بقلم : محمد حبوشة
فراشة البالية ماجدة صالح التي رحلت عنا في صمت يشبه حياتها التي عاشتها مؤخرا، رحلت في سلام وصمت سيدة رائعة، رائدة من سيدات مصر الرائدات، كانت روحا إنسانية تبحث عن سبل جديدة لرقيها، والجسد الإنساني عندها يغذي الخطى نحو الارتقاء من قاع الغريزة إلى ذرى الإرادة، وبهذا المعنى، كان مفهومها عن الرقص التي عبرت من خلاله عن هواجسها وأحلامها، مخاوفها وأفراحها، وقد اتصل الرقص لدى ماجدة صالح اتصالا وثيقا بالموسيقى، فاستخدمت الأدوات الإيقاعية في تنظيم حركاته وتقويتها وظلت تلك الأدوات ملازمة لها منذ النشأة وحتى الرحيل.
وقد اعتبرت ماجدة صالح طبقا للمفهوم القديم الرقص تعبيرا عن رغبات وتطلعات الإنسان في العلاقة مع المحيط والطبيعة، وتطور معها إلى طقوس، ثم أصبح الرقص ملازما للكثير من أوجه الحياة، هو رقص تمثيلي بأسلوب راق معبر يؤدى على المسرح بمصاحبة الأوركسترا، يسبقها افتتاحية قبل رفع الستار تصور أحداث القصة، ويقوم فن الباليه الذي احترفته ماجدة صالح طفلة صغيرة على امتزاج عناصر (الحكاية المسرحية، الرقص الحركي، رقص كلاسيكي، الملابس، الديكور، الإيماءات، الإخراج الرقصي) وبالتأكيد الموسيقى.
مفهوم ماجدة صالح للباليه
والباليه بمفهوم ماجدة صالح: فن يقوم على تقنيات الرقص التعبيري ترافقه الموسيقى والإيماء والمشاهد المسرحية ومن أهم خصائصه الحركية، الرقص على رؤوس أصابع القدمين، وقد اكتسب رقص الباليه الكلاسيكي تقنياته لديها من تطبيق نظام صارم في التدريب، واعتمدت تقنيات خاصة بها على جعل الجسم يتحرك بأكبر قدر ممكن من المرونة والسرعة والسيطرة والرشاقة، وقد يظن البعض أن الباليه فن رقص كلاسيكي ولا يتم إلا عبر الموسيقى الكلاسيكية، لكنه في مفهوم ماجدة صالح كان في الحقيقة يعتمد لياقة جسدية أكثر من كونه رقصا تقليديا، وهذا التسويق الممل لهذا الفن أبعده عن التداول بين الناس، علما أنها قد ابتكرت أسلوبها الخاص برقصات على أنغام موسيقى عصرية، وهذا ما يعرف بالباليه التعبيري، والباليه تقنية جسدية يجب أن تدركها كل راقصة لأي نوع من الرقص، وهذا يعني أن درس الباليه هو المرحلة الأولى لتليين الجسد ولياقته للوصول إلى ممارسة أي رقص آخر بما فيها التانغو أو أي رقصات أخرى .
وكان فن الباليه يعني عند ماجدة صالح أنه من إحدى مميزاته ارتباطه بالفنون الأخرى، أي أنه يحقق تكاملية الفنون فالمبدع في فن الباليه يفدم رسالة فنية متعددة العناصر تجمع مابين فن المسرح وفن الحركة التعبيرية، حيث يكمن رقي هذا الفن في التفاعل مع مادية المجتمع وصياغتها بأسلوب درامي راقص، فالإنسان هو الأداة الرئيسة الخالقة للحركة والتي تعد عماد هذا الفن والوسيلة الناقلة والمعبرة عن عالمه.
في صمت نعت وزارة الثقافة في مصر أول باليرينا مصرية وأول مديرة لدار الأوبرا المصرية ماجدة صالح، والتي وافتها المنية صباح الأحد قبل الماضي، واشتهرت ماجدة بأداء دور (غيزيل) الذي قدمته على خشبة مسرح البولشوي الشهير في موسكو، كما قدمته أيضا على مسرح دار الأوبرا المصرية، ونالت (ماجدة) وسام الاستحقاق من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، كما شغلت منصب عمادة المعهد العالي للباليه بعد أن باشرت التدريس فيه.
