بقلم : محمد حبوشة
يظل المصريون فخورين بـ القوى الناعمة لبلادهم، خاصة أنها برزت في المنطقة العربية من العالم قبل انتشار هذا المصطلح في تسعينيات القرن الماضي على يد (جوزيف ناي) وهذا حقهم، ففي العالم العربي تعتبر مصر الدولة الأكثر سكانا وذات الجيش الأقوى، بالإضافة إلى تمتعها بموقع هام وجهاز مخابرات ذي نفوذ كبير، وقد كان يقال بأن القاهرة إذا عطست، فإن المنطقة بأكملها قد تصاب بالزكام.
ولأن التاريخ ليس من صنع جيل واحد من البشر، فإن أجيالا طويلة صنعت تاريخ هذا البلد الذي ما تزال آثاره دليلا عليه، سواء في المرحلة الفرعونية أو اليونانية أوالرومانية أو الإسلامية أو في العصر الحديث، ويعتبر تاريخ مصر وآثارها أحد أهم مقومات القوة الناعمة لمصر، وعلى مر التاريخ كان موقع مصر سببا من أسباب بلائها وأطماع الأعداء فيها، ومع ذلك فقد آن الأوان لاستخدام الموقع كواحد من مصادر القوى الناعمة، فليست هناك دولة تتمتع بهذا الموقع المركزي تجاريا وجيوستراتيجيا في العالم كله، هذا رأسمال غير مادي لم نبرع في استثماره بعد.
إقرأ أيضا : الإعلام المصري في قبضة (أسد جريح) لايسمح بالاقتراب من عرينه!
أيضا الثقافة والفنون، تعتبران من أهم مصادر القوى الناعمة لمصر تماما كما هى بالنسبة للدول والجماعات في العالم، وتقدم الثقافة والفنون في العادة صورة عن الجماعة المعنية لدى الآخرين، وهناك دول برعت حتى الآن في تقديم ثقافتها إلى العالم بقصد اكتساب حب الآخرين وتقديم صورة إيجابية إلى الخارج، وفي مصر ماتزال توجد هنالك مصادر مهمة للثقافة بوسعها أن تقدم صورة أفضل للعالم كله منها الدين الإسلامي والدين المسيحي وفنون السينما والتليفزيون والدراما التفلزيونية والفنون التشكيلية، وربما توارى ذلك قليلا الآن في ظل صعود دول في محيطنا العربي، ومنها المملكة العربية السعودية على سبيل المثال حين عضدد من قواها الناعمة على جناح الترفيه الذي يحقق لها حاليا مقاصدا اقتصادية وسياسية على جناح تفعيل دور القوى الناعمة في مجال الفنون، التي تراجعت مؤخرا.
أزرع القوى الناعمة
ومعروف إن الغناء السينما والدراما التلفزيونية التي تعتبر أحد أزرع القوى الناعمة يمتد عمرها في مصر لأكثر من مائة عام استطاعت فيها تجسيد المجتمع وازدواجيته، فضلا عن التعبير عن هموم الناس باختلاف طبقاتهم الاجتماعية، بداية من الفنان (علي الكسار، ثم نجيب الريحاني وبديع خيري، ورمسيس نجيب أشهر باشاوات السينما)، وأنتجت آنذاك مجموعة من الأفلام التي جسدت المجتمع المصري بحذافيره وتناقضاته، على عكس الإنتاج الحالي في مجال الغناء الذي تردى كثيرا، ناهيك عن إنتاج سينمائي ودرامي يخلو من مضمون حقيقي إلا قليلا من أعمال وطنية ماتزال تحافظ على الهوية المصرية، وهو ما أدى بالضرورة إلى تراجع القوى الناعمة المصرية حاليا!
