كتب: محمد حبوشة
ماهذا العبث الدرامي؟، لماذا نعلق أسباب فشلنا دائما على خيال المؤلف؟، هل هو منزه عن الوقوع في أخطاء جراء جهله بالوقائع التاريخية؟، إنها فوضى التراجع والخذلان في الدراما المصرية التي تتمتع بشفونية عظيمة في وقتنا الحالي، يالا خيبتا وانسحاقنا أمام تيارات العبث والعطب الذي أصاب الدراما المصرية الحالية في مقتل، فقد لوحظ في الفترة الأخيرة سريان لغة التعالي من جانب من لايملكون ناصية الكتابة التاريخية والتجرؤ على تاريخ الأئمة والعظماء، والتي هى لاتحتمل عبارة (خيال المؤلف)، تلك الجملة المقيتة التي تبرر افتقادنا للقيمة، فسير العظماء يا سادة لا تخضع لخيال المؤلف، بل لابد من التزام الدقة في سرد وتوثيق الوقائع وبلغة فصيحة تتفق ومقام هؤلاء حتى تكون نبراسا لأجيالنا الحالية.
لماذا ندفن رؤوسنا في الرمال إلى هذا الحد حتى يخرج علينا مؤلف (رسالة الإمام) الذي أوقع نفسه في المحظور، ويقول بتبجح: أنه أعمل خياله القاصر في كتابة سيرة (الإمام الشافعي) محملا أحداثه هذا القدر من العبث، وكأنه يحق له فرض وجهة نظره في الكتابة بسذاجة واستخفاف إلى هذا الحد.. لقد استفزتني هذا التنويه الذي تم إضافته على تتر الحلقة الخامسة والتي تقول: (رؤية درامية مستوحاة من أحداث تاريخية) ثم أعقبها بها بتنويه: (بعض حكايات وشخصيات العمل من وحي خيال المؤلف للضروة الدرامية)، وهنا لابد أن يبرز سؤال: هل وقائع التاريخ تخضع لخيال المؤلف بهذه الطريقة المهينة لسير العظماء؟
ظني أن هذا نوع من الجهل الواعي جراء قصور البحث في الكتب والمراجع التي تسرد لنا تفصيل حياة أحد أربعة من أئمة المسلمين الإمام الجليل (محمد بن إدريس الشافعي)، الذي سطر سيرة عطرة في التاريخ الإسلامي، وهذا بالطبع يشير إلى افتقادنا لكتاب السيرة في مصر التي أنتجت من قبل نفس المسلسل بعنوان (الإمام الشافعي) لكن المطرب (إيمان البحر درويش) أفسد بأدائه الساذج هذه التجربة التي كتبها المؤلف (بهاء الدين إبراهيم)، واليوم يخرج علينا مؤلف يدعى (محمد هشام عبية) ليقدم لنا تجربة سيئة للغاية على مستوى الأخطاء التاريخية وخلط الفصحى بالعامية في تحد سافر يؤكد ضعف مستوى الكتابة التاريخية.
ألم ينظر أمثال هذا المؤلف إلى الدراما السورية التي تتصدى لأعمال تاريخية بلغة لا تخرج عن صحيح الكتابة التاريخية التوثيقية في نفس الفترة التي تدور فيها الأحداث، ولنأخذا مثال لعملين في موسم رمضان الحالي مسلسلي (الزند، سفر برلك)، والأخير لنفس المخرج (الليث حجو)، فقد اختار صناع (الزند) اللهجة الشامية التي كانت سائدة في زمن المسلسل وأتقنها على نحو احترافي طاقم التمثيل جميعا، وعلى رأسهم النجم الكبير (تيم حسن) وكذلك الحال في (سفر برلك) الذي استخدم اللهجة الحجازية كما كانت في زمن المسلسل.
منذ عرض الحلقة الأولى، يثير مسلسل (رسالة الإمام) الكثير من الجدل على منصات التواصل المصرية والعربية ليلحق بركب الأعمال التلفزيونية التي وجهت لها انتقادات وسخرية في موسم الدراما الرمضانية الحالي، وذلك على الرغم من أن (رسالة الإمام) مثل عودة للمسلسلات الدينية التاريخية إلى واجهة الدراما الرمضانية مرة أخرى بعد غياب دام سنوات، ويتناول الأعوام الأخيرة من حياة الإمام (محمد بن إدريس الشافعي)، التي قضاها في مصر، وتصدر (وسم) باسم المسلسل الذي يحكي سيرة الإمام الشافعي – أحد أبرز أئمة المذاهب الأربعة ومؤسس علم أصول الفقه – ويجسد دوره خالد النبوي ببراعة رغم وقوع تلك الأخطاء.
