بقلم: محمد حبوشة
في حكاية أن السعودية (تلملم) نجوم الصف الأول في حلفة رأس السنة.. التي أزعجت بعض المصريين، والذين فسروا الحركة أنها محاولة لسحب البساط الفني من القاهرة (عاصمة الفن العربي) وسيدة الشرق الأوسط فنيا وثقافيا بدون منافس ولا منازع، أقول أن اعتقاد البعض بأنه لا يمكن لأي مليارات أن تسحب البساط من تحت أقدام قلعة الفن، وحصنه المنيع، هو اعتقاد خاطئ بالضرورة، فالمال الخليجي يمكنه طمس الهوية الفنية المصرية، المال ينتج، نعم، يدعم، يمول، يبرز، ينافس، صحيح أنه لا يخلق وعيا، لأن الوعي تخلقه الفكرة، فالمال مسخر لخدمة الفكرة، والشعوب والأمم التي بقيت هى تلك التي انتجت الفكرة، ومصر لم تكن قديما ولا حديثا أمة مال، وطفرة مالية، بل هى أمة فكر وأفكار، وهذا هو الفرق، لكن لابد من الانتباه إلى تأثير سيطرة رأس المال السعودي على الفن المصري.
وهو ما يطرح عدة أسئلة حائرة: لماذا لا نستغل آثارنا في إقامة حفلات جاذبة للسياح؟.. هل نحن لا نمتلك القدرة على استغلال ما نملكه؟ من المؤكد أن هناك أسبابا وراء ذلك، هل نحن فى مرحلة التخلى عن مكانتنا التاريخية فى المنطقة؟، هذا السؤال أطرحه بالذات حول مكانتنا كهوليوود الشرق، فنحن الآن نرى صعود السعودية فى هذا المضمار، فهى تنظم المهرجانات الفنية بل وتنتج الأعمال الفنية التى تصور هناك فى السعودية، والمثير هنا أن كل هذا يعتمد على الاستعانة بالفنانين المصريين إلى جانب الفنانين السعوديين، لكن كثيرا من الفنانين المصريين باتوا يمضون وقتا أطول فى السعودية عما يمضونه فى مصر نفسها، لدرجة أن هناك تخوفا من أن تنتهى الأمور بأن يقيموا نهائيا، حيث منحت السعودية العديد من الفنانين إقامات بالسعودية لتواجدهم الطويل بها.
على جانب آخر تحاول الإمارات منافسة السعودية فى هذا المجال، حيث أعطت إقامات ذهبية لمعظم نجوم الوسط الفنى، سواء كانوا ممثلين أو منتجين أو مخرجين، وقدمت لهم مزايا خاصة فى الإقامة والعمل والاستثمار، فهل تصمد القاهرة فى وجه كل من السعودية والإمارات؟، وهكذا ارتباط الكثيرون بالعمل مع السعودية بصفتها سوقا فنية صاعدة، وارتبط العديد من الفنانين بأعمال مع (شاهد) أو مسرحيات فى موسم الرياض يمكن أن يخلق ارتباكا في المعادلة، بل إن الرياض باتت ملتقى نجوم العالم، فهل هذا مقدمة لسحب البساط من مصر لصالح السعودية؟، بل إن المنصات السعودية مثل منصة (شاهد)، باتت بانفتاحها الرقابى النسبى أهم المنصات التى توجد على الساحة بما تنتجه من مسلسلات وأعمال فنية، وليست (شاهد) وحدها بل إن قنوات (إم بى سى) تتفوق على كل القنوات، بالذات القنوات المصرية.
والسؤال الأهم في كل ما مضى: ما هو الحال فى القاهرة؟ فى البداية كانت (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) ترفض تعاون نجومها مع (شاهد، أو إم بى سى)، لكن تدريجيا فقدت (الشركة المتحدة) السيطرة لأنها لم تعد قادرة على أن تمنح فرص العمل لكل هؤلاء الممثلين، فهى لا تنتج أكثر من خمسة عشر مسلسلا فى موسم رمضان وعدد قليل في المواسم الموازية، ولذلك وجه كل الفنانين المصريين بوصلتهم نحو السعودية، حيث فرص العمل باتت أكثر كثيرا من القاهرة.. لقد باتت السعودية هى المركز، حيث قدمت السعودية أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة فعالية ترفيهية ما بين حفلات غنائية وفعاليات رياضية، حصلت السعودية فى مقابلها على دخل ستة مليارات ريال(30 مليار جنيه تقريبا).. كل هذا فى الوقت الذى يعانى فيه الفنانون المصريون من الركود فى الأعمال المصرية بسبب احتكار صناعة الدراما وتراجع إنتاج المسلسلات والأفلام، وقلة الحفلات الغنائية وصعوبة تنظيمها.
