بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
منذ أن ظهرت في حياتنا وسائل التواصل الاجتماعى دخلت إلى ثقافتنا مصطلحات ومفاهيم جديدة، أهمها الإعلان عن موت الناقد – ذلك الشخص المتخصص الذى من حقه تحليل العمل وتشريحه واستخلاص القواعد التي تحكمه – وبعد أن كنا نقرأ لكبار الكتاب في مطبوعات متخصصة نقدا موضوعيا رصينا، أصبح من حق كل شخص أن يطرح فكرته عن العمل ومدى استقباله له، و يملك أن يصدر حكمه على أى عمل وينشره على باقى الناس، فهو يملك – بفضل وسائل التواصل – جريدته الخاصة وأيضا محطته التليفزيونية التي يملأها بما يشاء، بل صارت إحدى وسائل الارتزاق من وسائل التواصل إصدار فيديوهات تقيّم الأعمال وتصدر عليها الاحكام.
وهكذا تغير مفهوم النقد الى مفهوم مسطح يعنى إصدار الأحكام على العمل – و هو مفهوم بعيد عن معنى النقد الموضوعى – و بالطبع كلما كنت قاسيا في أحكامك كلما حققت مشاهدات أكثر، كما أن إضافة مسحة من السخرية ستحقق إحساسا بالانتصار لدى المتفرج، فالمشاهد برغم إعجابه بـ (الفنان) يملك إحساسا بتفوق هذا الفنان عليه ويتمنى من طرف خفى أن يهزمه!، وأبرز مثال على ما نقول أن فيديو لفنان ما يسب فريق العمل في مسلسله انتشر على السوشيال ميديا انتشارا كبيرا، وحاز مشاهدة أعلى مما حاز مسلسله، بعد أن كان هذا النجم ملء السمع والأبصار لعدة سنوات، وكانت نفس الجماهير تضحك بمجرد ذكر اسمه فقط، فصارت اليوم تهاجمه بضراوة، فنحن ندمن صنع الآلهة ثم نأكلها!
وبرغم انتشار ظاهرة تقييم الأعمال منذ عدة سنوات إلا أننا لاحظنا في عامنا هذا نوعا من الحدة فى الهجوم والتشفى أيضا وكأن الناس تنفّس عن ظروفها القاسية في الفن والفنانين، فهناك – مثلا – حالة من الهجوم الحاد على وسائل التواصل على الفنانة (رحمة أحمد) التي تقوم بدور (مربوحة) بعد استقبال حافل لها العام الماضى، وبدأ كثيرون في سحب اعترافهم بموهبتها والتراجع عن آرائهم المساندة له ، والحقيقة أننا يجب أن ننظر لهذه الآراء بحذر شديد، ولا نأخذها على أنها أمر مسلم به لعدة أسباب، أولها أن في العام الماضى كان عدد المهاجمين لها – في أولى الحلقات – أضعاف هذا العام، وكثيرون قارنوا بينها و بين النجمة (دنيا سمير غانم) التي كانت تقوم بدور زوجة الكبير من قبل، برغم عدم وجود وجه للمقارنة، ولكن مع نهاية الشهر الكريم كانت الأصوات المنصفة و المؤيدة لمربوحة أعلى، وربما يحدث هذا في نهاية رمضاننا هذا، وحتى لو لم يحدث فإننا لا نملك حصرا دقيقا لأصوات المعجبين في مقابل أصوات الغاضبين حتى نتبين إلى أى حدٍ فقدت (رحمة) من رصيدها لدى الجمهور، والأمر الثانى أنه لو حتى أخطأت (رحمة) في هذا الجزء من المسلسل بأدائها المبالغ فيه – كما يقولون – فمن من الفنانين تساوت جميع أعماله في الجودة؟، وإذا كانت رحمة في بداية طريقها فمن حقها أن تخطئ – إن كانت أخطأت – وتعدل مسارها.
الهجوم الثانى الملفت للنظر هذا الهجوم الموجه لمسلسل (سره الباتع) للمخرج خالد يوسف، وهو هجوم – من وجهة نظرى – فيه سبق إصرار و ترصد لأسباب شخصية تتعلق بالمخرج، و لكنه هجوم حاول أن يرتدى ثوب الموضوعية عن طريق إتهام المخرج بالإهمال في تقديم صورة مطابقة للواقع التاريخى للمسلسل، فانتشرت صورة لأحد أفراد المجاميع وهو يرتدى حذاء رياضيا لا يناسب العصر، والغريب أنك لا يمكن أن تلاحظ هذا الخطأ إلا لو أعدّت الصورة عدة مرات، ثم (جمدتها و كبّرتها) لتلاحظ ذلك الخطأ، فمن من المشاهدين يملك هذه الامكانية؟ ويعرف كيفية القيام بها؟، نعم هو خطأ كبير ولكن في مسلسل بهذه الضخامة من الوارد وقوع أخطاء غير مقصودة، وهذا أمر وارد في الأعمال الكبيرة سواء في مصر أو خارجها.