القوى الناعمة المصرية ياسادة ممثلة في السينما والدراما التليفزونية والأغاني هى صانعة الثورات بامتياز، لا لأن (التغيير) مفهوم ثقافي، ولا لأن الثقافة سلاح المواجهة الأول لدى المصريين، بل لأن الثقافة مكون أساسي في الشخصية المصرية عبر تراث هائل من الفنون المرئية والمسموعة التي ساهمت إلى حد كبير في تنمية الوعي وتطوير العقلية، إلى أن زحف علينا طوفان المهرجانات الغنائية وأفلام الكوميديا الهزلية، ودراما العنف والقسوة والعشوائية وإهانة المرأة، والتراجع عن الإنتاج الديني والسير الذاتية التي تقدم القدوة والمثل، وهو ما نال كثيرا من تراجع قوانا الناعمة ووضعها على حافة الخطر الحقيقي في هذه اللحظة الحاسمة من عمر الوطن.
الدراما والقوى الناعمة
وظني أن الدراما التلفزيونية أحد أهم مصادر القوى الناعمة تحديدا أصبحت من ضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم ترقى إلى مستوى الأمن القومي المصري للأسباب التالية:
أولا: لأن الأمن القومي يتمتع بعدد من العناصر المكونة له، والتي عند الوفاء بها على حدة، فإنها توفر الأمن للدولة فيما يتعلق بقيمها ومصالحها وحرية اختيار السياسات بها، وتسرد السلطات على اختلافها هذه العناصر بصورة متباينة، ويتم بشكل شائع أيضا إدراج الجوانب المتعلقة بالسياسة والمجتمع والبيئة والطاقة والموارد الطبيعية والاقتصاد، وترتبط عناصر الأمن القومي ارتباطا وثيقا بمفهوم عناصر القوة الوطنية والتي تلعب القوى الناعمة ومن بينها الدراما التليفزيونية والسينما والأغاني فيها دورا كبيرا، لأنها تخاطب المشاعر وتركز على القيم وتقدم نماذج مثالية في الفداء من أجل الوطن.
إقرأ أيضا : علي مبارك .. رائد التنوير الذي برهن على قوة مصر الناعمة
ثانيا: كما في حالة القوة الوطنية، يكون الجانب الأمنى هو المهم، ولكنه في الوقت نفسه ليس المكون الوحيد للأمن القومي، وحتى يتحقق الأمن الحقيقي، تحتاج الأمة إلى أشكال أخرى من الأمن الذي تصنعه الدراما على جناح سحر الصورة، ومن هنا تختلف السلطات وفقا لخيارات كل منها في تحديد عناصر الأمن القومي للدولة، فعلى مدار سنوات كان هناك نقد متكرر لاذع لأشكال من الدراما المقدمة، وكانت فى المشهد أيضا أعمالا جيدة الصنع، يعول عليها فى حفظ صورة الدراما المصرية وضمان قوة تأثيرها، محققة جانبا من جوانب الارتقاء بالذوق العام، وتسليط الضوء على المجتمع بالعلاج والإصلاح، وتقديم قدوة جيدة، لنفهم أن المسلسلات تحديدا (باعتبارها الأطول مشاهدة) من أدوات الحفاظ على الأمن الثقافى والاجتماعى والفكرى.
ثالثا: تلعب الدراما التلفزيونية على سبيل الحصر دورا مهما باعتبارها واحد من القوى الناعمة في تحصين المجتمع، ليصبح بها العمل الناجح (بمعايير تعزيز الهوية المصرية) تنقية للفكر العام من شوائب الفساد والإفساد، ومواجهة للأفكار المدمرة والموجهة للدولة بكل مكوناتها، كرصاص مغموس (بالسيانيد) إن لم يقتل بالخرق يقتل بالسم، وصولا للحفاظ على الأمن والسلم العام الداخلى، لذا فإنني يقينا أعتبرها واحدة من من أدوات (الأمن القومى المصرى) حاليا، ومما سبق، ستجد هذه المقومات قد تطابقت مع بعض الأعمال الدرامية فى تاريخنا، مثل الأشهر والأبرز مسلسل (رأفت الهجان)، الذى استلهم منه العالم العربى وليس المصريين فقط روح البطولات الحقيقية، وأثار الغيظ والغل فى نفوس العدو وقتها.
