بقلم: كرمة سامي
أرسلت القوى العاملة والدي فور تخرجه في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة إلى إدارة المجلات لينضم إلى فريق عمل (مجلة المجلة: سجل الثقافة الرفيعة)، وساعدته ثقافته وإخلاصه وقدرته السريعة على التعلم على كسب ثقة (يحيى حقي) ومحبته فأصبح مساعدًا له وابنًا وصديقًا لمعظم أدباء تلك الفترة وأبرز مثقفي مصر، وتخيل أن شابًا حديث التخرج من الطبقة المتوسطة يصبح صديقًا – نعم (صديقًا) – لجمال حمدان وبدرالدين أبو غازي والناقد فؤاد دوارة وعبدالفتاح الديدي والفنان التشكيلي حسن سليمان.
كان من مهام عمل والدي جمع مادة كل عدد وعرضها على يحيى بك لمناقشتها ووضع خطة النشر، ومع ديمقراطية يحيى بك وسياسته الثقافية الليبرالية الصادقة أصبح تدريجيًا من مهام والدي الإشراف على طباعة المجلة، ولهذا قبل صدورها كان عليه أن يسهر في مقر المجلة منتظرًا أي اتصال طاريء من المطبعة ليقوم بتيسير العمل، أو الرد على أي استفسار لحل أي مشكلة دون إزعاج يحيى بك، لأن كل تفاصيل المجلة كانت بين يديه رغم سنه الغض وقتئذ، وهكذا جمع والدي بين العمل الصحفي والثقافي في سن مبكرة في ذلك الموقع المتميز، وفي مرحلة شهدت أوج الثقافة المصرية وتألقها وكان (رزق) والدي أن يضعه الله في موقع القلب من هذه النهضة.
حكى لي والدي أنه في منتصف الستينيات ولم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره، وأثناء سهرة من سهراته الروتينية بحكم العمل، كان وحده بمقر المجلة منتظرًا مكالمة المطبعة، ولأن في تلك الفترة لا يوجد ما يشغل به وقته، فقد وقف في شرفة المجلة التي كانت تطل على شارع عبدالخالق ثروت بوسط البلد يدخن سيجارته متأملًا المارة والمحلات المضيئة والسيارات العابرة، ووسط هذه السكينة والهدوء سمع على غير المعتاد في تلك السهرات دقًا غاضبًا متصاعدًا على الباب. اتجه والدي نحو الباب عبر ردهة طويلة تسارعت فيها دقات قلبه ليفتحه فوجد أمامه الفنان (عبدالعليم خطاب) غاضبًا يخاطبه محتدًا:
(ايه؟ ساعة أخبط على الباب!)
ثم أكمل الفنان بنبرة أقل غضبًا مستفسرًا: (مش دي هيئة المسرح؟)
وبسبب هيئة الفنان عبدالعليم خطاب والغضب الطبيعي الذي سيطر على ملامح وجهه لانتظاره الطويل أمام باب المجلة الموصد، وكذلك بسبب دور الخال القاسي الذي أتقنه في فيلم (دعاء الكروان)، بسبب كل هذا حاول والدي أن يرد على زائر منتصف الليل لكن أحباله الصوتية خذلته، لم يجد والدي ما يقوله وحاول أن يرد فلم يخرج صوته، وساعد في ذلك باقي عناصر المشهد الذي وقعت أحداثه في ذلك المساء في مبنى إداري تابع لوزارة الإرشاد يخلو تمامًا من موظفيه.
لم ير والدي أمامه الفنان القدير بوجاهته وأناقته وحضوره الإنساني، ولم يلحظ عندئذ انبساط ملامح وجه الفنان، بعد غضبه المفاجئ لانتظاره طويلًا أمام باب المجلة، ربما إشفاقًا على هذا الشاب الذي باغته بصوته المسرحي المميز بسؤال غاضب دون تمهيد، فقد سيطر على والدي مشهد قتل الخال لهنادي إبنة أخته، وسؤال (آمنة) المستمر لخالها: (وين هنادي يا خال؟)
ورده عليها الذي نعلم جيدًا أنه كذب: (هنادي راحت في الوبا!)
ردًا على سؤال الفنان: (مش دي هيئة المسرح؟)، وبعد استيعاب سريع للموقف، جاهد والدي لاستجماع قواه ولانتشال نفسه من سيطرة مشهد في فيلم سينمائي عليه شاهده منذ ست سنوات، ليعود بوعيه إلى المشهد الأصلي: مكتب المجلة وانتظار مكالمة المطبعة.
حاول الرد على سؤال الفنان فخرج صوته واهنًا: (لا!)
سأله الفنان: (أُومال دي ايه؟)
فخرج صوت والدي متحشرجًا: (المجلات!)