وتدور أحداث المسلسل في العصر العباسي، ولفت متخصصون إلى أنه تناول سيرة مغلوطة للإمام فضلا عن بثه بمزيج يجمع بين العربية والعامية المصرية في حين كان الشافعي ناطقا بالفصحى، وأشار كثير من منتقدي المسلسل إلى (أخطاء تاريخية) وصفها البعض بأنها (كارثية) إذ ركز (أشرف حسن) الباحث في اللغة العربية على مشهد حوار في قصر الخليفة العباسي الذي يفترض أن يكون المأمون، مع الإمام الشافعي سنة 198 هجرية ويتكلمان فيه عن (خلق القرآن)، وبين الباحث حقائق أبرزها أن الخليفة المأمون دخل بغداد سنة 204 هجريا، وأنه اعتنق القول بـ (خلق القرآن) سنة 212 هجرية، وأن الإمام الشافعي توفي سنة 204 هجرية في مصر، ولم يقابل المأمون.
أما عن لغة المصريين في زمن الإمام الشافعي، فبين أستاذ التاريخ القديم، (محمود سالم الجندي)، أنه كان في مصر مجموعتين من اللغات لا ثالث لهما ليس بينها ما يعرف اليوم (باللهجة أو العامية المصرية)، وقال: (استمر الناس في مصر لا يتكلمون إلا الفصحى أو اليونانية واللاتينية أو بقايا لغات ولهجات مصرية قديمة لما بعد موت الإمام الشافعي، أما العامية المصرية فلم تبدأ في الظهور والانتشار إلا بعد فترة طويلة من الفتح الإسلامي لمصر أي عام 400 هجرية، أما اللهجة أو العامية المصرية فلم تبدأ في الظهور والانتشار إلا بعد فترة طويلة من الفتح الإسلامي لمصر، خاصة مع انتشار الإسلام فيها عام 400 هجريا.
(ونحن هنا نتحدث عن بعد الفتح بأقل من 180 عام فقط، وبعد قيام الدولة العباسية بأقل من 90 سنة فقط، لم يكن قد وصل بعد إلى مصر الأعاجم من المسلمين سواء الأتراك أو الأكراد أو غيرهم بلغتهم العربية المكسرة والتي كانت بالاندماج مع لهجات السكان في مصر من أهم عوامل ظهور اللهجة أو العامية المصرية)، وختم بالقول: (والإمام البويطي صاحب الشافعي كان يتكلم العربية الفصحى، فهو من قبيلة قرشية استقرت في صعيد مصر وأهم مناطقها بويط التي ولد فيها الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيي القرشي فلقب بها فيقال البويطي).
وكتب أستاذ اللغويات (خالد فهمي): (ما يحصل في مسلسل الشافعي عبث يرقى إلى مستوى الجريمة، جريمة في اللغة، (الشافعي) قرشي ولسانه الفصحى، وجريمة في مخالفات فيما يتعلق بسيرته الذاتية وملكاته الفقهية والعلمية، وجريمة في كثير مما يجري على لسان الممثل مما يقال إنه فقه الشافعي، وجريمة في تصوير الواقع الاجتماعي بين عناصر الأمة المصرية في ذلك التاريخ)،كما انتقد آخرون ما يتم تناقله عبر المنصات من أقوال منسوبة للإمام الشافعي في المسلسل، وأعربوا عن خشيتهم من أن يخلط المتابعون بين الأقوال الصحيحة وبين عبارات من الحوار الدرامي لا تمت بصلة للإمام الشافعي.
وتعليقا على مشهد لجوء (الشافعي) إلى راهب مسيحي لعلاج زوجته، كتب الأكاديمي بجامعة الأزهر (أحمد درويش)، الإمام الشافعي كان معروفا عنه سعة اطلاعه في علم الطب والتشريح حتى قال: (لولا اشتغالي بالفقه لاشتغلت بالطب، فكيف يلجأ لذلك، أشياء لم ترد في الكتب ولا في التراجم)، بينما يؤكد مؤلف المسلسل في تصريحات له: أنه خضع للتدقيق التاريخي والفقهي من الأزهر الشريف، فضلا عن الاستعانة بمئات المراجع والكتب والأبحاث، فيما اعتبره البعض بداية قوية لعودة الدراما الدينية التاريخية.
