سعد سلطان يكتب : للسودان سلام من الـ BBC .. يا سلام
بقلم : سعد سلطان
ما كان للـ BBC أن تغيب عن حدث هى صانعته، وما كان لقرار إقفال إذاعتها الناطقة بالعربية العام الماضي أن يدوم طويلا، بينما إشعال السودان بحرائق الانفصالات تعدي النذر، وصار إخباريا تنقله الشاشات مباشرة مطمورا بنشوة الانتصار في دقات ساعة هنا لندن علقما في الحلق ووتدا في سويداء قلب الخرطوم.
صناعة الـ BBC لأخبار الحروب ليست لنقل الوقائع ورصد الحقائق .. التغطيات الإخبارية هنا قاذقات لهب ومُسَّيرات مُلغَّمة تكشف للمتصارعين أماكن الهدوء سعيا لإحراقها.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب : قنوات الأخبار بين القائم والقادم !
عادت الـ BBC لتبث ساعتين تحت عنوان : للسودان سلام..! في واحدة من حلقات السلام بتاريخ 19 مايو الماضي تلتقط المذيعة السودانية صوتا وتقدمه مواطنة من دارفور تحدثنا عن الوضع هناك .. تُصيغ المواطنة رسائلها بإحتراف إعلامي، وعناوين بدت مدربة عليها (المواد الغذائية بها شح كبير.. تتصاعد أبخرة الدخاخين في الشوارع وكثير من البيوت .. المنظمات تم حرق مقارها ونهبها بالكامل، يليها مداخلة صحفي من الخرطوم متحدثا عن مقتل 18 شخص نتيجة الإشتباكات في أحد الأحياء دون ذكر مصدر الخبر (نقابة أطباء، مستشفي، منظمة مدنية).
BBC اخترعت حروب المدن
وثالثة يتأوه صاحبها متحدثا عن المدنيين (الذين يواجهون النهب والقتل والاغتصاب، فاته أن المنصة الإذاعية التي يشكو إليها تملكها دولة اخترعت حروب المدن، وأبيد في حربها العالمية الثانية 35 مليون مدني من إجمالي 60 مليونا .. فلن تترك السودان إلا حطاما كما سوريا، وغرقا كما ليبيا، وبقايا دولة كما العراق .. مستولية على تاريخه والجغرافيا!
تتستر الـ BBC وراء إشراك مستمعيها ومشاهديها في برامجها التفاعلية، مطمئنة إلى أذرعها من صحفيي الشارع الذين صنعتهم في معاملها ومختبراتها التدريبية .. نشطاء تم تربيتهم وفق السردية البريطانية المخططة للأحداث .. أبناء (أريج) ودوراتها الاستقصائية – دورة العام الماضي كانت تمرينا لتغطية أخبار الحروب .. ياللمصادفة!
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: (بين الإخبارية والوثائقية)!
في الساعتين تتبني المحطة لغة إعلامية تعتمد الجُمل المقطوعة، والأفكارالموهمة، والإثارة البالغة في التغطية الخبرية، تفجرالأسئلة السياسية والاقتصادية دون إجابات، وتلغم الأخبار بمعلومات مضخمة ونهايات منقوصة، تاركة المستمع في حالة إرباك وقلق، فكيف تغيب وهى أول من صكّتْ المصطلحات الإعلامية التى قادت تاليا باقي الشاشات (صراع في السودان – قصف – فرار – لجوء – هدنة – معابر)، وكل ما ماثل هذه التعبيرات أطلقتها BBC مبكرا للتضليل والإبعاد الذهني عن الأسئلة الصحيحة الواجبة.
غابت عمدا عن ساعتي السلام التي منحها قلب الـ BBC الأبيض للسودان وأهله .. استمرار تواجد المدمرات الحربية الأمريكية في بورسودان، والدور البريطاني في خلق مواجهة كبرى يعيشها السودان مع كل لصوص الكوكب، لن ترصد ولن تناقش الـ BBC، طلب عبد الفتاح البرهان من الأمين العام للأمم المتحدة استبدال مبعوث الأمم المتحدة للسودان فولكر بيرتس – سمسار تقطيع سوريا – القادم لتكرار النسخة بالسودان بتقاسم النفوذ الغربي والشرقي كما في الشمال السوري حرفيا، ورفض الأمم المتحدة استبدال المبعوث الذي يتحرك علنا لتحريض المدنيين على الجيش!
