بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
ارتفعت عدة أصوات في الفترة الأخيرة تنعى الضعف الذى أصاب القوى الناعمة المصرية، وأنها في طريقها للزوال أو الاضمحلال، بسبب ظهور فعاليات فنية في دول عربية أخرى: فمع ظهور أي مهرجان سينمائى جديد، أو تجمع فنى حافل في إحدى الدول، أو جائزة دولية يحصل عليها مبدع غير مصري تنطلق تلك الأصوات تبكى ضياع القوة الناعمة المصرية وتعتبر ما يحدث مؤامرة لسحب البساط من تحت أرجل الثقافة المصرية!
والحقيقة أن هذه الأصوات تضر بمصر أكثر مما تفيد، فمكانة مصر الفنية والثقافية لن يهزها أي مهرجان أو حدث فنى أو نهضة ثقافية، بل إن هذه الأصوات لا تعرف طبيعة الفنون والثقافة فكلاهما يقوم على الأخذ و العطاء، وتراكم الخبرات وتبادلها، وهذه الأصوات أيضا تضر بمصر حين تجعل صورتها وكأنها تطلب الهيمنة والانفراد و التسلط، وترى في أى نشاط فنى منافس مؤامرة على مصر، وكأننا لا نريد لأحد أن ينهض أو يتقدم أو يحقق منجزا فنيا سوانا.
من الطبيعى أن تسعى كل دولة إلى إيجاد مكان لها على الخريطة الثقافية والفنية سواء الإقليمية أو العالمية، وسعيها هذا يرتبط بمصالحها الاقتصادية وليس بتآمرها على جيرانها، فالجذب السياحى من خلال الأنشطة الثقافية أصبح من الأمور المسلم بها والتي تحقق مردودا مجزيا وتضع للدولة صورة ذهنية جيدة وجديدة على مستوى العالم، كما أن هذه الفعاليات تزيد من وعى جماهير هذه الدولة وتحقق لها عائدا اقتصاديا وعائدا ثقافيا أيضا بالانفتاح على ثقافات مختلفة تسهل عملية تقبل الآخر وتبعد الأفكار المتزمتة التي هى وليدة الانغلاق والتقوقع حول الذات أو حول الماضى.
وفي الحقيقة أنه لا يجب أن نطلق تعبير (القوى الناعمة) على نشاط مصر الثقافي والفني لأسباب متعددة أولها: أنه (تعبير مخابراتى مشبوه) فصاحب هذا المصطلح هو (جوزيف ناي) الذى كان مساعدا لوزير الدفاع الأمريكي، وشغل منصب رئيس مجلس المخابرات الوطنى في حكومة (بيل كلينتون) وقد صك هذا المصطلح تعبيرا عن القوة الثالثة والخفية في ميدان الحرب، فليست كل الحروب تحسم بقوة السلاح، أو بقوة الاقتصاد وحدها، فالقوى الثلاث مجتمعة أو متفرقة تضمن للولايات المتحدة تحقيق خياراتها العامة، سواء عن طريق استخدام السلاح وهو الطريق الأكثر تكلفة، أو عن طريق الاقتصاد (المعونات الاقتصادية و المنح و القروض) وهو طريق أقل تكلفة ولكن لابد وأن يستمر لفترات طويلة، في حين أن القوة الثالثة هى الأدنى كلفة والأعظم تأثيرا والأطول استمرارا، وتؤدى إلى التأثير على صناعة القرار في الدول المستهدفة عن طريق ضمان حلفاء ليس من الحكام فقط بل من شعوب المناطق التي تريد الولايات المتحدة فرض سيطرتها عليها بشكل ما.
وقد عرّف (ناي) في كتابه (القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية) على أنها (سلاح مؤثر يسعى إلى تحقيق الأهداف عن طريق الجاذبية للتأثير في سلوك الآخرين ، بدلاً من الاعتماد على الإكراه أو التهديد، وهذه الجاذبية يمكن نشرها بطرق شتى: الثقافة الشعبية، الدبلوماسية الخاصة والعامة، المنظمات الدولية غير الربحية، مؤسسات المجتمع المدني).
والملاحظ أن الولايات المتحدة انتبهت مبكرا لسلاح القوى الناعمة، حتى قبل أن يظهر المصطلح، فمنذ الحرب العالمية الثانية تقوم وسائل الإعلام الأمريكية بنشر صورة وردية عن مجتمعها وتسوق للحلم الأمريكى: حلم النجاح الفردى و الثراء السريع، وساهمت النشاطات الفنية والثقافية والتعليمية في الترويج للقيم الأمريكية على أنها قيم عالمية، وعن طريق نشر نموذج الحياة الأمريكية وقيمها استمالت عقول كثير من شعوب العالم وتحكمت في مقدراتها، لتقوم في النهاية باحتلال حضارة وثقافة وتاريخ وتقاليد وفولكلور ومفاهيم ورؤية شعوب العالم الأخرى وتصادر حقوقها بحسب مصالحها.