سأله الفنان بهدوء مستفسرًا: (أُومال فين الهيئة؟)
كان المشهد الذي وجد والدي نفسه مقحمًا فيه قد أعياه فكان رده أن أشار بإصبعه إلى أعلى. فهم عبدالعليم خطاب إشارة والدي وقبل أن يتوجه للدور الأعلى شكره مبتسمًا:
(شكرًا يا ابني، لا مؤاخذة أزعجتك).
لكن الطنين في أذنيّ والدي حال بين وصول هذه الكلمات ونبراتها الهادئة واضحة إلى إذنيه ولم يمح تأثير المشهد ووقعه عليه، ولا أعاد تنفسه إلى معدله الطبيعي، وفور صعود عبدالعليم خطاب إلى الدور الأعلى، هرع والدي إلى المكتب وانتشل مفاتيح المجلة وعلبة سجائره وأغلق الباب وخرج مسرعًا مهرولًا على درجات السلم، ولا يتذكر إن كان أغلق شيش الشرفة أو أطفأ النور، ولا حتى يعبأ بهذا، كل ما همه في تلك اللحظة أن يخرج من المجلة تحسبًا لعودة الفنان عبدالعليم خطاب، خال هنادي، مستفسرًا عن أي شيء آخر!
في اليوم التالي، وبعد هدوء عاصفة صدمة لقاء فنان كبير وجهًا لوجه، حكى والدي الواقعة ليحيى بك الذي انفجر ضاحكًا مشفقا على تلميذه الشاب، الذي فال له إنه لم يدر ماذا حدث له، واقسم والدي ليحيى بك أن هذه الدقائق مرت كأنها دهر وأنه كان يرد بحذر خشية إغضاب الفنان حتى لا يلقى مصير هنادي!، وطبعا يضحك يحيى بك ضحكته الطفولية الصافية.
يعرف هذه الواقعة معظم أصدقاء والدي، ورغم أنه حكاها لي عشرات المرات -برغبتي أو بدونها – فلم أمل من حكيه للواقعة بأسلوبه الدرامي وأدائه التمثيلي متقمصًا شخصيتي المشهد ومتنقلًا بين شخصية الفنان الغاضب الذي تلاشى غضبه أمام (خضة) الشاب الذي أصبح فجأة ضحية ذاكرته كمتلق لدور في فيلم سينمائي أجاد الفنان أداءه، وشخصية الشاب الذي وجد نفسه في قلب فيلم مأساوي مسترجعًا تأثيره في الماضي عليه بسبب ظهور مفاجيء لـ (الخال) أهم عنصر في ذلك الفيلم.
ربما كان السبب في هدوء الفنان تقديره للموقف وتأثير دوره الفذ في (دعاء الكروان) على المشاهدين رغم مرور ست سنوات تقريبًا على العرض الأول للفيلم في 1959! وأكيد أن (خضة) والدي الحبيب – رحمه الله – كان سببها أن المتلقي في ذلك الوقت لم يكن يعلم شيئًا عن الفنان سوى الدور الذي يقوم به، وكلما زادت براعة الفنان في الأداء ترسخت في ذهن المتلقي طبيعة الشخصية التي يؤديها الفنان، وأصبحت هى الشخصية المعلنة التي يعرفها المتلقي عنه ويصدقها، هنا تظل (فاتن حمامة) الفتاة البريئة و(محمود المليجي) الشرير وطبعًا (عبدالعليم خطاب) الخال القاتل!
يضحك والدي حين يحكي لي عن تحذيره بصوت مرتفع لفاتن حمامة من شر محمود المليجي في فيلم (لك يوم يا ظالم) وهو ابن الحادية عشرة سنة ورغبته في أن يحميها منه. مرحلة براءة طال أوانها وسيطرت على أجيال بأسرها، لهذا لم يكن يعلم حين دق الفنان (عبدالعليم خطاب) باب المجلة أن الرجل الخمسيني الأنيق الذي رآه أمام الباب، بيدين ملطختين بدماء هنادي، فنان كبير تخرج في معهد التمثيل ودرس الإخراج والمونتاج في لندن والإخراج التليفزيوني في الاتحاد السوفيتي، مما أهله ليكون من رواد الإخراج في التليفزيوني المصري، وأنه كان يتقن عدة لغات ومخرجًا سينمائيًا ومؤلفًا وشاعرًا، وقبل كل هذا كان طبيعته على النقيض من أدواره التي أشتهر بها فقد كان دمثًا خفيف الظل، ولولاه لفقد (دعاء الكروان) أحد أهم أفلام السينما المصرية والعربية بريقه الذي كان حضور الفنان (عبدالعليم خطاب) وأداؤه المتميز سببًا فيه.
رحمهما الله.. خال هنادي الذي دق على الباب الخطأ والشاب الذي فتح الباب له ذات ليلة في 27 شارع عبدالخالق ثروت بوسط البلد.