كتب: محمد حبوشة
مما لاشك فيه أن الانتقادات اللاذعة للفنان رامز جلال بسبب برنامجه الخاص بالمقالب لاتنال من قدره كممثل كوميديي خفيف الظل يستطيع أن ينتزع الضحك المحبب لقلوبنا، وهو المعرف بأدواره الكوميدية الطازجة، وقدم مجموعة من الأفلام التي أخذت طابعا خاصا لأنه صاحب الابتسامة كوميدية بامتياز ونافس كبار النجوم في مصر وتفوق عليهم، وآخر العنقود كان فيلم (أخي فوق الشجرة) الذي يجمعه مع نخبة من النجوم الشباب، ويقدم فيه (جلال) شخصية مزدوجة، ويستعرض مهاراته الكوميدية في كثير من المواقف التي تفرضها الحبكة السينمائية للفيلم، وهو هنا يميل إلى قول الكاتب الفرنسي (مارسيل بانيول): (إن الفنان الأصيل هو الذي يثير الضحك في قلوب الناس ويسرى عنهم، جدير بأن نرفعه الى مراتب الابطال العظماء، فنقول، البطل العظيم مولير والبطل العظيم شارلي شابلن).
الممثل الناجح مثل (رامز جلال) هو الذي يتقن دوره، ويؤدي الشخصية المطلوبة منه، بإقناع كبير، بغض النظر عن هذا الدور أو غايته، لكن ما يؤكده الجميع، أن أصعب الأدوار التمثيلية هى الأدوار الكوميدية القادرة على إدخال الفرح إلى قلوب الناس، ورسم البسمة على شفاههم، والضحكة على أفواههم، وبالتالي إسعادهم خلال الفترة التي يمضونها في مشاهدة الممثلين الكوميديين، في شريط سينمائي أو تلفزيوني، ذلك لأن مهمة (الكوميديان) أصعب بكثير، من مهمة (التراجيديان) بدليل وفرة الممثلين القادرين على لعب الأدوار المختلفة، وندرة الممثلين الهزليين أو الكوميديين، وفي مختلف الأحقاب والأزمنة.
تميزت أفلام رامز جلال باللعب على الشخصية من الداخل والخارج، فكما رأيناه في فيلم (رغدة متوحشة) في دور فتاة جميلة تتهافت عليها شركات الإنتاج لتصوير إعلانات، نجده اليوم في (أخي فوق الشجرة) يجسد شخصيتين واحدة منهما، لشاب سمين يعيش حياة روتينية قاتلة، وقد استغرق تحضيره من حيث الشكل لأداء هذه الشخصية ساعات، وآخر شاب نحيف وهادئ يعيش حياته بتفاصيلها المنتظمة، ويبدو ملحوظا أنه يرسخ في عقل (رامز جلال) أن الكوميديا تشكل الرئة التي يتنفس منها الفن، وهى التي تستقطب الفئة الأكبر من الجمهور، لأن الابتسامة تبقى الوسيلة الوحيدة لمحاربة الهموم والمشكلات والضغوط التي نعيشها، لذا تجده في فيلم (أخي فوق الشجرة) يقدم تجربة جديدة تضاف إلى أعمال فنان المقالب المخيفة، لتعزز حضوره على الساحة الفنية وتزيد من نسبة متابعيه.
يمكن تصنيف الفيلم بأنه (رومانسي كوميدي)، يجمع الحب والمواقف المضحكة في حبكة بسيطة وممتعة، وهذا ما اعتاد الجمهور على متابعته في أعمال رامز جلال، فلا توجد تعقيدات في العمل ولا قصص متداخلة، بساطة وكوميديا وتمثيل محبب، وهذه العناصر الثلاثة التي يركز عليها جلال في أعماله، لأنه يسعى إلى تقديم الضحكة بإطار محترم وراق، ويحسن اختيار أعماله انطلاقا من هذا الأساس، وفيلم (أخي فوق الشجرة) يتضمن كثيرا من المواقف الكوميدية التي تجمع بين شخصيات العمل من جهة وبين رامز جلال وتوأمه (في الفيلم) من جهة أخرى، بعد أن يعيش (بهاء) أعواما طويلة من حياته وحيدا لا أشقاء له، يكتشف أن لديه شقيقا توأما (علاء) يعيش في أمريكا.
(بهاء وعلاء)، قصة توأم لكن لا يجمعهما شيء، لا شكل ولا مضمون، واحد نحيف والآخر سمين، واحد جدي ومهتم بالتفاصيل، والآخر فوضوي ولا يعنيه شيء في الحياة سوى أن يكون سعيدا، تتبدل حياة (بهاء) بعد دخول أخيه في حياته، يعود من أمريكا ويقرر أن يكون جزءا من حياة شقيقه التوأم، يتعرف على أصدقائه ويدخل في تفاصيل حياته اليومية ويقلب له الأمور رأسا على عقب، ويكتشف التوأم أن رغم اختلافهما في الشكل والتصرفات إلا أن هناك جينات واحدة تجمع بينهما وتجعلهما يلتقيان في مواقف كثيرة، ضمن إطار كوميدي ساخر.
