كتب: محمد حبوشة
الأسطورة هى نبتة أولى نشأت في حضن الحضارات القديمة واعتبرها كثير من المؤرخين النبتة التي تفرع منها الأدب بصوره المختلفة، ومازالت الأسطورة مصدر إلهام للمؤلفين على مدار العصور، وقد أخذت العلاقة بين الأسطورة والأدب أشكالا متباينة، وكان أبرز هذه الأشكال استخدام الأسطورة في الأعمال الأدبية، ويتمثل أحد الأشكال الأخرى للعلاقة بين الأسطورة والأدب، في نشوء الأدب من الأسطورة، وهو أسلوب كان من رواده (جين هاريسون)، وزميلاها العالمان في الحضارة اليونانية والرومانية القديمة (جيلبرت موراي وإف إم كورنفورد) بحسب ما ورد في كتاب (الأسطورة مقدمة قصيرة جدا) تأليف (روبرت إيه سيجال).
نتذكر ذلك كمدخل للحديث عن القصة القصيرة (سره الباتع) وهى آخر القصص القصيرة في المجموعة القصصية (حادثة شرف) للكاتب يوسف إدريس، والتي تلعب فيها الأسطورة دورا مهما مع الشخصية الرئيسية للقصة، وقد عاد الحديث عن القصة بقوة وتصدرت التريند خلال الأيام الماضية مع بداية عرض المسلسل الذي يحمل اسمها، في الإخراج التلفزيوني الأول لخالد يوسف، وبطولة (حسين فهمي وأحمد عبدالعزيز، وأحمد السعدني، مفيد عاشور، خالد الصاوي، وحنان مطاوع وأحمد فهمي وهالة صدقي) وعدد كبير من النجوم، وعرض في موسم دراما رمضان 2023.
في الأعمال الأدبية العنوان هو العتبة الأولى للنص، وفي القصة (سره الباتع) تشير الكلمتان إلى لغز، ولكنه ليس لغزا عاديا وإنما اقترن به كلمة (باتع) وهى كلمة تعني (الحاذق بكل شيء) بحسب كتاب (محيط المحيط: قاموس مطول للغة العربية)، أي أن ما يشير له العنوان فرد بعينه – أخصه بهاء الضمير- وألحق كلمة السر بباتع أي أن هذا الفرد له علم واسع أو معرفة بكل شيء، وهو الاعتقاد الذي يظنه الناس بالفعل عن هذا الرجل ضمن الأحداث.
وبرغم كل الانتقادت التي وجهت لصانع دراما (سره الباتع) من ملاحظات حول الملابس والديكور وغيرها من عناصر فنية رأى البعض أنها تنال من جودة العمل، إلا أنني أرى أن المخرج المثير للجدل (خالد يوسف) نجح إلى حد كبير في تقديم عمل ملحمي يحمل من الدلالادت الرمزية التي تشفع له، فما أحوجنا الآن لإظهار صورة البطل الشعبي على شاكلة (السلطان حامد)، وهو المشار له في العنوان لأنه اللغز الذي نحاول اكتشاف سره طول الأحداث، على يد الشخصية الرئيسية، وهو الطفل الصغير الذي يتعلق بهذا السر ويحاول فك معالمه منذ نجاحه في امتحانه الدراسي وإقناع جده له أن (يوفي النذر) لـ (السلطان حامد)، ويضيء مجموعة من الشموع عند الضريح القابع وسط جبانة القرية.
انشغل خالد يوسف، ببيئة (يوسف إدريس) الريفية، ومعرفته القوية والعميقة بعادات الأفراد في القرى قديما وطرق نذرهم وتوسلاتهم وحبهم للأضرحة، والطفل عند يوسف إدريس شخصية جيدة للسرد والتوظيف الدرامي، وهو ما اجتهد في سرد سيرته (خالد يوسف) بحيث يربط الماضي بالحاضر في صورة مبهرة ومتقنة للغاية، واعترف أنني كنت أخشى على جوهر القصة التي ابتدعها يوسف إدريس في خياله المبهر في بداية المسلسل، لكن بمرور الحلقات وتتابع الأحداث وتحريك الشخصيات بعين المخرج الواعي زالت خشيتي، مع حركة الكاميرا وأدهشتني زوايا التصوير في كثير من المشاهد.