لقد ساهمت الآلة الإعلامية الأمريكية في صناعة وهم ضخم عن روعة الحياة الأمريكية وأنها واحة الديمقراطية وشيطنت كل الأفكار التي تخالف نظامها السياسى والاقتصادى وخاصة في فترة الحرب الباردة، حتى قيل أن وكالة المخابرات الأمريكية كانت تمول بعض الأفلام، كما كانت تمول بعض الجمعيات الخاصة وكثير من المجلات والمطبوعات من أجل نشر أفكارها ورؤاها حول العالم لتضمن لها أنصارا يحققون لها ماتريد، و كأنها أرادتهم هم.
وعلى الجانب الآخر حاول المعسكر الشرقى جذب كثير من الأنصار بقوة الأفكار التي أطلقها حول المساواة والعدل، وروج للقيم الاشتراكية، عاونه على ذلك مخزون طويل من الإبداع الفني والأدبى، وساهم في هذا الترويج فتح المجال للدراسة في داخل ذلك المعسكر بالمجان أحيانا وبتكلفة متدنية في أكثر الأحيان، وكان شرط الحصول على المؤهلات العليا دراسة النظرية الماركسية لمدة عام!!
وينص الكتاب الذى كتبه (ناي) على ارتباط القوى الناعمة بقوة الاقتصاد، ولذا فالقوى الناعمة لا تقتصر على الدول الكبرى ولكنها ترتبط بالاقتصاديات الكبرى، ويضرب مثلا بـ (قناة الجزيرة) التي ضمنت لدولة قطر تأثيرا قويا في محيطها العربى يفوق حجمها الجغرافى و التاريخى، وفرضت بها – في فترة ما – تغييرات دون حروب ودون دفع أموال.
وبنظرة موضوعية متأنية سنجد أن مصر لم تلجأ في تاريخها لهذا المفهوم الذى يقصده (ناي) في كتابه، فمصر لم تكن يوما من الدول التي تسعى إلى الهيمنة أو السيطرة أو فرض نمط وقيم المجتمع المصرى لتحقيق هداف توسعية ، فالثقافة و الفنون التي برع فيها المصرى منذ فجر التاريخ لم تكن أبدا وسيلة لفرض نمط الحياة المصرية على أيا من شعوب العالم العربى، وبالتالى ليست (قوى ناعمة) بمفهومها المخابراتى، فلم يكن لها هدف سوى نشر المعرفة والبهجة، وعاونها على الانتشار سهولة اللهجة وعنصر السبق الزمنى والتاريخى وأيضا ضخامة العامل البشرى وتفرده إبداعيا، يضاف الى ذلك أنها ثقافة جامعة ولم تكن يوما إقصائية، فجمعت (الشامى و المغربى) واستوعبت كل المبدعين من كافة الأقطار العربية وصبغتهم بصبغتها، حتى في الحقبة الناصرية عندما استغلت مصر الإعلام (الإذاعة على وجه التحديد) للتأثير على محيطها العربى والأفريقى فإنما كانت تسعى لتحرير الشعوب العربية والأفريقية من الاستعمار ضمانا لأمنها القومى وكسرا لحصار حاول قتل ثورتها.
أما الباكين اليوم على (القوى الناعمة المصرية)، فلم نسمع لهم صوت عندما تعرضت مصر في السبعينات وحتى وقت قريب إلى أكبر حملة (قوى ناعمة) حاولت استهداف عقلها وسلوكها والتأثير على قراراتها. فبعد انتصار حرب أكتوبر انتبهت مخابرات بعض الدول إلى ضرورة تغيير نمط التفكير المصرى قيادة وشعبا لكى لا يقف أمام أهدافهم في السيطرة والهيمنة، و لكى يبتعد عن مساندة حركات التحرر، أو أن يصبح نموذجا للتنمية بعيدا عن النمط الغربى، أو باختصار شديد: لكى لا يظهر بالمنطقة (عبد الناصر) جديد، وعلى الفور تعاونت تلك الدول في إغراق مصر بالديون، حتى قال الكاتب الكبير (أحمد بهاء الدين) أن مصر السادات كانت تعوم على بحيرة من القروض، بعضها لم يستغل ولم تنتفع بها مصر على الإطلاق، كما اخترقت تلك الأجهزة الروح المصرية بالحجاب والجلابية، ليصيبنا داء التزمت بعد أن كنا دائما (وسطيين) نجمع بين المذهب السنى ومحبة أهل البيت، فاستبدلنا – على سبيل المثال – أصوات أساطين دولة القراءة كـ (الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد) وعشرات من الرائعين بأصوات جافة خشنة، ففقدنا جمال و جلال الاستماع.
أتمنى أن نتوقف عن استخدام مصطلح (القوى الناعمة)، وأتمنى أن نتوقف عن الإحساس بالمؤامرة كلما بزغ نجم جديد، فنحن رعاة النجوم منذ الأزل.