كتب: محمد حبوشة
أعرف جيدا أن النجم السوري اللامع (محمود نصر)، ممثل يملك القدرة على سبر أغوار الشخصية التي يجسدها، ليقدمها لنا من لحم ودم وبأسلوب السهل الممتنع كما يجب، بغض النظر عن موقفنا منها، ولعله نجح في إتقان ذلك تماما من خلال لعب دور السلطان (سليم الأول) في مسلسل (ممالك النار)، وفي هذا الدور اجتهد الممثل السورى (محمود نصر) في الإلمام بشخصية مثيرة للجدل في حياتها ومماتها، ومن خلال متابعتي الدقيقة لأعمال (نصر) لاحظت أن برصيده مجموعة كبيرة من المحطات التمثيلية المميزة على الصعيدين التليفزيوني والسينمائي، لكن تبقى أبرز تلك المحطات الناجحة في الدراما التليفزيونية أدواره التي قدّمها بعذوبة شديدة خلال السنوات القليلة الماضية، في 4 مسلسلات، هى (الأخوة، بانتظار الياسمين، الندم، وقناديل العشاق)، وهذا المربع يعكس لنا موهبة فذة تمكن من خلالها (نصر) التنويع والتجديد على مقام الدهشة الإبداعية، خاصة تجسيده لشخصية (ديب العتال).
وقد تأكد يقيني أن شخصية (ديب العتال) التي بلغ من خلالها (محمود نصر) حد النضج الكامل لممثل يملك أدواته بحيث لايمكن أن يمر علينا هذا الدور مرور الكرام في مسيرته، فكل العوامل والمؤشرات تدفعنا للتأكد بأن هذا الدور شكل مرحلة مفصلية مهمة تختلف في شكلها وملامحها عن كل ما قدمه بعدها، وأيضا عن كل ما شاهدناه في أعماله السابقة من شخصيات لعبها ببراعة، نعم سرعان ما كشف (قناديل العشاق) عن الموهبة المتميزة، والتي بدورها أعطت صاحبها تأشيرة دخول إلى مملكة الإبداع، وعن جدارة واقتدار استحق صفة (النجم المحبوب) الذي يتقدم في خطواته على مهل، لكن بعزم وروية نحو الصفوف الأمامية للممثلين الأكفاء، كما جاء دوره (سليم الأول) في (ممالك النار) ليبدو من أولئك الممثلين الأوائِل القادرين على منح الشخصيات التي يجسدونها نكهة مميزة في الأداء المبهر والإحساس العالي والمهارة التمثيلية المستحقة للنجاح والتصفيق من قِبَل المشاهدين والنقاد على السواء.
ولأنه لا يمكن الجزم كم كان هذا الأداء الذي قدمه (محمود نصر) في هذا، مشاهد متعددة من الداخل إلى الخارج صدى للنص الدرامي، فقد نحتاج لقراءة المشهد مرارا وتكرارا لبيان ذلك، ومعرفة كيف كتب لنجزم بذلك، إلا أنه بكل الأحوال يبقى خلاصة بحث وخيال ممثل مبدع، واعتمادا على هذا الخيال، كان الممثل البارع في كل حلقة من مسلسل (60 دقيقة) يعيد تشكيل حياة الشخصية، ليس خلافا لما أراده النص، وإنما بأسلوب يجعله أكثر مصداقية وجاذبية، فقد صار (أدهم) تلك الشخصية الشريرة موضع اهتمام الجمهور رغم نفوره منه، وفي هذا الاهتمام ما يضمن إيصال رسائل العمل إلى المشاهد، ولننتبه أن الاهتمام هنا يوفر فرصة لكشف عوالم الشخصية من الداخل وما خفي من سلوكها، لا يعني أبدا تعاطفا مع هذه الشخصية، فما من أحد يتعاطف مع سادي ومريض نفسي مثل (أدهم).
