بقلم الإعلامي: أسامة كامل
يقول المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد: (كنت أظن أن الأم لا تكذب و لكني أدركت أن ظني خاطئ بعدما كذبت علىّ أمي ثماني كذبات.. و إليكم أكاذيب أمي لتعرفوا كيف تكذب الأم :
تبدأ القصة التي تشبة شريطا سينمائيا طويلا: عند ولادتي.. فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر فلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا.. و عندما كنا نأتي بأرز قليل لنسد به جوعنا.. كانت أمي تعطيني نصيبها.. و بينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول: يا ولدي تناول هذا الأرز فأنا لست جائعة.. (و كانت هذه كذبتها الأولى).
و عندما كبرت أنا شيئا فشيئا.. كانت أمي تذهب للصيد في نهر صغير بجوار منزلنا.. لتأتي لي ولو بسمكة واحدة أسد بها جوعي.. و في مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين.. أسرعت إلى البيت و أعدت الغذاء و وضعت السمكتين أمامي.. فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا.. وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك.. فاهتز قلبي لذلك ووضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها.. فأعادتها أمامي فورا وقالت: (يا ولدي ألا تعرف أني لا أحب السمك).. (و كانت هذه كذبتها الثانية)
وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة، ولم يكن معنا من المال ما يكفي مصروفات الدراسة، ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هى بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس على السيدات، وفي ليلة شتاء ممطرة تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل، فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة، ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت، فناديتها: أمي، هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح فابتسمت أمي وقالت لي: يا ولدي أنا لست مرهقة .. و(كانت هذه كذبتها الثالثة).
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة، أصرت أمي على الذهاب معي ودخلت أنا ووقفت هى تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة، وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها فاحتضنتني بقوة وبشرتني بالتوفيق من الله تعالى، ووجدت معها كوبا فيه مشروبا كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي، فشربته من شدة العطش حتى ارتويت وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه، فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها: اشربي يا أمي ، فردت : يا ولدي اشرب أنا لست عطشانة.. (وكانت هذه كذبتها الرابعة).
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة، وأصبحت مسؤولية البيت تقع عليها وحدها فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وصرنا نعاني الجوع، كان عمي رجلا طيبا وكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا، وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ، نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا ينفق علينا فهي لازالت صغيرة، ولكن أمي رفضت الزواج قائلة: أنا لست بحاجة إلى الحب .. (وكانت هذه كذبتها الخامسة).
وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة، حصلت على وظيفة إلى حد ما جيدة، واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل، وكانت في ذلك الوقت لم يعد لديها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل، فكانت تفرش فرشا في السوق وتبيع الخضروات كل صباح، فلما رفضت أن تترك العمل خصصت لها جزءا من راتبي، فرفضت أن تأخذه قائلة: يا ولدي احتفظ بمالك ، إن معي من المال ما يكفيني.. (وكانت هذه كذبتها السادسة).
وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجستير، وبالفعل نجحت وارتفع راتبي، ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا، فشعرت بسعادة بالغة، وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة، وبعدما سافرت وهيأت الظروف اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي، ولكنها لم تحب أن تضايقي وقالت: يا ولدي أنا لست معتادة على المعيشة المترفة.. (وكانت هذه كذبتها السابعة).
كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة، وأصابها مرض السرطان، وكان يجب أن أكون بجانبها في مرضها، ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد، تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا، فوجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية، عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة، ليست أمي التي أعرفها، انهمرت الدموع من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسيني، فقالت: لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم.. (وكانت هذه كذبتها الثامنة).
وبعدما قالت لي ذلك أغلقت عينيها، فلم تفتحهما بعدها أبداً.
هذه بعض خواطر (العقاد) عن كذبات أمه التي أقرأها بين الحين والآخر، لإدراك قيمة الأم، وفي كل مرة استعرض قول هذا الراحل العظيم كشريط سينمائي فاتن أمامي وكأني أتامل ملامحه من عذوبة كلماته، ويظل خياله لا يفارقني وهو الذي ملء الدنيا إبداعا وجمالا سينمائيا لايضاهى.. رحمة الله عليه.