بقلم: محمد شمروخ
والله حزنت!
ليه بس؟!
وسببب حزنى كان عجيبا، فقد دعيت للمشاركة في ندوة بمعرض الكتاب المنتهى قريبا منذ عدة أيام، للحديث عن الأستاذ (صلاح جاهين) رحمه الله بصفته شخصية المعرض هذا العام، ولم يكن لى أن أفوت هذه الفرصة التاريخية.. إذن سأتحدث عن أبى الروحى وسبب شقائي وسعادتى معا.. ذلك الذي يجعلنى أبدو أحيانا وكأنى باكلم نفسي وأن أردد أشعاره بمناسبة وبدون مناسبة!
كان لابد لى من مراجعة نهائية لبعض المواقف والمعلومات عنه والتى أحفظ بعضها حفظى لكثير من أشعاره لاسيما (الرباعيات) التى لا أمل من ترديدها بين الحين والحين.
وكان المطلوب أن أتحدث عن جانب خاص بصلاح جاهين كصحفي ورسام الكاريكاتير بالأهرام، والذي طرح اسمى للمشاركة في هذا الحدث التاريخي في حياتى الخاصة والعامة، يعرف جيدا من يكون صلاح جاهين بالنسبة لى كواحد من دراويش (الطريقة الجاهينية) التى تتردد أشعاره ورباعياته بين مريديها كأوراد الطرق الصوفية!
واتخذت مكانى على المنصة وبجوارى الأستاذة سمر الدسوقى رئيس تحرير مجلة حواء، والأستاذ علاء أبوزيد المذيع بإذاعة الشباب والرياضة الذي تولى إدارة الحوار، والأستاذ طارق رضوان الكاتب الصحفى ورئيس تحرير مجلة صباح الخير سابقا والذي جلس على كرسي سبقه إليه صلاح جاهين في رئاسة تحرير المجلة بمبنى مؤسسة روزاليوسف.
ورحت أتلو بعض الآيات الكريمة وأتمتم بالأدعية حتى لا أتلجلج أو أهلفط في الكلام.. ولا كأنى داخل امتحان ثانوية عامة.. والحمد لله وله المنة.. تمت الندوة على خير!
جميل جدا.. فما الداعى للحزن إذن؟!
آه يا صاحبي.. فما أشقى نفسي ولم يبرأ سقمها، مراجعتى لموقف مشهور هاجت ذكراه مع تحضيرى للحدث الفريد عندما راجعت مرارا كل كلمة كتبت في الواقعة التى وقعت مع صلاح جاهين بسبب كاريكاتير ساخر.
باختصار: (كانت الواقعة في شهر نوفمبر سنة 1974، بسبب أزمة مع وزير العدل، المستشار مصطفى أبو زيد فهمى، والذي كان يتولى في الوقت ذاته، منصب المدعى العام الاشتراكى، وتلك الأزمة كانت إثر نشر كاريكاتير في الأهرام لجاهين يسخر من موقف من تلوث مياه الشرب في القاهرة).
ولأن الكاركاتير حوى رسم شخصية المستشار أبو زيد المدعى الاشتراكي وهو يصدر تعليمات خاصة بالقضية، فما كان منه إلا أن تقدم ببلاغ إلى النائب العام ضد صلاح جاهين لاعتبار ما حدث سب وقذف لشخصة وكذلك إساءة له ولسلطة القضاء.
يا داهية دقي!
ولكن حتى مع افتراض الداهية، إلا أن هنا الأمر يبدو عاديا في ظل العلاقات المتشابكة ما بين الصحافة وممثلى السلطة، لما تتطلبه الأمور من ضرورة احتكاك يمكن أن يوقع خلافات أو حتى أزمات، لكن ما ليس بالعادى وما أثار شجونى وفجر حزونى، هو ما أعدت قراءته عن الاتصالات التى جرت إثر هذا البلاغ، وكانت ما بين رئيس الجمهورية وقتها أنور السادات وبين رئيس تحرير الأهرام أحمد بهاء الدين!