ولكنه دائما يخالف كل التوقعات بأداء عذب فبعد تجربته في البيئة الشامية (قناديل العشاق) يخرج علينا في موسم رمضان 2023، بتجربة أكثر نضجا في ملسلسل (مربى العز) على جناح أداء مغاير تماما عبر شخصية (مناع) التي صال وجال من خلالها في طرائق الإبداع بأداء أمكنه من قيادة كتيبة المبدعين إلى جوار نجوم يتمتعون بالخبرة والموهبة الفذة مثل الفنان القدير (عباس النوري، أسامة الروماني، أمل عرفة، سوزان نجم الدين) وغيرهم من نجوم يحسب لهم الجودة في الأداء، ولفت الفنان (محمود نصر) الأنظار في الحلقة العاشرة من مسلسل (مربى العز)، بعد ظهوره بشخصيتين متناقضتين تماما في الشكل والمضمون، حيث يؤدي شخصيتي التوأم (منّاع، وورد).
في هذا السياق ظهر نصر في المسلسل بشخصية جديدة تحمل اسم (ورد) ابن الزعيم (أبو علاء/ أسامة الروماني) الذي يعاني من مرض يجعله غير قادر على الحركة في النهار، نتيجة التأثير السلبي لضوء الشمس عليه، وتمكن نصر من تحقيق التوازن بين الشخصيتين المتناقضتين اللتين يقدمهما، لكون (مناع) يتسم بالقوة الجسدية التي تجعله قادرا على مواجهة أي شخص يريد سلب حقه هو وأخوته، أما (ورد) فيتصف بالهدوء والضعف الجسدي، والخجل الذي يجبره على البقاء في المنزل وعدم الذهاب للحارة، ومن هنا قدم (نصر) شخصية من العيار التقيل وفيها كمية من التناقض بين القوة والجبروت وبين الحب والمشاعر الدافئة، ومن ثم أحب الجمهور الشخصية وصدقها، لأنها تخبئ خلفها ممثلا حقيقيا يقدم كل ما لديه ليخدم العمل.
وربما جاء أداء (محمود نصر) جراء مصداقية الأحداث في مسلسل (مربى العز) لما يتناوله من أحداث ممتعة ومشوقة للكاتب علي معين صالح، والمخرجة رشا شربتجي، وتدورأحداث المسلسل في ثلاث حارات دمشقية في الفترة من 1900 إلى 1919، وهى (حارة الورد، وحارة المشرقية، وحارة العسلية) لكل حارة زعيم ولكل زعيم أبناء تربوا على العز، لكن الفرحة لا تدوم، إذ تتسلل المكائد لسلب هؤلاء الشباب الحق في زعامة الحارة بعد آبائهم، فثمة من لا يعجبه تلك الأنساب والعائلات وسيفعل المستحيل لتعكير صفو الحياة، وإثارة الأزمات، بمعنى أن العمل يدور حول الصراعات والخلافات التي كانت تحاك في سبيل الحصول على زعامة الحارات، وما يترتب على ذلك من أحداث درامية ثقيلة ترصد من خلالها المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها الحارة الدمشقية حينذاك.
ويبدو لي من خلال المشاهدة أن المخرجة المبدعة (رشا شربتجي)، صاحبة الأسلوب المميز في قيادة الممثلين واهتمامها بالتفاصيل، كما أنها تطوع كل السبل والإمكانيات في سبيل النص الذي تعمل عليه، ما يدل على احترافها داخل الكواليس، ولهذا حاولت أن تبحث جيدا في تفاصيل تلك المرحلة على مستوى الأماكن والملابس والأدوات والمفردات وغيرها من العناصر، كما حاولت أن تنقل تلك الحقبة بعين جميلة، من خلال تصويرها في أماكن حقيقية في دمشق تعكس طبيعة السكان في تلك الأحياء وحالتهم المعيشية سواء كانت فقيرة أم متوسطة أم غنية، فضلا عن أنها عملت جيدا على بناء سيرة بطل شعبي، بالإضافة إلى خلق شخصيات مميزة ولها خصوصية درامية وبعد إنساني حقيقي وجانب روحي وعمق وجداني مثل شخصية (الشيخ مالك/ عبا النوري)، وكذلك شخصية (ملكة/ أمل عرفة)، و(جواهر/ سوزان نجم الدين) وغيرهم من الشخصيات.