عبر (خالد يوسف) جيدا من وراء الكاميرا بشغف القراءة الواعية وبخبرته في الإخراج استطاع أن يهضم شخصية الطفل في القصة القصيرة عند (يوسف إدريس)، وفي إطار الحدث برز الطفل عند (خالد يوسف) كما هو في خيال (يوسف إدريس) بوصفه فاعلا محوريا، معبرا بكاميرا حساسة للغاية عن عوالم الطفولة والمراهقة وكأنه جانب مقتطع من الحياة، في حبكة شديدة الإثارة والتشويق، تستلهم الواقع الطفولي وتستند إليه في مسارات سردية وتوترات درامية، احتدمت عند الذروة وهدأت عند النهاية والحل، توازن فيها فعل الطفل مع قوة الحدث.
وكما هو معروف لدى (يوسف إدريس)، أنه يولي اهتماما كبيرا للفلاح وحياة القرى الريفية، اهتم إيضا (خالد يوسف) بالتغيير في وعي الفرد ومشاعره أكثر من اهتمامه بالتغيير الجماعي وتصوره للكتابة متحرر بلا حدود كما كان إدريس) كاتبا متحررا بطبعه ومع الشعب ضد الظلم والقهر والتخلف، ومن الواضح أنه كان ضد استرقاق الفلاحين ومع الحرية بكل صورها البارزة في قصصه، وكان النفاذ إلى عمل الفلاحين ورؤية عالمهم بعيونهم كان (خالد يوسف) على ذات المستوى في صناعة الرؤية الدرامية لأحداث اتسمت بالملحمية في عرض شيق لملم من خلاله أشلاء الوطن من واقع الماضي الأليم إلى حاضر مرتبك ليظهر الاحتلال الفرنسي يلامس الاحتلال الإخواني في صورة توثيقية تربط الخيال بالواقع.
حاول إدريس، خلق صورة درامية عن مدى خوف ورعب الجنود الفرنسيين من الفلاحيين المصريين ووصفهم في خطاب على لسان أحد شخصيات القصة يدعى روجيه: (ما أقسى نظرات هؤلاء المصريين حين يوجهونها إلى عدو غريب، إنهم بينهم وبين أنفسهم يعاملون بعضهم كالديوك طول النهار لا يتحدثون إلا شتائم، ولا يتكلمون إلا زعيقا، ومع هذا فليجسر غريب أي غريب ويحاول أن يلمس أحدهم؛ ما إن يحدث هذا حتى تحدث معجزة وإذا بهم يواجهونه وقد نسوا كل ما كان بينهم من خلافات، وكنا نحس بنظراتهم تكاد تلتهمنا وما أقصى أن تعيش مع شعب لا يحاول إخفاء عداوته، تخيل أن صفوة مسلحة بالبنادق تواجه قوة مسلحة بالعصى والمناجل فتفر مفزوعة هالعة، وكانت للحادثة نتائج رهيبة فقد كان لرجوع الجنود بهذا الشكل أسوأ الأثر على الروح المعنوية، وأصيب جنودنا بمرض الخوف من الفلاحين إلى درجة جعلت أحد أطباء الجيش يطلق على هذه الحالة فلاحين فوبيا).
