بقلم: كرمة سامي
تعرف الفنان من النظرة، والله وأنجبت (مشتول السوق) بمحافظة الشرقية ابن المسرح القومي الذي له مائة مسرحية من بينها عشر مسرحيات على خشبة المسرح القومي، ولعب دور (أوزولد) في (الملك لير)، ويعمل منذ أربعين عامًا في الفن، أصبح الآن رسميًا – وبعد أن أدخل (عم ربيع) في قلوبنا – من نجوم الصف الأول في مصر والعالم العربي، وأحد أهم أساتذة التمثيل.
الرزق عندما يكتبه الرحمن لعبده فلا يوقفه إنسان.
أعترف بعزوفي عن مشاهدة الأعمال الدرامية المصرية سينما وتليفزيون منذ سنوات، والسبب معروف، لا أسمح لفريق عمل فني أن يستخف بي، وهذا ما يحدث منذ فترة طويلة، وكثيرًا ما أطرح سؤالي المعتاد غير البريء الذي كنت أكتبه في مقالاتي عن السينما منذ ربع قرن ثم توقفت يأسًا: هل يشاهد صناع الدراما ما وصلت إليه مستويات العمل الدارمي ومعاييره في العالم؟ وكيف، مثلا، بعد أن شاهدت مسلسل Squid Game (لعبة الحبار) أشاهد (اللعبة) المصرية؟، أو كيف بعد أن شاهدت Scrubs (بالطو أزرق) أن أشاهد (بالطو أبيض)؟!، ولا تقتصر علامات الأزمة وشواهدها على الأعمال السابق ذكرها، فقد أدت منصات البث إلى انفتاح غير مسبوق في مشاهدة الأعمال الفنية وانكشفت الخدعة، تكميم فم المشاهد المصري وعصب عينيه.
بدأت الهوة في الاتساع منذ سنوات، وصبرنا لأسباب كثيرة، براعة الكاتب في الحوار، ارتباط الموضوع بواقع حياتنا، براعة الممثلين في تحويل (فسيخ) النص إلى (شَرْبات)، وهكذا انقطع منا من انقطع تماما عن الدراما المصرية وفقد بذلك معينًا كبيرًا يربطه بهويته القومية والاجتماعية في أعمال مثل (رأفت الهجان) و(رحلة السيد أبوالعلا البشري)، واستسلم منا من استسلم كالمخدَر لفضلات الكتابة وأصبح البلطجي الثري المزواج هو مرجعيته!
أقول قولي هذا فيما أعترف بتقصيري وأنا أستاذ الدراما منذ سنوات وأقوم بتدريسها لدفعات متوالية من الطلاب بجامعة عين شمس وتحتل مناقشة أداء الممثل لدوره مساحة كبيرة من محاضراتي!
ماكان لي أن أستسلم لغثاء السيل فأحرم نفسي مما يمكث في الأرض: الإتقان البشري والاخلاص في العمل، وأحرم نفسي من مشاهدة أعمال كانت ستمنحني فيضًا من متعة دراسة أداء هذا الفنان القدير. حتى تابعت مقتطفات من مسلسل (أزمة منتصف العمر)، وجذبني هذا الممثل بعيدًا عن أزمة العمل المحورية التي تمثلت حبكتها المحورية في ورطة حمل زوجة من زوج ابنة زوجها (تصور!)، وسرق الممثل الذي يؤدي دور زوج بطلة العمل كل المشاهد التي ظهر فيها، وتصورت أنه ممثل عربي ضمن الفنانين الذين وفدوا إلينا من سوريا ولبنان والأردن وتونس وأنعشوا مجال التمثيل في مصر ولهم بصمة لا ينكرها أحد.
وفيما كنت أراقب أداءه وتحول نظراته وملامح وجهه ونبرات صوته بعبقرية ناعمة من زوجته التي يستخف بها إلى ابنته التي يدللها إلى عشيقته التي يشتهيها، ولا فرق عندي إن كان مصريًا أو شاميًا يكفي أنه أكد لي عندئذ أن الفراغ الذي أحدثه رحيل العبقري (عادل أدهم) قد احتله ببراعة هذا الفنان.
ثم جاء مسلسل (تحت الوصاية)، وعملا بالمبدأ القديم لم يسمح وقتي إلا بمتابعة مقتطفات شعرت فيها بدفء أداء الممثل الذي يشترك مع الفنانة (منى زكي) في مشاهد البحر، وتناديه بعم ربيع، يصمت معظم الوقت ويؤدي دوره معها جبرًا لكسرها، أداؤه هاديء صامت يجيش بأحاسيس إنسانية أساسية لكنها عصية على اللغة المنطوقة للتعبير عنها. وعندما انتهى دوره بعد مشهد عنيف دافع فيه عن مركبها أبكانا وفقد العمل رونقه و(ربيعه).
طبعا لفت هذا الفنان أنظار الجمهور وتردد اسمه على مواقع التواصل الاجتماعي تقديرًا له، لأكتشف أن ريس البحر رقيق الحال الجدع هو نفسه رجل الأعمال البغيض، وما يجمع بين الدورين موهبة فنان كبير فاضت في رمضان 2023 وله أعمال أخرى سأبحث عنها لأذاكر ما فاتني من دروس في الأداء يذكرني بتلون ممثل أمريكي مفضل لديّ هو ستانلي توتشي Stanley Tucci الذي أتابع كل أدواره باهتمام، ويجمعه بالفنان المصري تخصصه في أداء الأدوار المركبة والنماذج الإنسانية الثرية، والبراعة في أداء المآسي والملاهي بنقس الدرجة من التميز.
لكني الآن أفتخر بفنان من بلدي لا يقل عن توتشي قيمة وبراعة.
ألم أقل لكم.. أنجبت مشتول السوق؟!