وكانت آخر الأزمات الخاصة بالمسلسل هى الأبيات الشعرية التي نسبت للإمام الشافعي، بينما هى في الأصل للشاعر السوري (حذيفة العرجي)، والذي كتب عبر (فيسبوك) قائلا: (يرسل بعض الأحبة القراء رسائل بمقطع لـ خالد النبوي وهو يؤدي دور الإمام الشافعي في مسلسل يعرض هذه الأيام، وفي المقطع يتغنى الممثل وممثلة معه ببيتين لي من أوائل ما كتبت قبل عشر سنوات، وذلك على أنها للشافعي رحمه الله)، وأضاف أن (البيتان شهيران وهما:
وتضيقُ دُنيانا فنحسَبُ أنَّنا
سنموتُ يأساً أو نَموت نَحيبا
وإذا بلُطفِ اللهِ يَهطُلُ فجأةً
يُربي منَ اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا،
و(طالما نسبا للشافعي ولطالما وضحت هذا الخطأ، وسبق أن قلت: الإمام أحق بهما مني، وهو أكبر من كل قول ينسب له).
واعتبر(العرجي) أن (ما حصل في المسلسل يدل على جهل فظيع لصناع العمل بهذا الإمام العظيم وبلغته الشعرية على وجه التحديد، ولك أن تتخيل ما سيكون من كوارث أخرى، إذا كان تفصيل بسيط كهذا لم ينتبهوا له، إن أحدهم لم يكلف نفسه تصفح ديوان الشافعي للتأكد من البيتين، وأشك أنهم قرأوا سيرته أصلا.. أنها المهزلة الحقيقية التي تستلزم سؤالا ملحا لـ (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية)، كيف وقعت تلك الكوارث في زمن الإنترنت والسوشيال ميديا التي ترصد كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالأخطاء التاريخية التي يمكن تقع في أحداث مسلسلا يعد من أهم إنتاجات الشركة في هذا الموسم الرمضاني الذي يعج بالفوضى والعشوائية؟
وعلى الرغم من تلك الأخطاء القاتلة فلا أخفي إعجابي بهذ المسلسل الجميل على مستوى الأداء التمثيلي لكافة طاقم العمل، والتصوير المبهر، والإخراج المتقن حقا من جانب المخرج (الليث حجو) إلا أن مثل تلك الأخطاء القاتلة نالت كثيرا من نجاح صناعه، عندما عمد مؤلف أرعن لفرض وجهة نظره القاصرة متصديا لعمل ديني تاريخي كنا في حاجة ماسة لأن يكون بإتقان دون أن يمس بسيرة (الإمام الشافعي)، خاصة عندما صلى الإمام هو والسجناء في الحبس بغير وضوء ولا تيمم، لفقد الماء وفقد التراب الطاهر الذي له غبار وضيق وقت الفجر، وغيرها من الآراء التي انتهى إليها الإمام وهى معتمدة مذهبه.
ومن وجهة نظري: ماحدث هذا خير بكثير من أن يخترع المخرج والسيناريست مواقف تناقض آراء الإمام رضي الله عنه فاستمتعوا بهذا العمل الراقي، ولا يشغلكم كثرة أخطائه عن كثير من نفعه، ويكفي في هذا الصدد ما قاله ابن عبدالحكم: (ما رأيت الشافعي يناظر أحدا إلا رحمته، ولو رأيت الشّافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحجج، وهو ما ورد بعضا منه ضمن أحداث المسلسل الذي قوبل من الجميع بحالة واسعة من الحفاوة أو بالأحرى التفاؤل بعودة الأعمال الدينية مرة أخرى إلى شاشات الدراما العربية، لاسيما مع مشاركة العديد من نجوم الصف الأول في العمل، وعلى رأسهم (خالد النبوي)، والذي لا يختلف أحدى على قدر موهبته ومدى براعته في أداء الأدوار التي لعبها في مختلف الأعمال السينمائية والدرامية.