طلعت حرب سبب وجود أغنيات الحج والكحلاوي أول من تغنى بها
كتب : أحمد السماحي
بينما قلوب الجمع الوفير وجلة بين الصدور من فرط بهاء المشهد الروحاني السنوي في أقدس موسم إسلامي هو الحج، تتطلع اليوم عيون الملايين سواء من حجاج بيت الله الحرام أو باقي المسلمين في شتى بقاع الأرض نحو جبل عرفات العتيق، رافعين أكفهم ومتوجهين إلى السماء بالدعاء مرددين نشيدهم الأبدي (لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك لبيك)، وفي قلب هذا المشهد النوراني تتجلى قدرة الله جل جلاله في عرفات ومنى والمزدلفة، مصحوبة بتمتمات الشفاه بكلمات الله الواحد الأحد.
تلك الأجواء الروحانية التي ترفرف على المشاعر المقدسة داعبت خيال الشعراء على مر التاريخ فأنتجوا لنا مئات القصائد والأغنيات التي تسجل عظمة الله في تلك الأيام المباركة في الحج، فجاءت أناشيد عذبة في صورة نفحات روحانية على حنجرة أساطين الطرب لتحل البركة وتزيم أرشيف هؤلاء، بينما نطرب نحن مستحضرين تلك المشاهد التي لاتنسى في بهاء ودعة.
المنشدين والمداحين في الحج
كانت أغنيات الحج في القرن التاسع عشر مقصورة على المنشدين، والمداحين الشعبيين وعازفي الربابة، ينشدون بالغناء قصة مناسك الحج، والتى تزدان بمديح النبى صلى الله عليه وسلم ومحاسنه، ونبل أخلاقه الكريمة وصفاته الجميلة والمعجزات التى اشتملت عليها سيرته الذاتية، وكان هؤلاء المداحين يمرون فى شوارع وميادين القرى والكفور والنجوع، ينشدون بداية من (طلعة المحمل) آخر شهر ذو القعدة، وهى باتجاها نحو مكة حاملة كسوة الكعبة الشريفة، حتى رجوع الحجاج إلى منازلهم سالمين معافين وخالين من المعاصي والذنوب.
إقرأ أيضا : أحمد الكحلاوي : (يارايح للحبيب) نفحة عن الحج اكتشفتها في أرشيف مداح الرسول
وكانت تغطى هذه المدائح والتواشيح الكثير من مراحل الحج، وطقوسه، ووسائل النقل له، فمرة ينشدون في (موكب المحمل):
ودينى يا دليل ودينى، ع النبي أشوفه بعيني
النبى آهو عدا وفات، على منى وجبل عرفات
وينشدون في انتظار الباخرة :
يازايرين النبي خدونى معاكم
تركبوا البواخر وأنا أمدحه وياكم
الباخرة عما تنادي، يلا يا زوار الهادي
الباخرة طالعة قدامي، رايحة لحج التهامي
وقبل ركوب الحجاج الباخرة من ميناء السويس في طريقهم لأداء مناسك الحج، كانوا غالبا يزورون مقام (سيدنا الغريب)، فينشدون : (يلِلى دعاك النبى زور الغريب قبليه، تاخدك بواخر وتروح في الشروق قبليه)، وغيرها من الأناشيد التى كانت (تحنين) للحجاج المسافرين، لترقيق مشاعرهم وحثهم على العودة إلى أهاليهم، وزادا للحجاج فى رحلتهم الوجدانية.
الإذعة وأغنيات الحج
لم تعرف مصر أغنيات الحج، أو غيرها من أغنيات المناسبات سواء الوطنية أو الدينية أو حتى الدنيوية إلا بعد ثورة 1919، حيث كان هذا النوع من الغناء بعيد تماما عن تناول الشعراء والملحنين والمطربين، وإن كانت الأغنية الدينية التي تتحدث عن الغفران والتوبة أو التي تناجي الله عز وجل موجودة بقوة على حناجر شيوخ الغناء، ومع ثورة 1919 ووجود موسيقار عبقري مثل سيد درويش عرفت مصر الأناشيد والأغنيات الوطنية والدينية والدنيوية، وظلت الأغنيات التى تتحدث عن مناسبة هامة مثل الحج بعيدة تماما عن حناجر المطربين والمطربات، حتى افتتحت الإذاعة المصرية عام 1934، وبدأت تهتم بكل المناسبات، فظهرت أغنية الحج.