وعلى مستوى جودة الأداء في مسلسل (مربى العز) قدم النجم الكبير (عباس النوري)، دورا يختلف عن معظم أعمال البيئة الشامية التي شارك فيها، من حيث الفترة الزمنية التي يتناولها العمل وطبيعة السرد، كونه يبرز مجموعة من القيم الروحية التي يحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان، مثل الصدق والأمانة والشرف وغيرها، وتلك الحكايات لم تكن تتناول من قبل، فقد جسد (النوري) شخصية (الشيخ مالك)، وهو رجل دين استثنائي بعيدا عن الصورة النمطية لصورة الشيوخ في الدراما، ومن ثم برع (النوري) في تجسيد هذه الشخصية الجديدة بالنسبة له، لما وجده فيها من اختلاف جوهري، ومميز يلعب من خلالها دورا محوريا في صناعة الأحداث ولديه قصة شخصية ذات بعد إنساني جذاب جدا، فهو بمثابة الصندوق الأسود لكل حكايات (مربى العز) رغم تعددها وتنوع مجالاتها.
ومن جانبها قدمت (أمل عرفة)، شخصية (ملكة) بطريقة كوميدية غاية في الروعة، وقد أبدعت كثيرا في تجسيد تلك الشخصية البسيطة جدا، لكن في الوقت نفسه تتمتع بذكاء فطري حاد، وقد تقع في أزمات بسبب بساطتها، إلا أنها تنجح أحيانا بذكائها من تحويل تلك المشكلات إلى حلول، وأبرزت بقدرة مذهلة رحلة صعود (ملكة) من الصفر إلى ريادة الأعمال بمفهوم ذلك الزمن، فقد وضعت لنفسها هدفا تسعى جاهدة للوصول إليه بنجاح، حتى وإن كانت غير متعلمة، إلا أن هذه المرأة هى شخص يصعب كسره، ومن هنا تبرز قوة لعب (أمل) لهذا الدور الذي يضاف إلى سجلها المتخم بالأعمال البارزة في الدراما السورية، وهذا يعود إلى الأدوات التمثيلية التي تمتلكها، فهي اشتهرت منذ بداياتها بتقديم شخصيات كوميدية ناجحة.
ويبدو مشهودا في لوحة الأداء الصعب النجمة العربية (سوزان نجم الدين)، التي لعبت شخصية (جواهر) التي تمثل الشر بحد ذاته، وعلى قدر مرارتها من آثار ذنب ارتكبها أبيها، إلا أنها لم تولد شريرة بالمطلق، ولكن التنمر الذي تعرضت له في حياتها ولد لديها هذا الشر النابع على ما يبدو من الرغبة في الانتقام، ولقد لعبت (سوزان) الدور بنعومة بالغة، بينما عيناها الجاحظتن دائما تضمر شررا متطايرا، لتبدو محركا قويا للشر ضمن مجريات الأحداث، ولعل مشكلتها الكبرى تكمن في أنها غير قادرة على التسامح، ولأنها تثق في قدرات المخرجة (رشا شربتجي) فقد تركت نسفها لها، وهو ما ساهم في منحها إحساسا بالأمان – على حسب وصفها – لعلمها أنها قادرة على توجيهها إلى المكان الصحيح دراميا، واكتشاف قدرات كامنة في أدائها، وإبرازها في شخصيات مختلفة عن تلك التي سبق وأن قدمتها.
أما الشخصية التي كانت أكثر جدلا بين الناس هى شخصية (جمّول) التي أداها الفنان (خالد القيش) بمهارة يحسد عليها، وعلى الرغم من أن مساحة الدور تبدو صغيرة إلا أنه ظل عالقا في مخيلة الجمهور كمحور الشر في العمل، وقد أثارت الشخصية جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي منذ إطلاق البوستر الخاص بها، وقد ظهر القيش بملامح غريبة لدرجة أن أحدا لم يعرفه من هيئته التي تشبه (أحدب نوتردام)، وقد أكد (القيش) بأدئه المذهل أن هذا الشكل يدل على بشاعة الشخصية من الداخل والتي تنعكس على مظهره وممارساته المشينة مع (مناع، وفارس وزين) في مرحلة الطفولة التي تمتعت بالشقاء، وللحقيقة فإن الطفلين (سيزار عبد القادر) بشخصية (مناع)، وتبعه الأخ الأصغر الطفل (جود شمسو) بشخصية (فارس)، قدما أداء رائعا في الحلقات الأولى من المسلسل.