قلب الـ BBC الأبيض
تصرخ – مثل ملايين آخرين – الكاتبة عائشة البصري على صفحتها : (إن أيادي أعضاء مجلس الأمن الدولي ملطخة بدماء السودانيين .. جميع عصابة الخمسة الكبار (أمريكا – بريطانيا – روسيا – الصين – فرنسا) يتشاركون المسؤلية حول ما يجري اليوم من اقتتال متوحش (هل يمكن أن تكون عائشة ضيفة ضمن ضيوف : للسودان سلام؟!).
الأخبار سلاح من أسلحة الحرب هدفها شن الحرب وليس إعطاء المعلومات، والخبر في الحرب نمط دعائي ملغوم بأحدث نظريات الرعب النفسي، هكذا تنتهج الـ BBC منهجها في كامل المنطقة منذ نشأتها، تغطية إخبارية مشؤومة مُحمَّلة بكل نُذر الخراب والدمار، تنحرف بالمهنية إنحرافا شاذا مقيتا، فكيف تغيب عن السودان ؟! وهى من صنعت الحرب ومهدتها وأطلقت الحزن بالأكواخ والبيوت والشوارع (تنين له الف ذراع) وخبراؤها هم من يملكون خرائط التقسيم والتقطيع لحدود أمم ومصائر شعوب.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب : (القاهره .. عاصمة الخبر)
كيف ستقاوم الحنين إلى الدمار؟، وهى المشهود لها بالكفاءة في صناعة أخبار الحروب العربية بدءا بنكبة فلسطين 1948 حينما كذبت – والكذب ديانتها – أن الاحتلال الإسرائيلي والانتداب البريطاني لم يدمر الأراضي الفلسطينية، إنما انتهجوا طرد الفلسطينيين البدائيين ليحل مكانهم نموذج بشري متحضر!، وفي العراق عمدت إلى إخفاء استخدام القوات الأمريكية والبريطانية الأسلحة المحرمة دوليا كالفوسفور الأبيض والقنابل الانشطارية في معركة الفلوجة، وقامت بتسليط الضوء على أفكار القاعدة والمليشيات وإساءتها للقيم العربية والإسلامية، هكذا يرصد الباحث العراقي (صهيب محمود علي الفلاحي) في رسالتة للماجستير حول (التغطية الإخبارية لموقعي الجزيرة والـ BBC العربية لمعركتي الفلوجة 2004 .. فكيف تغيب وهى من كانت تخصص يوما إذاعيا لدارفور (محط الرحال وغنيمة الحرب!).
إعلانات BBC بشوارع القاهرة
تنشر الـ BBC إعلاناتها بشوارع القاهرة (وسع أفق عالمك .. مع صحافة بلاقيود) ولكن قيود حارس البوابة وأجندته تجاه العرب حاضرة خلف الشاشات والمنصات والمحطات الإذاعية تحدد مسبقا ما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي .. حاضر هو بمسارات الحرب تتساقط من فمه اللعين بوارج تمحو وسفن تحاصر، واختراع اقتتال داخلي بين الابن وأمه وأبيه.
في العام التالي للنكسة استضافت قمة اللاءات الثلاثة بالخرطوم 1968 الشاعر المصري صلاح عبد الصبور وعلى ضفاف نيلها أشعر قصيدته (سمراء) التي غناها تاليا السوداني سيد خليفة : (لا السامبا ولا الرمبا تساويها .. لا التانغو ولا سوينغو يدانيها .. لاطبل لدي العربان يوم الثار .. ولا رقص الهنود الحمر حول النار .. لا هذي ولا تلك .. ولا الدنيا بما فيها .. تساوي رقصة الخرطوم)، هذه الحقيقة الشاعرية في نظر الـ BBC رقم تترجمه ثروات بترولية وزراعية وحيوانية ومعادن وذهب .. هي باختصار تمهد الأرض لسرقة ما تحتها وما فوقها .. عادتها ولن تشتريها، وقد خبرت المسلك وضمنت آنفا النتائج.
تقول الجارديان : (إنه على بريطانيا مواجهة ماضيها الاستعماري بأمانة، تنقل الـ BBC تلك الآراء ولا يرمش لها جفن بأنها المقصودة والمطالبة بالاعتذار عن جرائمها، ببساطة لأنها تدرك حقيقة دولتها، وحاجتها الدائمة إلى صوت عربي يمرر مشروعها الاستعماري بالمنطقة العربية القائم على الغزو والاحتلال والنهب .. هكذا كانت وستظل!