هذا ما حققه أيضا (خالد يوسف) في انتفاضة الشعب المصري مدعوما بجيشه البطل في أحداث 25 يناير، و30 يونيو، ليؤكد عظمة هذا الشعب الأبي في استطاعته إقصاء الإخوان عن السلطة، من خلال إثارة تساؤلات كبرى عن الإيمان والشك ومدى حق الإنسان في السؤال مهما كان السؤال والبحث عن إجابات مرضية لعقله ومنطقه، في النصف الأول من العمل من خلال التركيز على الحالة الوجودية التي أصابت الطفل وتساؤلاته عن كيف يقدس الناس فردا لا يعرفوا قصته على الأقل، وفي جزء آخر نرى كيف يهول الناس الحقائق ويصنعون منها أساطير تتناقل عبر الأجيال وتضاف لها تفاصيل تجعلها أكثر إثارة.
يتضح ذلك في الجزء الذي تحدث فيه أحد تابعي (أبناء السلطان حامد) أي محبينه، عندما قص حكاية (حامد) أنه قهر الكفار وظل يحاربهم وفي كل مرة يقطع جزءا من جسده في بلدة مختلفة أثناء حربه معهم حتى تقطع جسده كاملا، بينما الحقيقة التي وصل لها البطل أن (حامد) شخصيا حاول أخذ حقه بقتل جندي بعد مقتل أحد الفلاحين، وأن (كليبر) هو من أمر بتقطيع جسد حامد بعد أيام طويلة من البحث عنه لكي يتخلص من حب الناس له، وهو ما تكرر في كره الشعب المصري للإخوان، وأصر بعزيمته القوية التخلص منهم بعد سنة واحدة، تماما كم تخلص المصريون من الاحتلال الفرنسي بعد 3 سنوات من التنكيل والتعذيب واغتصاب الأرض باسم الحرية، نفسها التي تشدق بها الإخوان تحت مسمي (الحرية العدالة).
عالج (خالد يوسف القصة) دراميا بأن أضاف لها أبعادا أخرى مثل حكاية الخطابات تحت كل مقام وفي كل خطاب يقرأ المدون (حسين فهمي) وهو أحد علماء الحملة الفرنسية للخطابات فتظهر الأحداث لنتعرف أكثر على عالم السلطان حامد، وفي العصر الحديث وبالتوازي تحاول عصابة الوصول للخطابات بينما على جانب آخر يقوم حامد بالبحث في مقامات الولي ومحاولة العثور على الخطابات وترميمها وقراءتها، والذي حدث بعد عرض المسلسل أن القصة أعيد إنتاجها لتقرأ من جديد وتحتل الواجهة تماما، وراح الأدباء والمثقفون يقارنون بين العمل والرواية وما الذي أضافه خالد يوسف للقصة القصيرة وكيف عالجها دراميا.
قال البعض أن النية الحسنة والأحلام الجميلة لا تصنع مسلسلا جيدا مشوقا جذابا للجمهور، وسط منافسة شرسة من مسلسلات رمضان المتنوعة، فالمتابع لردود الفعل الأولى على حلقات المسلسل يلاحظ أن السخرية طاولت عناصر كثيرة في العمل، بداية من ملامح الجنود الفرنسيين وحديثهم بالعامية المصرية، والأخطاء في الأزياء والإكسسوارات، ثم ما أثير من جدل حول استعانة المخرج بموسيقى من أعماله السابقة من دون استئذان راجح داود، صاحب الموسيقى التصويرية للمسلسل، ورغم الموازنة الكبيرة التي يتطلبها مسلسل تلفزيوني يدور في زمنين مختلفين، نرى مشاهد حركة تضج بالحيوية، وتم تنفيذها ببراعة تخالف توقعات كثير من المنتقدين للعمل الذي اتهموه بالسذاجة.