أما البلاغ فقد تم تجاوزه وانتهت المشكلة ولم يحدث ثمة ما يعكر صفو جاهين أو يتعرض لحريته أو أمنه الشخصى كرسام أو كصحفى أو كمواطن.
الله يرحم الجميع.
لكن ما دار بين رئيس الجمهورية ورئيس التحرير هو سر الحزن، فالسيد رئيس الجمهورية يطلب بلطف من السيد رئيس التحرير، أن (يخفوا) على (الراجل) قاصدا المدعى العام الذي هو وزير العدل والذي كان محط إعجاب ورعاية السادت شخصيا منذ تولى أبوزيد الادعاء في قضية (مراكز القوى!).
رئيس الجمهورية يطلب من رئيس تحرير جريدة تابعة للدولة يستطيع أن يعزله بمنتهى السهولة – كما سبق وحدث مرارا مع من هو أعتى من بهاء الدين – (بلطف) أن (يخفوا) على (الراجل).
آه وآه وآه
ما يحزننى هو ما صار الحال عليه بعد ذلك فيما بين (الدولة) و(صحافة الدولة).
فهذا (الراجل) الذي هو مطلوب من صلاح جاهين أن (يخف عليه) كان يتولى في نفس ذات نفس الوقت، يجمع ما بين منصبين من أهم وأخطر المناصب، وزير.. ومش أى وزارة يا صاحبي.. دى وزارة العدل!، وكذلك منصب المدعى العام الاشتراكى الذي لا يقل خطورة عن أى منصب وزير!
وهل هذا يجوز؟!
قضية طرحها الأهرام بمنتهى الجراءة (مع تداعيات القضية التى لم يفتح فيها تحقيق ذو بال) مؤكدا أن الجمع بين المنصبين يخالف الدستور ولابد من معالجة هذا (العوار بالرجوع إلى السلطة التشريعية).
هذا ليس مجرد مطلب منشور بل قالها (بهاء الدين) صراحة للسادات الذي علق ساخرا في اتصال مباشر: (أنتم عايزين ترجعوا الأهرام يشيل وزرا ويحط وزرا؟!، والسادات يعرض في كلامه هذا بعهد هيكل الذي كان اشتهر بأن تشكبل الوزارات كان يجرى في مكتبه بالأهرام، وأن السيدة نوال المحلاوى (مديرة مكتب هيكل) تعلم بالتشكيل الوزارى قبل الوزراء أنفسهم!
وما النتيجة؟!
انتصار جاهين وانتصار بهاء الدين وانتصار الأهرام وانتصار الكاريكاتير وانتصار الصحافة، فيتخلى المستشار مصطفى أبو زيد فهمى عن منصب وزير العدل، بالرغم من تصريح السادات لبهاء الدين بأنه معجب بالوزير لأنه رد على الأهرام برسالة مستخدما حقه في الرد كمسئول وكواطن، ولم يصمت مثل بقية الوزراء!
رغم هذا الإعجاب من الرئيس بوزيره الأثير، جاء قرار اللجنة التشريعية بضرورة أن يترك أبوزيد الوزارة مع السماح ببقائه في منصب المدعى العام!
وامتثل السادات لقرار اللجنة التشريعية!
لا وحياة النبي.. امتثل لما أثارته الأهرام!
طب ومن نبى النبي.. الامتثال كان لكاركتير رسمه صلاح جاهين!
آهين وآهين وآهين.
وحياة النعمة دى ما قصدى حاجة.. لكن لا الزمان هو الزمان ولا الصحافة هى الصحافة ولا الدنيا هى الدنيا، ومع ذلك أظن إنه من حقى إنى أحزن.. فلا يوجد ثمة قانون أو قرار أو لائحة أو تعليمات بحظر الحزن!
آه يا عم صلاح.. وحياتك لما حكيت عن القصة كأن كلمات واحدة معينة من رباعياتك كانت أعلى من دوشة الميكرفونات في ساحات معرض الكتاب:
أنا قلبى كان شخشيخة أصبح جرس
جلجت به.. صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه خفتوا ليه
لا في إيدى سيف ولا تحت منى فرس!
……………………………..عجبى!