ما الذى ننتظره إذن؟ هل نصر على الطريقة التى ندير بها الفن فى مصر الآن، أم نعيد النظر فى هذه الطريقة ونعيد فتح المجال للإنتاج ليعود للفن المصرى دوره ومكانته، ونحافظ لمصر على مكانتها التاريخية؟
الثابت أن توجهات المملكة العربية السعودية نحو الانفتاح والاهتمام بالترفيه تشير إلى أن هذا التغير لا يهم فقط مواطنيها، فقد أدى تتابع المهرجانات الفنية إلى انقسام في مصر، فهناك من اعتبر ذلك خطوة مهمة، وثمة من رآه استعراضا لدور رأس المال، واعتقد آخرون بأنه يخصم من رصيد الفن المصري الذي ساد الساحة العربية فترة طويلة، خاصة في ظل الجدل الحالي حول التطور الحاصل بالسعودية في المجال الفني بأن انفتاحها سوف تكون له انعكاسات سلبية كبيرة على مصر، ما يشير إلى وجود هوة في حالتي الانغلاق والانفتاح في المملكة، وأن مصر سبيكة مجتمعية غير متماسكة الآن ويمكنها أن تتعرض بسهولة لهزات من الخارج، وهو استنتاج يحتاج إلى تصويب وإعادة نظر.
الواضح أن (الرياض) تمضي في انفتاحها لأسباب خاصة بنظام الحكم فيها، ولا علاقة لذلك بمناطحة القاهرة أو سحب البساط الفني من تحت قدميها، فالاستعانة بفنانين من مصر دليل على حجم تأثير هذا البلد في المنطقة، حيث لا توجد هذه الوفرة في المملكة، لذلك فتصوير المشهد على أن المهرجانات الفنية تصب في خانة تضخيم بلد والتقليل من آخر تشبيه غير صائب تماما، لأن الانفتاح لا يقتصر على السعودية، فالعالم كله يمارس هذا الدور، ومن المهم أن تكون هناك قدرة على الانفاق، الأمر الذي تتوافر مقوماته لدى الرياض أكثر من القاهرة، ما يساعدها على دعوة كبار نجوم العالم.
يقول مراقبون إن المشكلة تكمن في تنامي شعور البعض من المصريين بالتضخم المعنوي من دون اتباع العوامل اللازمة لتأكيده عمليا، اعتمادا على ميراث طويل من الرصيد الفني جرى تقديمه بنجاح في عقود سابقة، وهو ما وضع مصر في مرتبة متقدمة، وكان وقتها التأثير الفني لنجومها ورموزها طاغيا في المنطقة العربية، ويضيف المراقبون أن تصميم هؤلاء على البقاء في مربع الماضي وأسرى نظرة (شوفينية) ضد أي دولة عربية تريد إحداث نقلة نوعية فنية يضر بصورة مصر قبل غيرها، والتي تحتاج إلى أن يكون حاضرها تجسيدا لماضيها الناصع، من خلال مراعاة التغيرات التي تحدث في دول عربية مختلفة بلا حساسية مجتمعية.
كل ذلك يأتي في ظل أن السعودية تتصرف لتعزيز دورها في مجال الترفيه عموما وفقا لخطة محددة، تريد منها توصيل رسائل تؤكد أن الدولة حريصة على استمرار تحولاتها المدنية، وأن المجتمع على استعداد لتقبل ذلك والتجاوب معه حتى لو استعانت بفنانين من خارجها، إن الانفتاح الفني في السعودية يمكن أن يكون حافزا لاستفاقة فنية في القاهرة تركز على المضمون، ودافعا لاستغلال الجهات المعنية للمواهب، فالسباق يمكن أن يشهد الفترة المقبلة منافسين كثرا، وترتيبا عليه فإن القوة الناعمة المصرية ما لم تستغل بصورة جيدة في الداخل سوف تجذبها إغراءات الخارج، ولن تكون قاصرة على السعودية التي تعترف بأهمية الفن المصري ورغبتها في الاستفادة من تجربته، لكن لا يعني هذا أن تخضع له طوال الوقت.