إقرأ أيضا : علي الحجار : أنشد تكبيرات العيد بناء على طلب إذاعة الأغاني
كانت البداية وكما يقول الباحث الموسيقي الدكتور نبيل حنفي محمود: (من خلال شركة مصر للتمثيل والسينما التى تأسست عام 1925 ، وشركة مصر للملاحة البحرية التى دشنت فى عام 1934 وإلى هاتين الشركتين الرائدتين يعزى أول ما حفظ الغناء المصري من أغنيات الحج، حيث شهدا عامي 1935 و1936 انتظام خطين للملاحة عملت عليهما بواخر شركة مصر للملاحة البحرية فيما بين مصر وكل من أوروبا والمملكة العربية السعودية، حيث خصصت الشركة الباخرتين (النيل والكوثر) لنقل الركاب فى رحلات صيفية بين ميناء الإسكندرية ومينائي (جنوا ومرسيليا)، بينما سيرت كل من الباخرتين (كوثر وزمزم) بين مينائي السويس وجدة لنقل حجاج بيت الله الحرام).
اشتياق الحجاج
لما كانت شركة مصر للتمثيل والسينما تمتلك من الإمكانات الفنية من قاعات للتسجيل الصوتي، مما جعلها تنتج أغنيات، وبحس تجاري راق بعد أن أنتجت فيلم (وداد) لأم كلثوم، سخرت الإمكانات التى تمتلكها لإنتاج مجموعة من الأغنيات عن الحج، واستعانت ببعض الملحنيين من ذوى النشأة الدينية مثل (زكريا أحمد، أحمد عبدالقادر، محمد الكحلاوي)، وكانت أغنية (اشتياق الحجاج) التى لحنها وغناها محمد الكحلاوي والتى أذيعت فى الثانية عشر من ظهر يوم الأحد 26 / 4 / 1936 هى أول تلك النوعية من الأغنيات.
وهنا يقول الدكتور نبيل حنفي: لقد بلغ اهتمام شركة مصر للتمثيل والسينما، بما أنتجت من أغنيات عن الحج، حتى إنها ضمنت أول حفلة غنائية نقلتها الإذاعة يوم الثلاثاء الخامس من يناير 1937 تحت مسمى (حفلة بنك مصر الموسيقية)، ضمنتها مجموعة من الأعمال الغنائية التى تناولت شعائر الحج من هذه الأعمال (ذهاب الحجاج) تأليف بديع خيري، تلحين زكريا أحمد، وغناء نجاة علي، والتى مزج فيها بديع خيري بين مشاعر الحج والدعاية لبنك مصر وشركاته فقال:
صون يا ابني حجاجك نالوا الشفاعة بيك
ويا بحر هدي أمواجك زمزم وكوثر فيك.
كما غنت نجاة علي أيضا مجموعة من الأغنيات عن الحج منها أنشودة (عودة الحجاج) لبديع خيري وزكريا أحمد، وفيها تقول:
مبروك عليك الحج والفرض اتوفى
يا مهني بعد الغيبة أهل وناس.
ولم تكتف نجاة بهاتين الأغنيتين فقط، ولكنها قدمت أيضا أغنية (يارايح جدة على زمزم)، كلمات حسن صبحي، ألحان محمد القصبجي، فضلا عن مجموعة مواويل تتناول بعض الطقوس والشعائر فى الحج منها (سيري يا زمزم)، و(يا اللي أنت رايح تحج البيت).
وقدم المطرب صالح عبدالحي، فى نفس المناسبة كدعاية لبنك مصر أغنية (ضيف النبي مكروم)، كلمات بديع خيري، ألحان محمد القصبجي، وفى عام 1937 قدمت المطربة حياة محمد أغنية بعنوان (عودة الحجاج) كلمات يونس القاضي، ولحن عبده قطر يقول مطلعها:
الفرحة تمت يا حجاج طفنا وزرنا وحجينا
كوثر وزمزم فى الأمواج تحادينا وتسمي علينا
ما أحلى وقوفنا فوق عرفات ودخولنا فى روضة الهادي.
يارايحين للنبي الغالي
هذه هى البدايات الأولى لأغنيات الحج التى لا تذاع إطلاقا في الإذاعة، والتى تستعين عنها الإذاعة بالأغنيات الشهيرة مثل (يارايحين للنبي الغالي) لليلى مراد، (إلى عرفات الله، والقلب يعشق) لأم كلثوم، و(عليك صلاة الله وسلامه) لأسمهان، و(بشاير من الحبيب هله) لسيد إسماعيل، (مدد يا نبي) للكحلاوي، (لبيك اللهم ما لبيك) لمحمد عبدالوهاب، (سفينة الحجاج) لهاني شاكر وغيرها.