أيقونات القوى الناعمة
وعلى مستوى الصناعة فقد أصبحت تفاصيل (رأفت الهجان) بما فيها موسيقاه كلاسيكية وأيقونة للمصرية والوطنية، فكان ولا يزال له تأثيره على المواطن وانتمائه، ثم غاب عن المشهد بصورة كبيرة مثل هذه الأعمال ذات الطابع الوطنى الحديث شديد التأثير منذ حلقاته الأولى والتى يلتف حولها المصريون والعرب، بحثا عن روح الانتصار للأرض أو للإنسانية، أو تمسكا بالعقيدة الأزلية (الشرف)، حتى ظهر علينا فى رمضان 2020 ملحمة إنسانية وطنية درامية رائعة تسمى (الاختيار) موثقا لبطولات المصريين جمعاء عبر الجيش المصرى، مجسدا قوة الشهداء والأحياء مثل المقدم الشهيد (أحمد منسى) ورفاقه، رحمهم الله، واستكملت الملحمة في جزئين تاليين 2021، و2022 حملا نفس الزخم الوطني، فضلا عن مسلسلات (هجمة مرتدة والعائدون، والقاهرة كابول) وكلها أعمال قدمت روائع من ملفات صقور المخابرات المصرية.
رابعا: لقد شاهدت بعينى ذلك الشغف عربيا ومصريا بهذه المسلسلات، بل إن بعض الدول العربية صنعت أعمالا وطنية على غرارها، وليتحقق من خلاله كل ما سبق الحديث عنه من معطيات الأمن القومى وكون الدراما أداة لها، لنشاهد حالة لحمة نفسية وفكرية جديدة داخل المجتمع المصرى، ونرى أيضا حريقا بلا هوادة فى نفوس الأعداء من جماعة الإخوان الإرهابية فيهيمون ويضربون بكراهيتهم على الأرض وفى الفضاء الإلكترونى، لكن ربك بالمرصاد، والمصريون تحصنوا، ولذلك فإن دراما مسلسلات (الاختيار، هجمة مرتدة، العائدون، القاهرة كابول) التى صنعت بحرفية عالية فى مجمل تفاصيلها قد تكون لها تكلفة مادية كبيرة تفوق عوائدها، لكنها تحقق مكاسب عظمى فى الحفاظ على الأمن القومى المصرى والعربى أيضا، فالمجد والسكينة لأبطال الوطن، أحياء وشهداء، والنجاح والفخر لكل من قرروا الانتصار لوطنهم بالقوة الصلبة والناعمة وتوثيق شرف البطولات بـ (الاختيار).
أدوات القوى الناعمة
والدراما باعتبارها من أهم أدوات القوى الناعمة في وقتنا الحاضر يفترض إخلاصها في اختيار الموضوعات ذات الطابع الاجتماعي المفيد مثل مسلسلات (تحت الوصاية، فاتن أمل حربي) والتي من أهم أهدافها علو الشأن الوطني لصالح الوطن، ومن ثم يقع عليها عليها العبء الأكبر في اتساع (مغناطيس الجذب) للطاقات الخلاقة لقوى الشباب، عن طريق شن الحرب الثقافية العقلانية لتغيير المفاهيم الوطنية وتشذيبها من كل ما يخالف المنطق والعرف في التراث الديني بالذات ـ وبخاصة نظريات عدم قبول الآخر سياسيا وعقائديا ـ وهى اللعبة التاريخية التي ينتهجها الغرب منذ طرد الاحتلال العسكري من الشرق الأوسط ، فكان الالتفاف عن طريق إثارة النعرات القبلية والطائفية والمذهبية بين الدول العربية والعالم الثالث بوجه عام.
إقرأ أيضا : (الاحتكار) أجهض كل محاولات تحسين المحتوى الدرامي المصري!
