسبة عرض الدور أولا على (ميل جبسون)، لكنه رفض لأنه شعر بأنه قد أصبح كبيرا في العمر على أداء هذا الدور.
براعة أداء أبطال المصارع
خواكين فوينكس – Joaquin Phoenix: مثل دور كومودوس، الابن الفاسد اللاأخلاقي لماركوس أوريليوس على نحو مغاير، قتل أباه عندما علم أن (ماكسيموس) سوف يتسلم مقاليد السلطة في الإمبراطورية إلى أن يتم تشكيل مجلس شيوخ جديد، سابقا لعب هذا الدور (كريستوفر بلومر) في فيلم (سقوط الإمبراطورية الرومانية – 1964)، كما فكر المخرج بالممثل (جود لو) لهذا الدور أيضاً.
كوني ويلسون – Connie Nielse: لعبت ببراعة دور (لوسيا)، الحبيبة السابقة لماكسيموس والإبنة الكبرى لماركوس أوريليوس، وبعد أن ترملت مؤخرا حاولت مقاومة الميول المحارمية لأخيها كومودوس، كما في مشاهد قليلة تسجل حبه الشاذ لأخته وحماية ابنها الصغير (لوسيوس) الذي يزمع توليه العرش من بعده.
جاء أداء أوليفر ريد: – Oliver Reed في دور (أنتونيو بروكسيمو) رائعا للغاية، حيث مثل شخصية عجوز فظ ومدرب المبارزين الذي يشتري (ماكسيموس) في شمال أفريقيا، هو نفسه كان مبارزا سابقا حرره (ماركوس أوريليوس)، وقد منح (ماكسيموس) عدته القتالية السابقة ووعدا بالحرية في نهاية المطاف، كان هذا فيلم (أوليفر ريد) الأخير فقد توفي خلال التصوير، في السيناريو الأصلي كان (بروكسيمو) يعيش حتى النهاية.
ديريك جاكوبي – في دور الشيخ أو السيناتور كراشيوس لعب دورا مهما حيث كان يعارض حكم (كومودوس) فقد بدا عظيما وبإتقان نادري يصعب تكراره في فيلم المصارع أو غيره من الأفلام التاريخية الأخرى.
دجيمون هونسو – (جوبا): جسد بحرفية مطلقة شخصية أحد رجال القبائل النيوميدية الذي اقتيد من قبيلته وعائلته من قبل تجار العبيد، وأصبح صديق (ماكسيموس) المقرب، بلتقائية تنم عن ما يعتمل قلبه من مآس حقيقية حول حياة هؤلاء الأفارقة الأفذاذ.
توماس أرانا – Tomas Arana: حلق عاليا في دور (كوينتوس) الذي قاتل تحت قيادة المصارع (ماكسيموس) وكان مخلصاً له، لكن (كومودوس) عينه قائدا للحرس الإمبراطوري ليكسب ولاءه، ومع الوقت تكشف له الجانب الشرير من (كومودوس) خصوصا عندما أجبره على قتل رجلين بريئين، لاحقا استعاد (كوينتوس) ذاته عندما منع الحراس من إعطاء (كومودوس) سيفا في نزاله الأخير مع (ماكسيموس).
رالف مولر: برز في دور (هاجن) المبارز الألماني ورئيس المبارزين لدى بروكسيمو، والذي يصادق ماكسيموس و (جوبا) خلال معاركهم في روما، وبذلك سجل حضورا طاغيا انعكس على أحداث فيلم المصارع في خضم الأحداث الدموية.
أجاد تومي فلانغان – Tommy Flanaga: الذي جسد شخصية (سيلسيو) خادم ماكسيموس الوفي، الذي زوده بالمعلومات عندما كان (ماكسيموس) مستعبداً، وقد استخدم كطعم لماكسيموس الهارب وقتل خلال ذلك.
العملاق ريشارد هاريس: – Richard Harris (ماركوس أوريليوس) جاء أداءه عذبا في تراجيدية متقنة من خلال دور إمبراطور روما الذي عين (ماكسيموس) وأحبه كابن له من أجل أن يحقق الهدف النهائي بإعادة روما إلى الشكل الجمهوري من الحكم، لكن الأقدار شاءت أن اغتاله ابنه (كومودوس) قبل أن تتحقق رغبته.
ريدلي سكوت مخرج المصارع
ولاشك أن المخرج (ريدلي سكوت) استطاع التحكم بشكل مطلق في طاقم العمل الأسطوري المصارع، وساهم في أبداعه الديكور والملابس التي جاءت مناسبة تماما لأجواء أحداث تتسم بالعنف والدموية، وساهمت الموسيقى التصويرية في تجسيد الأحاسيس والانفعالات الدراخلية والخارجية للممثلين في خضم الأحداث، بل لعبت الموسيقى التصويرية دورا حساسا في رسم معالم إضافية للقصة لايمكن كتابتها، وإيصال مشاعر لا يمكن للممثل تقمصها أو النطق بها، فهي اللمسة الأخيرة التي تغلف المشهد السينمائي بسحر خاص ينقل المشاهد إلى عالم آخر، يسكنه أبطال العرض الذي يشاهده.
كما عملت الموسيقى التصويرية أحيانا على كشف الأحداث المستقبلية لفيلم المصارع، إذا استطاع المشاهد فهمها وتحليلها، فهنالك مشاهد لا يمكن أن نراها بعظمتها الحالية لولا وجود موسيقاها التصويرية، إذا، العمل على موسيقى لعرض سينمائي أو تليفزيوني هو أمر حساس وليس بالسهل، يخصص له الجوائز الفنية العريقة، ومن ثم تحققت لدى متعة لا تعدلها متعة أخرى مثلما جاء في أفلام عيد الأضحى المبارك من هزل سينمائي فاضح، والتي تؤكد لنا قزمية السينما المصرية إذا تم مقارنتها بمتعة بصرية آخاذة كفيلم المصارع الذي حلقت معه في آفاق مغايرة!