كتب: محمد حبوشة
كنا إلى وقت قريب جدا قد افتقدنا كثيرا أداءه العذب الشجي في التجسيد الدرامي الحي بعد أن حاد عن المسار المحدد له كممثل محترف حيث ذهب مؤخرا إلى مناطق تجريبية أشبه بالتجريد في الفن التشكيلي، فقد اعتدنا في كل موسم رمضاني أن يظهر النجم السوري الكبير (تيم حسن) مهاراته المتعددة في التعابير الجسدية عبر أحد الأعمال المهمة، وهذا ما ذكرني بمثل أورده معلم التمثيل الأول في العالم (ستلانسلافسكي) في كتابه (إعداد الممثل) حيث يقول: سئل ربان سفينة كيف يتأتى له أن يتذكر ـ خلال رحلة طويلة ـ جميع التفاصيل الدقيقة لساحل من السواحل بمنحنياته وأجزائه القليلة الغور وشعبه الصخرية، فأجاب قائلا: ليس ألقي لها بالا؛ وإنما أنا التزم خطة سير معين لا أحيد عنه، وهذا هو المسلك الذي يجب أن يسلكه الممثل إذ يجب أن يتقدم في طريقه غير حافل بالتفاصيل العديدة، وإنما يكون احتفاله بتلك الوحدات الهامة التي تعيق خط سيره وكأنها الإشارات، وتجعله لا يحيد عن الاتجاه الإبداعي الصحيح.
ولعله في تصريحه قبل رمضان بأيام قليلة الذي قال فيه: (لكل مشتاق للدراما و المسلسلات السورية الكبيرة وذات الخصوصية، إلى حبها السوري والعربي.. منوعدكم يعجبكم إن شاء الله – الزند – ذئب العاصي) قد أثلج صدور جمهوره بالعودة إلى الأداء العذب الذي يبرز بطولة حقيقية التي تشبه إلى حد كبير إلى دوره الأثيري في أروع مسلسلاته على الإطلاق (التغريبة الفلسطينية) حيث تتشابه سيرة (ذئب العاصي) مع سيرة (علي الشيخ يونس)، الشخصية المتعلمة، يسافر إلى المدينة ليتعلم ويصبح لاحقا أستاذا، ثم يحصل على الدكتوراه من أمريكا، يروي المسلسل قصة أسرة فلسطينية فقيرة تكافح مِن أجل البقاء في ظل الانتداب البريطاني ثم خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، وفي مخيم اللجوء بعد النكبة، حيث تلخص الأحداث التي مرت بها هذه الأسرة حقبة تاريخية هامة في حياة الفلسطينيين امتدت ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن العشرين مرورا بالعديد من الأحداث الهامة، حتى نكسة يونيو عام 1967م.
والقصة في (الزند) والتي تعود إلى عام 1900 تشبه (التغريبة) في أنها إلى حد ما تحكي صمود أسرة سورية من (حمص) تواجهه تعننت وجبروت الدولة العثمانية من ممارسات التنكيل وسرقة الأرض، وهنا يحاول (ذئب العاصي) توثيق المعاناة بشكل قريب من الواقع، وتكمن أهمية العمل في أنه نشط الذاكرة السورية تماما كما هى الفلسطينية في (التغريبة) وصنع مخزونا قيميا يبقى للأجيال القادمة، فبعدما راهن الاحتلال الإسرائيلي على طمس الذاكرة الفلسطينية من عقول الأجيال المتعاقبة، هاهو في (الزند) يحاول أن يقاوم طمس الهوية السورية، حيث يقتل والد عاصي أمام أعينه دفاعا عن أرضه، وعندما يشتد عوده يقرر الانتقام لوالده والثأر له، ويعود إلى قريته بعد تأديته الخدمة العسكرية، فيجد نفسه في مواجهة (النورس باشا) وما يملكه من نفوذ وسلطة قوية.
المسلسل لم يلخص فقط تاريخ تلك المرحلة، بل استعرض كذلك الحياة الاجتماعية السورية بأطيافها وطبقاتها المختلفة، إذ تميز بتنوع شخصياته، فضم الفلاح والعامل والثائر والإقطاعي وحتى الخائن لوطنه، وهو يقدم المأساة السورية في صيغة قريبة من فهم شرائح واسعة من الجمهور العربي تعجز وسائل تعبيرية أخرى عن إيصالها وهو ما من شأنه أن يساهم في حفظ الذاكرة السورية أمام المؤامرات والتشويه التاريخي الذي عمل عليه الاحتلال العثماني الجاثم على أنفاس شعب حاول المقاومة بشق الأنفس في سبيل الحفاظ على التراب السوري المقدس.