حلم ماجدة بفن الباليه
ولدت ماجدة صالح لأب مصري وأم اسكتلندية، وكان الأب يدرس علوم الزراعة في اسكتلندا حيث تعرف على والدة ماجدة قبل أن يعود إلى مصر ويتدرج في المناصب الأكاديمية حتى شغل منصب نائب رئيس الجامعة الأمريكية، وبدأت ماجدة تتعلم فن الباليه في سن مبكرة، حيث التحقت بالكونسرفتوار في الأسكندرية، والذي كان يضم قسما للباليه يشرف عليه معلمون من الأكاديمية الملكية البريطانية، وفي المعهد العالي للباليه في مصر، أكملت ماجدة تعليمها، لتحصل في عام 1963 – مع أربع زميلات لها – هن (ديانا حكاك ونادية حبيب وعلياء عبد الرزاق وودود فيظي) على منحة دراسية في موسكو بأكاديمية البولشوي، حيث أطلق عليهن لقب (بولشوي فايف).
وفي عام 1965، انتهت ماجدة صالح من المنحة وعادت إلى مصر، لتحترف الباليه، والذي انتعش كفن في مصر مبكرا، لا سيما في حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وفي عام 1966، شاركت ماجدة في أول عرض باليه مصري، والذي كان يحمل اسم (نافورة بختشي سراي) في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، ويحكي باليه (نافورة بختشي سراي) الذي وضعه المؤلف الروسي (بوريس أسافييف) في عام 1934، حكاية أميرة بولندية اختطفها سلطان شمال البنغال تاتار خان، وقد أحب الجمهور المصري هذا العرض الذي حضره رئيس الدولة جمال عبد الناصر ومنح أبطاله وسام الاستحاق.
في حوار مع النيويورك تايمز، قالت ماجدة صالح إنها اعتزت كثيرا بثناء رجل مصري بسيط من أسوان على أدائها، قائلة: (كان هناك إصرار على أن المصريين لن يقبلوا فكرة الباليه في مصر، لكننا كنا على صواب، بعد ذلك توالت عروض الباليه.
ماجدة صالح ودور غزيل
ثم كانت الذروة الفنية لماجدة صالح حين قدمت دور (غيزيل) على مسرح البولشوي في عام 1972، ويعد أفضل أداء لها كباليرينا، كما كان الأخير على حد قولها، وكانت (ماجدة) حينذاك تعاني بالفعل مشكلات في عضلات جسمها، ومن الولايات المتحدة، حصلت ماجدة على درجة الماجستير في الرقص الحديث من جامعة كاليفورنيا، ثم على الدكتوراة من جامعة نيويورك.
في عام 1993، اعتزلت ماجدة صالح الرقص رسميا بسبب مشكلة صحية في ظهرها، وذلك بعد أن قدمت عروضا على خشبة مسرح البولشوي، وعلى خشبة مسرح قصر المؤتمرات في الكرملين، وغيرها من المسارح العالمية على مدى تاريخها، وفي عام 1971، شاركت ماجدة صالح في فيلم (ابنتي العزيزة) إذ جسدت دور ليلى طالبة وراقصة باليه، وفي عام 2016، شاركت في الفيلم الوثائقي (هامش في تاريخ الباليه) بشخصيتها الحقيقة كراوية لتاريخ الباليه في مصر.
صحيح أن وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني، نعت ماجدة صالح، بوصفها (رائدة فن الباليه) في مصر، قائلة: (إن الراحلة فتحت الطريق أمام أجيال من المصريين لاحتراف وحب فن الباليه، فقد كانت من أوائل الذين درسوا، واتقنوا، ونافسوا غير المصريين في هذا الفن الراقي)، وأضافت الكيلاني: (رفعت ماجدة صالح اسم مصر عاليا، من خلال المشاركة في العديد من العروض العالمية في مصر وخارجها، وحرصت من خلال أبحاثها الأكاديمية على توثيق تراث الرقص الشعبي المصري لتكون بحق رائدة فن الباليه في مصر، لكن الصحف السيارة والقنوات الفضائية لم تحتفي بالراحلة بأخبار مقتضبة فور تكريم وزارة الثقافة لها مؤخرا قبل أيام من رحيلها.