أمر آخر أسهب فيه بعض الناس وهو مدى التزام المسلسلات بالحقائق التاريخية – يستوى في هذا مسلسل (سره الباتع) ومسلسل (رسالة الإمام) – وفي هذا رأيان، الأول يرى ضرورة الالتزام بالحقائق التاريخية حتى لا ننقل للمتفرج ما قد يعتنقه على أنه من حقائق التاريخ، فمن حق المؤلف أن يفسر الوقائع التاريخية كيف يشاء ولكن دون تغييرها – و أنا من أنصار هذا الرأي – والرأي الثانى – وكان من أنصاره أستاذى الدكتور فوزى فهمى – أن المؤلف يقدم وجهة نظره حتى لو استخدم وقائع تاريخية، ولا يجب أن نلزمه باتباعها بكل دقة فهذه مهمة كتب المؤرخين وليست مهمة الأعمال الفنية.
وبرغم خلافنا في الرأي إلا أن كلا منا كان يقبل الرأي الآخر ولا يشوه أنصاره، والحمد لله أن وسائل التواصل الاجتماعى لم تظهر في زمن فيلم (الناصر صلاح الدين) وإلا لكنا الآن نحاكم صناع الفيلم على أنهم ابتعدوا عن حقائق التاريخ، فلقد قدموا لنا حاكم عكا خائنا، والحقيقة التي ذكرها التاريخ أنه كان من أفضل قواد صلاح الدين وأكثرهم تمسكا بموقعه في معركة عكا التي طال حصارها وعندما سقطت ظل أسيرا عند الصليبين حتى افتداه صلاح الدين بعد ما يقرب من عامين، فهل كان سيفتدى شخصا خائنا؟
ولكن العملان (سره الباتع والشافعى) أصابتهم كثير من سهام النقد بالابتعاد عن حقائق التاريخ وكأنهم لم يقتنعوا بكمية المراجع الضخمة التي تم رصدها في نهاية كل حلقة من مسلسل الشافعى ولا كمية المؤلفين الذين شاركوا فيه ولا مراجعة الأزهر له، وظهر شاعر معاصر يدّعى أنه كاتب لبعض الاشعار التي وردت على لسان الشافعى و اعتبرها البعض سقطة في حين أن ديوان الشافعى في معظمه لا ندرى مدى صحة نسبه إليه، وأرى في تصيد مثل هذه الأخطاء تحاملا من بعض رواد السوشيال ميديا، والدليل هو انتشار صورة للفنان خالد النبوى يرتدى نظارة طبية ويمسك بورق معاصر على انه خطأ في مسلسل الامام الشافعى، و الذين نشروها بالتأكيد لا يعرفون النبوى و مدى تدقيقه في كل تفصيله، وأنه لا يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ الواضح، ثم انكشفت حقيقة الصورة أنها من كواليس المسلسل أثناء التدريب على أحد المشاهد قبل التصوير.
ومن أدلة التصيد أيضا ما تكلم به البعض عن الفانلات القطنية التي يرتديها الفلاحون في (سره الباتع)، وأن زراعة القطن لم تكن دخلت مصر حتى وصول الحملة الفرنسية – و تلك معلومة ناقصة – فمصر عرفت زراعة القطن و لكن بعد الحملة الفرنسية تفوقت في زراعة القطن طويل التيلة، وبعيدا عن تشابه ما يرتديه فلاحوا (سره الباتع) مع ما يرتديه الفلاحون اليوم، فالسؤال الذى يطرح نفسه على أي مصمم ملابس تاريخية هو: من أن يأتي بنفس الأقمشة المستعملة في ذلك الزمن؟، وهل يصل الصدق في الملابس لهذه الدرجة؟ إذن – قياسا على هذا – هناك خطأ تاريخى في ملابس المسلسل، ففي ذلك الوقت كانت مصر تمتلئ بالعبيد، وكانت نساء تلك الطبقة تسير عارية الصدر – كما تم تصويرهم في كتب المؤرخين – فلماذا لا نراهم في المسلسل؟
في النهاية أؤكد أننى لست ضد أن يقول كل فرد رأيه، فالعمل الفني هو للجمهور، ومن حق هذا الجمهور أن يبدى وجهة نظره فيه، و لكننى ضد التصيّد والتركيز على مفردات صغيرة لا تقدم ولا تؤخر، وأيضا ضد الحشد ضد أعمال فنية لأسباب غير فنية، ولذا فربما كان لنا لقاء هادئ حول تلك المسلسلات بعد أن ينتهى الشهر الكريم.