تيم حسن في (الزند) يستعيد بريق موهبته من جديد بعمل تاريخي وطني يؤكد أنه على مدار رحلته الإبداعية الطويلة في مهنة التمثيل كان يعمل بخطة سير في الأداء لا يحيد عنها، قوامها الاجتهاد والمذاكرة والتطور من مرحلة إلى أخرى، وهو ما حقق له النجاح منذ بداياته الأولى في الدراما السورية عام 2000 في عملين الأول فنتازي وهو (كان ياما كان)، والثاني تاريخي (الزير سالم)، ثم من بعدهما (صلاح الدين الأيوبي، صقر قريش، أبو الطيب المتنبي، ردم الأساطير)، مرور بأول بطولاته المشتركة مع النجم الكبير جمال سليمان في (ربيع قرطبه)، وبداية ظهوره كممثل له سمت وملامح وأسلوب تلقائي خاص في (التغريبة الفلسطينية)، وبطولته الأولى في (ملوك الطوائف)، ثم (نزار قباني)، وإبداعه في تجسيد دور (عبود) باعتباره شخصية (البلطجي أو القبضاي) في (الانتظار)، ورائعته عبر إطلالته الأولى في الدرما المصرية (الملك فاروق) التي حببت المصريين في الملك الشاب ونفضت كثيرا من الغبار حول شخصيته حين جسده (تيم) جذابا وصاحب الكاريزما، وكذلك المسلسل البدوي (صراع على الرمال)، في لون جديد ومختلف عليه اقتحم من خلاله عالم البادية والصحراء، وفي مراحل النضج لعب دورا مركبا في (أسعد الوراق) لفت الأنظار إليه كثيرا في حينه، والجاسوس بأسلوب السهل الممتنع مع (عابد كرمان) والرومانسي صاحب الملامح القوية في (الصقر شاهين).
كما يذكرنا (تيم حسن) في شخصية (ذئب العاصي) بإبداعه الحقيقيى حين ظهر خلال السنوات العشرين سنة الأخيرة بداية من (الإخوة) بشخصيته الجذابة في فتنة آسرة حين جمعت جبروت القوة بمزيج من النعومة، وفي (تشيللو) بمشيته المتزنة لشخصيّة (تيمور)، تلك التي تتوافق تماما مع حاشيته التي تمشي خلفه دائما، كما أظهر أناقة وسحرا آخاذا يليق بشخصيته ملبسا ومأكلا ومزاجا، أما تجسيده لدور (ميار) في (نص يوم) فقد اختار له مشية الأبله، وهو ما نجح في إظهار الشخصية ضعيفة وفقا لمقتضيات الدور وسير الأحداث التي تجمع بين الإثارة والتشويق.
وعلى نفس الوتيرة أيضا نجح في شخصية (همام) الصعيدي في (الوسواس) وهو ما جعله بالضرورة لايواجه مشكلة مع شخصية (جبل شيخ الجبل) في (الهيبة)، إذ أنه تصرف في أدائه مثل جبل راسخ؛ قليل الكلام، هادئ، متزن، وقادر دوما على أن يكون قوام عشيرته التي يتزعمها، كما أظهر في الوقت نفسه، قوته وغلبته على أفراد عشيرته وعلى العشائر الأخرى في قريته، وعلى تجار السلاح الذين يشكلون مصدر دخل له ولـ (عائلته) أهل الهيبة، وفق تعبير العمل، ومن هنا فلابد أن نسجل إعجابنا الكبير جدا بـ (تيم حسن) الذي جعلنا ألا ننظر إلى أدائه من خلال الصورة النمطية للزعيم التي اعتدنا عليه في الأفلام والمسلسلات المصرية والعربية، أو مسلسلات سورية مثل (باب الحارة) الأمر الذي جعل التحدّي أمامه صعب للغاية.