نجح المسلسل في محاولة صنع توازن بين المقاومة الشعبية ضد حملة نابليون وثورة المصريين ضد نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، كلتا الثورتين تبرهنان على رفض المصريين الظلم والقمع، لكن يحسب لصانعي (سره الباتع) أنهم أعادوا المجد لـ (ثورة يناير) الغائبة عن الإعلام منذ سنوات، أو المتهمة بالفوضى أحيانا، وأيضا توثيقه الحي لثورة 30 يونيو التي شهدت التحاما بين الجيش والشعب للتخلص من كابوس الإخوان، بعد أن كانوا يظنون أنهم لن يفارقوا السلطة ولو بعد 100 سنة، ليؤكد في النهاية أن هذا شعبا يقدم الوطنية على العقيدة على مدار تاريخه القديم والحديث.
أجمل ما في المسلسل (التتر) الرائع بكلمات الشاعر مصطفى إبراهيم وصوت محمد منير، الذي يعلو أحيانا خلال مشاهد العمل، ويبدو أنه أهم ما سيتركه الأخير في الذاكرة المصرية، ومن فوق كل ذلك الأداء التمثيلي الساحر لكل من (أحمد السعدني، حنان مطاوع، أحمد عبد العزيز، خالد الصاوي، مفيد عاشور، حسين فهمى، محمود قابيل، صلاح عبد الله، هالة صدقي، أحمد وفيق، خالد سرحان)، ومع ذلك لم يفلح خالد يوسف في التحكم وضبط إيقاع أداء كل من (أحمد فهمي، ريم مصطفى، عمرو عبد الجليل) فكأنهم يعملون في مسلسل كوميدي وليس ملحمة وطنية، وخطأه الفادح في توظيف التونسية (رانيا التومي) والكويتية (شمس) اللذين عمدا الإثارة ومن ثم فشلا في التواصل الجيد مع هذا العمل الملحمي، الذي يستعرض صور من البطولات المصرية.
استخرج خالد يوسف من رواية يوسف إدريس القصيرة (لم تكن قصيرة جدا) عملا ناضحا، لا بحيثيات الرواية الأساسية فقط، بل بنى عليها الدراما، التي وزعها على 30 حلقة رمضانية بطريقة مثيرة للدهشة والتأمل، ومن هنا أستطيع القول بأن ما شاهدته على الشاشة كان تنفيذ مشاهد جيدة الإدارة (ممثلون وكاميرا وتوليف)، لاشطط ولاتطويل فيها وتمثيل جيد من المشتركين في تقديم غالبية الشخصيات، ربما الحوار يميل إلى استخدام المصطلحات المعتادة لكن هذا ما يتكلمه الناس وهو واقع.
أنا مع خالد يوسف في رده على منتقديه: (هذا ليس نقد منهجي ولا معتمد على شيء، ويوجد خلط كبير بين التاريخ ورؤيتك للتاريخ، وصحيح أن الفن لايوثق، اللي بيؤرخوا هى المعاهد العلمية والأكاديميات والمؤرخين، والفنون لا تؤرخ لأحد، لو بنعمل فيلم عن جمال عبد الناصر وبنقول عليه عظيم وكان بطل الأمة، بكرة واحد بيكرهه هيقول عليه كارثة، طب هستمد تاريخي من رؤية واحد بيقول عليه عظيم ولا واحد قال إنه مستبد؟ لا ده ولا ده.. مهمتي كفنان عندي رؤية في التاريخ)، لكني لست معه تماما في قوله عن (رانيا التومي): الدور عايز واحدة مغرية وجسمها مغري، فلا يمكن للمشاهد أن يستسيغ أن هذا يكفي لمجرد أنها جميلة ولديها قوام جميل، ومن ثم يتم توظيفها في عمل ملحمي وطني كي تجرحه بهذا الشكل.
على أية حال أثبت (خالد يوسف) أنه يحمل قدرات خاصة كمخرج بارع في استيعاب حركة التاريخ بقدر من الوعي والذكاء والثقافة، الأمر الذي مكنه من صناعة دراما ملحمية توثيقية رائعة تعيش طويلا وتكتب شهادة حق الإجادة له في الدراما التلفزيونية تضاف إلى سجله الإبداعي في السينما.