وذلك على الرغم من أن ماجدة صالح كانت من أوائل الفتيات المصريات، اللواتي درسن فن الباليه أكاديميًا في مصر، أواخر خمسينيات القرن الماضي، وقالت في مقابلة إعلامية سابقة: (شاءت الأقدار أن أكون أول باليرينا مصرية تخرج للعالم)، وبعد حريق دار الأوبرا المصرية مطلع سبعينيات القرن الماضي الذي أبكاها في لحظات وصفتها بـ (الفظيعة جدا)، كما روت في مقابلة إعلامية سابقة.
شريهان تنعي ماجدة صالح
من جانبها نعت فنانة الاستعرض شريهان الفنانة ماجدة صالح بكلمات مؤثرة، أشارت فيها إلى علاقة الصداقة والزمالة التي كانت تربط الفنانة الراحلة بأخيها الراحل عمر خورشيد، التي دفعته لاختيارها معلمة لأخته، وقالت في تغريدة عبر حسابها الرسمي في تويتر: (وثق فيها أخي وسلمني لها كمعلمة وأستاذة عظيمة لي، لها الكثير في شريهان الطفلة والطالبة والفنانة، ذهبت إليها هاوية حالمة فجعلتني أعشق دراسته، علمتني أخلاق فن الباليه قبل هوايته، علمتني الالتزام، والإتقان وبذل الجهد بضمير، وصبر، وحب).
إقرأ أيضا : شريهان.. عزيمة لا تلين وإرادة لا تُقهر
ارتقت الراحلة العظيمة ماجدة صالح بفن (الباليه) الذي أصبح في مصر من أرقى الفنون على الإطلاق، إذ يجمع بين (الموسيقى) درة الفنون، وعبقرية الجسم البشرى فى أقوى وأرق وأرشق حالاته، والذى يتجلى فيه جانب من لانهائية عظمة الله فى خلقه، ولما لا ترتقي ماجدة صالح بفن الباليه وهو كان من ابتكارات المصرى القديم، كما خلدته جداريات الأسرة الخامسة فى المعابد المصرية، ومنها (رقصة النجوم)، حيث تتحرك الراقصات فى تشكيل فني متناغم يرمز إلى بروج السماء الإثنى عشر، فقد وجد المصريون القدامى تشابها بين الأجرام السماوية فى تناغمها وانتظام حركتها، وبين النغمات الموسيقية من حيث تناغمها أو تنافرها، لهذا رمزوا إلى كل نغمة من النغمات السبع بما يماثلها من الكواكب بالرسم الهيروغليفى.
ويبقى لى القول بأن (الباليه) ياسادة عند الراحلة العظيمة ماجدة صالح: فن رهيف لا يدخل عباءته إلا ذوو الرهافة الروحية، وليس وحسب الرشاقة الجسدية، لذا قالت (إذا لم أرقص ستكون حياتي ناقصة)، هكذا لخصت فراشة الباليه ماجدة صالح، حياتها، فمنذ طفولتها وهى تحلم أن تصبح من رواد فن الباليه في مصر والعالم، تحدت كل الظروف الصعبة ودخلت إلى عالم الفن محلقة في سماء العالم، صنعت مجدا جعلها قطعة من تاريخ مصر الثقافي، لتسجل اسمها كأول من التحق بمعهد الباليه في أكاديمية الفنون، ثم تدرجت في العديد من المناصب ونقلت لجمهورها كل ما تعلمته ورفعت اسم مصر عاليًا في كل المحافل الدولية، وها هي اليوم ترحل عن عالمنا وتترك وراها إرثا كبيرا لمحبي هذا الفن وحزنا باقيا في قلوب كل محبيها.