ولأن الفن الدرامي لا مناص للممثل فيه من الإيمان بالكلام الذي سيلقيه على مسامع المتفرجين، والذي يتضمن جملة من الأفكار والمشاعر ليس إيمانا مجردا بل إيمانا صادقا فيما يلقيه من حوار بعد التعرف على أبعاد الشخصية الطبيعية والنفسية والاجتماعية وصفاتها بالسلوك والتصرفات وطريقة الكلام، فقد أثبت (تيم) في الجزء الثاني من مسلسل (الهيبة) إنه ذلك الممثل الذي يستطيع بخبرته أن يتعرف على العناصر التي تجذب السامع وتثيره من أجل إبراز القيم الدرامية المختلفة من خلال لعبه دور (جبل شيخ الجبل) ببراعة غير منقوصة، الأمر الذي جعل اسمه ينطبع في مخيلة المشاهدين الرمضانيين، وأصبح حديث مجالسهم، ولقد استقطبت هذه الشخصية شريحة كبيرة من الشباب في كل من سوريا ولبنان، وقد ساعدت كاريزما الممثل السوري المبدع (تيم حسن) على تقديم شخصية (جبل) بطريقة مميزة قل نظيرها في مسلسلات (الأكشن) العربية.
نعم استطاع (تيم حسن) طوال موسمين أو ثلاثة – إذا جاز لنا التعبير – أن لا يكون مجرد نجم درامي وإنما شكل حالة اجتماعية بـ (الكاراكتير) الذي خلقه، وعرف كيف يحافظ على هيبته التمثيلية الإبداعية ويضيف إليها أبعادا شعبوية جعلت من الممثل بطلا قوميا متسلحا بإبداعه التعبيري فقط، وكل رشاشاته ومسدساته مجرد تفاصيل تضيف أبعاد أخرى على الشخصية، فقد جاءت هذه التجربة كظاهرة، وبدأ الكبار والصغار يتمثلون بهذه الشخصية بلباسهم الأسود ونظاراتهم السوداء وحركاتهم الصارمة والرجولية، ولقد روج (تيم حسن) لكلمة (منتهية) التي يرددها باستمرار.
ورغم ذلك لم ينجح تيم في الجزئين الرابع والخامس من (الهيبة) في أن يجعله عملا اجتماعيا رغم أنه حافظ طويلا على تماسك العائلة، وليس عملا رومانسيا رغم الخط الواهي الذي يحاول الحفاظ عليه من جزء لآخر، لكنه يشير إلى أن (روبن هود السوري) هذه المرة، يعيد إلى الأذهان قصة (بابلو إسكوبارا) زعيم المافيا الكولومبي وأشهر تاجر للمخدرات، الذي ذاع اسمه في عالم الجريمة، وربما هذا الانتشار الكبير للمسلسل لم يكن مستغربا بنظر البعض مع ارتفاع نسب العنف في البلدان العربية، وانتشار الجريمة والزعامات والميليشيات، إذ يرى البعض أن المسلسل يمثل حالة واقعية تعيشها العديد من الدول العربية، كما أن شخصية (جبل) موجودة في كل دولة عربية، بعضها غير معروف والآخر معروف ويعيش حياته ويمارس نشاطه بحرية، بسبب الفساد، لكن المستغرب اليوم هو قبول الجمهور لهذه الشخصية السلبية بالمكون العام من قبل الجمهور واعتبارها رمزا محببا، على عكس النفور من مثل هذه الشخصيات بالماضي، واعتبارها مثالا سيئا لا يجب تقديمه بصورة مقربة للناس بهذا الشكل.
الحقيقة المرة أن النجم السوري (تيم حسن) كان قد بدأ يفقد (هيبته التمثيلية) ربما بتأثير من (الهيبة) خاصة الجزئين (الرابع والخامس)، ولكن لأنه من بين قلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، فقد جاء أداءه في (الزند) ليؤكد بما لايدع مجالا للشك في أنه من الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، وأن يفي بمتطلبات المرونة والتحكم والتعبيرعلى طول الخط، فضلا عن أنه من فئة قليلة من الممثلين الذين يتدربون على طريقة التنفس بطريقة صحيحة، وعلى التنويع في إيقاع الصوت والنبرة، كما أنه يتقن التحدث بلهجات مختلفة.. أهلا بعودة تيم حسن على الطريق الصحيح الذي يبقيه ممثلا من طراز رفيع في طليعة عظماء التمثيل العربي.