وتلك الأفكار نتمنى تجسيدها واقعيا وتوسيع قاعدة الإنتاج من جانب (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) في ظل تنامي الدراما العربية التي أصبحت تقوى فعلا على المنافسة ولعل موسم رمضان 2023 خيال مثال على ذلك، والهدف هنا هو لأجل غرس كل ما يحض على تقوية الوازع الوطني والارتقاء بالشعور بالذائقة الجمالية وتنمية الثقافة المعرفية بكل الشفافية بأوضاع الوطن وتحدياته الآنية والمستقبلية، فبقدر ما كانت الثقافة هى السلاح الأقوى في وجه التطرف والعنف في المجتمع المصري ولا تزال، فإن التحديات وعنف الحرب الدائرة على الإرهاب، وإنهاك الاقتصاد المصري وعدم الاستقرار السياسي، قد أثر بالضرورة على حركة القوى الناعمة وتناميها، وأدى لتعثرها وتعطل قدراتها على الإنتاج، مكتفية في كثير من الأحيان بأدواتها القديمة ورصيدها الثقافي الزاخر، مستعيدة في كثير من المناسبات الوطنية والأحداث القومية، الأغاني والأفلام نفسها، وربما أيضا الشعارات نفسها.
مفردات القوى الناعمة
ولعلي هنا أقصد تحديدا القيم الجمالية النابعة من البيئة المصرية الخالصة، والتي تعد الفنون أحد أوعيتها وأحد مفردات القوى الناعمة، وأن تنمية الحاسة الفنية بمفردات نابعة من تلك البيئة يساعد الفرد على تذوق الفن والاستمتاع به، وتجعله ذا حس مرهف قادر على رؤية الجمال في موطنه، وهو ما ينمي لديه ملكات إبداعية لم يكن لها أن تخرج لولا توافر بيئة إبداعية من حوله، على عكس ما هو حادث حاليا للأسف من خلال إنتاج فني رديء المستوى.
وللحقيقة أيضا ساهمت البرامج والأعمال الدرامية التليفزيونية في فترات سابقة، بجانب الأعمال السينمائية والمسرحية والغنائية، والصحافة، ودور النشر والمطابع المصرية، والعلماء والخبرات المصرية على تغلغل مكونات الثقافة المصرية فى الثقافة الشعبية العربية، إذ كانت الثقافة الوطنية للكثير من الدول العربية تضم بين ثناياها العديد من صور الثقافة الشعبية المصرية وقيمها ومعاييرها، وكانت اللغة العامية المصرية بمنزلة اللغة الشعبية عند العرب، وتشكل وعى أجيال من الشباب العربى وذاكرتهم وأسلوب تفكيرهم وأسلوب حياتهم، من خلال كل هذه العناصر؛ وهو الأمر الذى كان له عظيم التأثير فى قوة السياسة الخارجية المصرية، وتعظيم مكاسبها ونفوذها الخارجى، لكن الوضع الحالي لا ينبأ بمؤشرات إيجابية كما كان في السابق في ظل تراجع يقابله صعود منافسين جدد.
القوى الناعمة هى سلاح مصر الأول منذ عشرات السنين وستظل في المستقبل القريب والبعيد شريطة أن تثبت جداراتها من جديد، فلا ينكر أحد أن العالم العربي كان يعيش على قوة مصر الناعمة عبر فنونها السينمائية والغنائية والدراما التليفزيونية التي كانت تستقطب الجماهير العربية في المشرق والمغرب، وهو ما يتطلب الانتباه حاليا إلى إنتاج فني يدعم القوى الناعمة المصرية حتى تعود مصدرا للإلهام والجذب لدول المنطقة العربية ودول العالم الثالث كافة، فالثروات العلمية والفكرية والفنية والثقافية المصرية هائلة ولا تنضب، ولها جاذبيتها التاريخية فى قلوب وعقول شعوب المنطقة، شاء من شاء وأبى من أبى ستبقى مصر محروسة أبد الدهر بمشيئة الله وقدرته.