بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
توقفت منذ زمن عن قبول الدعوة للظهور في برامج التليفزيون، مالم يكن لى عمل يعرض على المسرح و ظهورى متعلق بالحديث عنه، فللأسف الشديد صارت معظم البرامج تكرر نفس الأسئلة لتهرب من الحوار الجاد أو طرح المشكلات أو مناقشة واقع حياتنا الثقافية والفنية مناقشة جادة متعمقة، وحتى لو تم ذلك النقاش فلا أحد يسمع وكأننا في وادٍ والسادة المسئولين في وادٍ آخر، يتمتعون بغلق آذانهم وأذهانهم ، مادام ذلك يضمن لهم الحفاظ على مناصبهم.
وبرغم امتناعى هذا لبيت منذ أيام دعوة أحد البرامج لأنه يذاع على قنوات التليفزيون المصرى – الذى ولد عملاقا – و صار الآن في أدنى الدرجات بعد ابتعاده عن المنافسة وابتعاد المشاهدين عنه، و كأنى أخجل من أن أكسر خاطره في سنوات هوانه بعد أن استضافنى كثيرا في سنوات مجده، فلقد دخلت الى هذا المبنى في سنوات الازدهار لأقدم أعمالا أفخر بها بدأت بثلاث مسرحيات قصيرة للكاتب الكبير ألفريد فرج ضمن مجموعة من العروض حاول من خلالها رئيس قطاع الإنتاج المرحوم (يوسف عثمان) أن يحيي بها مسرح التليفزيون في أوائل التسعينات.
إقرأ أيضا : التليفزيون المصري يغتال حلم كرم النجار!
ثم استدعانى الأستاذ فرج أبو الفرج – رحمه الله – لأخرج عددا من الليالى المحمدية من إنتاج الإذاعة ، وعندما تولى رئاسة قطاع الإنتاج قدمت عروضا افتتاحية لمهرجان الاذاعة و التليفزيون ، وأيضا عروضا لاحتفالات نصر أكتوبر نلت عنها تكريما من وزارة الاعلام، و لفترة قصيرة لا تزيد عن عشرة أشهر كنت مسئولا عن إحياء مسرح التليفزيون مرة أخرى بتكليف من الإعلامى القدير الأستاذ (حسن حامد) رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، قدمنا خلالها 8 أعمال مسرحية تنوعت بين الكوميديا والعروض الموسيقية الاستعراضية ومسرح الطفل.
23 قناة في التليفزيون المصري
كان التليفزيون المصرى في تلك الفترة متألقا، يضم مايقرب من 23 قناة إلى جانب عدة شركات كشركة (صوت القاهرة والنيل للإعلان، ومدينة الانتاج الإعلامى والشركة المصرية للاقمار الصناعية – نايل سات)، وهى الشركة المسئولة عن الاقمار الصناعية المصرية والبث الفضائى والشركة المصرية للقنوات الفضائية (CNE) وهى أول شركة لتقديم خدمات التليفزيون الخاصة فى المنطقة العربية، إلى جانب إنتاج درامى ضخم قدم أعمالا ستظل خالدة على مر السنين مازلنا نفخر به حتى الآن.
و عندما دخلت مؤخرا الى مبنى التليفزيون العريق كدت أن أبكى، فيد الإهمال قد طالت كل شيئ، أرضيات متهالكة قد تعرت من كسائها، وأثاث قديم توالت عليه السنوات و الأحداث و تركت بصماتها عليه، و أجهزة عتيقة تخطاها الزمن وظهرت بعدها موديلات أحدث وأكثر دقة وفاعلية، أما الردهات فكانت مظلمة وكأنهم (استخسروا) تركيب لمبات فتركوها تغرق في الظلام، و تذكرت واقعة انقطاع البث لمدة 40 دقيقة التي وقعت في 2015 وكيف تم اعتبارها أقصى درجات الانهيار.
إقرأ أيضا : عبد العزيز السكري .. صانع الخيال الراقي في الدراما التليفزيونية المصرية
و في الطريق الى الاستوديو لاحظت وجود لوحات ضخمة لكبار مفكرينا لم استطع بسبب الظلام معرفة أصحابها إلا الكاتب والشاعر والمفكر الكبير عبد الرحمن الشرقاوى الذى كانت لوحته أقرب اللوحات من مصباح بعيد، و عبرت المكان بسرعة خوفا من أن أسمع بكاء هؤلاء الكبار على ما صار إليه حال مبنى التليفزيون بماسبيرو الذى ولد عملاقا.
وفي داخل ستوديو التسجيل بـ التليفزيون كان الديكور فقيرا يشى بسوء الحال، ولا علاقة بينه وبين البرنامج الذى نسجله، بل ربما تم استهلاكه في عدة برامج، ولا توجد اكسسوارات تملأ فراغ المكان، أما الأرضية فقد فقدت بريقها وأصبحت ألوانها كالحة.