قصة الفيلم التي كتبها لؤي السيد بعناية خاصة، وإخراج محمود كريم الذي قدم تابلوهات ضاحكة من القلب، خاصة في وجود النجمة العربية (نسرين طافش) التي تقدم نفسها في دور كوميدي ثان مختلف يعكس ذكائها في الاختيار والتنوع في أدوارها في السينما بعد تجربتها الكوميدية السابقة (نادي الرجال السري)، الذي قدمها ككوميدانة من الوزن الثقيل، وهى هنا تستخدم مصادر عديدة في أداء دورها مستمدة من تجربيتها الحياتية، الخبرة الثقافية، الخيال، الذاكرة، الرصد والملاحظة، وهى تدرك أن كل ممثل يحتاج الى هذه المصادر، أو يبحث عن مصدره الخاص، لأن ذلك يعزز طريقته فى الأداء ويثرى تجربته ويساهم فى تطوير إمكاناته وأدواته التعبيرية، وكأنها هنا تتبع قول (روبرت دى نيرو): يتعين على الممثلين أن يعرضوا أنفسهم لما يحيط بهم، أن يخلقوا نوعا من الاتصال، ويحتفظوا بأذهانهم مفتوحة لتلقى كل ما يحدث فى هذا المحيط عاجلا أم أجلا، سوف تنسل فكرة إلى رأسك، شعور، مفتاح، أوربما حادثة، هذه الأمور ستفيد الممثل فيما بعد، ويستطيع أن يربطها بالمشهد عند التنفيذ.
ونسرين من الممثلات اللاتي لايستطيعن أن يعزلن أنفسهن عن المحيط، إنها تتأثر وتتفاعل مع ما تراه وما يحدث وما يزخر به الواقع من نماذج وعادات وسلوكيات، وردود الفعل التى عادة تكون عفوية وسريعة عندها كممثلة تصبح مدروسة وخاضعة للتحليل، وذلك بالتركيز عليها وتمديدها ومنحها خاصية استثنائية، وربما يرجع السر في ذلك أنها ممثلة لاتكف عن تأمل الآخرين، دراستهم تحليلهم، ومحاكاة حركاتهم وأصواتهم إذا اقتضى الأمر ذلك بحسب (دوستين هوفمان) الذي يستمد مصادره غالبا من مراقبة الآخرين فى أماكن تواجدهم وهو يرصد فى المقام الأول ايقاعهم الخاص.
ولأن لكل فرد إيقاعه المميز، ليس هناك تشابه بين ايقاعين، لهذا فنسرين لابد لها عند الإقبال على دخول تجربة جديدة أن تجد أولا الايقاع الخاص للشخصية التى تخلقها وأفضل وسيلة هى متابعة الشخصية عبر الشارع، التقاط طريقة مشيتها، محاكاتها فيما تفعل، لاحظ ما يحدث معها في شخصية (كوليت)، فإنها تقوم بالتركيز على إيقاعها الشخصى، ومن ثم ستجد أنك تراها شخصية مختلفة تماما عن ماسبقها من شخصيات جسدتها في السينما والتلفزيون، فقد قدمت شخصية (كوليت – أمريكية من أصل لبناني) على مستوى الحركة والأداء ولغة الجسد رشيقة خفيفة الظل مع قدر من الشقاوة المحببة التي تملك القدرة على انتزاع الضحك من قلب المواقف والمفارقات المذهلة، بحيث بدت في النهاية طيفا جميلا وراقيا كعادتها في الدراما التلفزيونية التي ظهرت فيها في مصر وسوريا.
ولاكتمال متعة المشاهدة الكوميدية فقد شاهدنا حمدى الميرغنى فى شخصية المحامى أو (سنيد) رامز جلال، وشاهدنا محمد ثروت وويزو فى دور زوجين جيران (علاء)، وعلى الرغم مما شاهدناه من جانب بيومى فؤاد فى دور الأب فى مشهدين فقط، فإنه لم يكن له فيهما أى حضور، بل كانا دربا من دروب التهريج الذي أساء بالضروروة لعملاق السينما (زكي رستم)، فقد جنح نحو الافتعال والإسفاف كانا سيدا الموقف، ناهيك عن كم الكلمات الخارجة التى تخدش الحياء العام، والإسقاطات الجنسية المبالغ فيها، وجميعها بدافع الإضحاك لا أكثر، وتبدو المبالغة فى هذا الأمر بشكل لم يعد مقبولا من نجم كبير يجب أن يدقق جيدا في اختيارته.