جزيرة المتحدة في التليفزيون
انتهيت من البرنامج وخرجت من الاستوديو وأنا أود أن أخرج من المبنى بسرعة، ولكن قدماى قادتنى عن طريق الخطأ إلى ممرات أخرى داخل التليفزيون غير التي دخلت منها، فوجدت ديكورات حديثة – و إن كانت تفتقر الى الذوق – و اهتماما أكبر و أجهزة أحدث ، فعلمت أننى في جزيرة من جزر (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية)، فقد استولت على أماكن محددة من المبنى وحولتها الى جزر منفصلة عنه من ناحية التجهيز والعمالة تحت مسمى التطوير، وفي حقيقة الأمر هو تبذير فلم يصادفنا فيما قدمته الشركة للمشهد الاعلامى المصرى أى تطوير، فأين التطوير في قناة النيل أو حتى القاهرة الإخبارية، مجرد ديكورات جديدة ولا شيئ آخر!
وعلى الفور تذكرت الأسئلة التي طرحتها هنا منذ أكثر من عام بصفتى مواطن من دافعى الضرائب – التي يذهب بعضها لتمويل ميزانية تلك الشركة – حول (تعارض المصالح) في اللجوء للشركة المحتكرة للإنتاج الدرامى والبرامجى فى مصر لتقوم بتطوير التليفزيون المصرى وهى شركة منافسة، ثم ماذا أسفرت مشاريع التطوير الأولى التي تمت في 2019؟، ولماذا لم تستفد من أخطائها فى مشروعات التطوير التالية في 2021؟، أم هو مكتوب علينا أن نخترع العجلة فى كل مرة و يبدأ التطوير بعمل ديكورات تتكلف ملايين ولا ننظر للمحتوى بل نكرر ما سبق؟ وقلت وقتها: ما هو التطوير فى نقل برنامج (العاشرة مساء) من قناة (دريم) إلى القناة الأولى؟، هل التطوير فى أنه صار فى (التاسعة)؟
إقرأ أيضا : (المتحدة) تستجيب لنداء الكاتب المبدع (محمد جلال عبد القوى)
هل تقوم الشركة المحتكرة بالتطوير فعليا أم أنها جاءت لتقضى على البقية الباقية؟
هذا السؤال يطرح نفسه علينا نتيجة لتصرفات الشركة، فلقد وزعت أعمالها الدرامية على القنوات التى تملكها وجعلت لكل قناة جزءا من المسلسلات تذاع عليها حصريا – لزيادة أعداد المشاهدين ولجلب الإعلانات – لكنها لم تخصص لـ التليفزيون مسلسلا حصريا هو الآخر، و لم تهتم بإعطائه ولو مثقال ذرة من إعلاناتها التى تحتكرها.
إطلاق رصاصة الرحمة على التليفزيون
هل هذا ضمن خطة التطوير، أن يتم إطلاق رصاصة الرحمة على التليفزيون – الذى كان فخرا لعصور متتالية – بعد (تطفيش) المشاهدين وتصفية العاملين به؟
وعلى الجانب الآخر لابد وأن نسأل: ما الذى قدمه المجلس الأعلى للإعلام من أجل المهنة حتى الآن؟ هل قدم لماسبيرو أى إنجاز؟ هل سعى لاعادة دوران عجلة الإنتاج لكياناته المعطلة فى صوت القاهرة وقطاع الإنتاج؟، أم أنه سيفاجئنا بتأجير الاستوديوهات وتسريح العمالة وبيع المعدات (خردة) لكى لا يبقى فى مصر سوى الشركة المحتكرة؟، وهل المجلس يملك القدرة على القيام بالتطوير وإنقاذ التليفزيون أم أنه متفرغ لمعاركه الرهيبة (التحقيق مع مسلسلات ناجحة – و تحويل الموظفين للتحقيق – و اتهام مواطنين بانتهاك قدسية المحطات – إصدار التقارير عن الألفاظ والتدخين فى المسلسلات) إلى آخر عظائم الأمور التى ينشغل بها؟.
وإذا كان المجلس الذى هو مهمته بحكم القانون محاربة الاحتكار فى مجال الإعلام يجلس مطمئنا مرتاح البال بينما الشركة تتوسع فى احتكاراتها، فلماذا نصر على بقائه؟، أليس من الأجدى توفير نفقات ومرتبات و مكافآت السادة الأفاضل من أعضائه؟
إقرأ أيضا : ثورة (المتحدة) لتعديل مسار الدراما
ثم فى النهاية: ألا نخجل عندما نشاهد حال التليفزيون المصرى الآن، بينما نرى الإقبال الكبير على مشاهدة تراثه الذى يذاع على قناة ماسبيرو زمان؟، ألا يحثنا هذا على إنقاذ (عملاق قوم ذل) وإنقاذه من براثن شركة كل تصرفاتها تقول أنها تنزع عنه كل مقومات الاستمرار؟