اعتمد السيناريو الذي كتبه لؤي السيد على تفجير المفارقات الضاحكة الناتجة من التناقض الحاد في الطباع والميول بين الشخصيتين الرئيسيتين، فأحدهما خائف من الحياة ويهرب من المواجهة، بينما الآخر شديد الرعونة ويصمم على تجربة كل ما هو جديد، كما بدا الفيلم مباراة في إطلاق النكات و(الإفيهات) بين ثلاثي الضحك (حمدي الميرغني ومحمد ثروت، ونسرين طافش)، ويبدو عنوان العمل الذي يخرجه محمود كريم استمرارا لغرام رامز جلال بالعناوين التي تستلهم أسماء أعمال خالدة في الذاكرة الفنية مع عمل تعديل طفيف يصنع مفارقة كوميدية، فالاسم هنا يلعب على وتر (أبي فوق الشجرة)، بطولة عبد الحليم حافظ ونادية لطفي، إنتاج 1969، وهو ما تكرر في أعمال أخرى لرامز مثل (أحلام الفتى الطايش) الذي يتقاطع مع المسلسل الشهير لعادل إمام (أحلام الفتى الطائر) إنتاج 1978، و(أحمد نوتردام) الذي يعيد إلى الأذهان الرواية الشهيرة (أحدب نوتردام) لفكتور هوجو (1802 – 1885)، والتي تم استلهامها في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية.
المهم أنه بدا لنا رامز جلال فنان خفيف الدم مبهج الحضور، مع كل من (نسرين طافش وحمدي المرغني، ومحمد ثورت وويزو) ليتصدر فيلم (أخي فوق الشجرة) قائمة إيرادات أفلام إجازة منتصف العام في مصر، في ظل 7 أفلام تخوض أفلام سباق موسم منتصف العام، كما تصدر الفيلم أيضا محرك البحث جوجل، وسط بحث الكثيرين عن سهرة كوميدية دسمة في ظل الانتكاسات الخطرة والتي تستوجب بحثا في راهن مدمر، وواقع ممزق، وخيبات تنخر في جسد الجغرافيا العربية وروحها، وتعود إلى زمن سينمائي مشرق، وإلى مرحلة خصبة من الضحك السليم، الذي يعتمد على ركائز كوميدية في الاشتغال البصري.
وأخيرا يمكنني القول بأن فيلم (أخي فوق الشجرة) يأتي في المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي سببا أساسييا في القدرة على ابتكار نص سينمائي كوميدي، يثير الضحك من دون (ابتذال)، ويطرح أسئلة ومآزق من دون الوقوع في التصنع والمبالغة والادعاء، مع المحافظة على سوية كوميدية: (نحن اليوم في عالم عربي درامي ودموي ومتقطع الأوصال، لا يبحث إلا عن الضحك، ويؤكد في الوقت ذاته أن الكوميديا يجب أن تكون أكثر قربا من الحقيقة وواقع المجتمع أكثر من أي نوع آخر درامي.
يقول الفيلسوف الفرنسي (هنري لويس برجسون) في كتابه (الضحك): (نجدها – يعني الكوميديا – تسمو كلما مالت إلى الامتزاج بالحياة، وهناك مشاهد كثيرة من الحياة الواقعية التي تقترب من الملهاة الراقية، بحيث يمكن للمؤلف أن يستعيرها دون أن يغير فيها كلمة واحدة)، ولقد عانت الكوميديا في فترات زمنية من أنواع من الفنون الهزلية (الفارس أو الفودفيل)، تماما كما تعاني مسلسلاتنا وأفلامنا وحتى برامجنا حاليا.
ولأن الجمهور المصرى يميل للكوميديا بطبيعته – كشعب ابن نكتة – ومن ثم تصبح السينما بديلا كوميديا يعوضنا تراجعها في الدراما التليفزيونية، فقد جاء فيلم (أخي فوق الشجرة) باختصار ليمثل موجة الكوميديا الذكية أفلام تشتبك مع الموروث الفني، والثقافي المحلي، والعالمي، مثلما تشتبك مع البنية الفيلمية لذاتها، أكثر مما تشتبك مع مشاكل المجتمع وقضاياه، وهنا نأتي لمقولة برجسون الشهيرة: (لا مضحك إلا فيما هو إنساني) تنطبق أكثر ما تنطبق على جوهر الفن وقيمته، حيث يرتبط خلود العمل الفني عموما، بقدرته على الإمساك بنبض الحالة الإنسانية والتعبير عنها، بكل استثناءاتها وظروفها وظروفها وتجلياتها، حتى لو تغيرت معطيات الزمن أو الظرف العام الذي أوجد المشكلة التي يعالجها العمل الفني.