كتب : محمد حبوشة
على الرغم من التطورات التكنولوجية الهائلة في مختلف مجالات الحياة إلا أن التليفزيون يحتفظ بمكانة كبيرة في كثير من البيوت لما يرتبط به من مشاعر كالألفة والراحة والتخلص من التوتر وأعباء اليوم واجتماع أفراد الأسرة، لذا يهتم القائمون على الإنتاج الدرامي بتقديم مسلسلات متنوعة، وخاصة منها تلك التي تتعلق بالواقع الذي نعيشه من خلال التركيز على إحياء القيم والعادات والتقاليد التي أصبحت بعيدة إلى حد ما، في ظل غياب منظومة الأخلاق واستبدالها بالعنف والقسوة والجريمة والرعب والغيبيات التي أصبحت سمة أساسية في مسلسلات هذا الأيام، ومن ثم فعندما يظهر على الشاشة الصغيرة مسلسلا يعتني بالقيم الأسرية ويعلي من شأن العائلة نرفع له القبعة صاغرين ومهللين بهذا النوع من الدراما الاجتماعية الهادفة.
ومن الدراما الرائعة التي عرضت موخرا وتعنى بالشأن العائلي مسلسل (أعمل ايه؟)، تلك التحفة الفنية الراقية على مستوى الشكل والمضمون، ورغم أنه لم ينجو من آفة المط والتطويل، إلا أنه قدم نماذج إنسانية غاية في الجمال، وأجمل ما فيها أنها تنتمي للطبقة الوسطى التي تآكلت في لوحة الدراما المصرية مؤخرا، فقد يتصور البعض بالخطأ أن مصطلح دراما يعني الأعمال المأساوية فقط، إلا أن المصطلح في أساسه هو تعبير عن كل أشكال الإنتاج الفني من سينما ومسرح وتليفزيون شرط أن ينطوي على شكل من أشكال الصراع في الحياة ليجسده على الشاشة ويقدم المخرج رؤيته لإنهاء هذا الصراع.
لكن مسلسل (أعمل ايه؟) أكد أن الدراما هى التعبير الفني عن أفعال الإنسان ومواقفه على اختلافها وتنوعها، بل هى التعبير عن الحياة بتفاعلاتها ومشكلاتها بأفراحها وأتراحها، ففي كثير من الأحيان ينظر الناس إلى الفن بشكل عام وإلى الدراما بشكل خاص باعتبارها وسيلة للترفيه لا أكثر، في حين أن الدراسات النفسية والاجتماعية تؤكد تخطي الدور الذي تقوم به الدراما إلى أبعد من ذلك بكثير؛ فهي في مجملها تقوم بإشباع حاجات هامة للفرد، ولأن الدراما التلفزيونية تحتل مكان الصدارة وتمثل النصيب الأوفر في برامج الترفيه والتسلية خاصة، فإن الملاحظ مدى الإهتمام الكبير الذي يعطيه لها المراهقون والشباب وغالبية الناشئة، فساعات طويلة تقضيها هذه الفئة العمرية لمتابعة ما تعرضه الشاشة الصغيرة من مسلسلات وتمثيليات، لذلك فإن التأثيرات التي تفرزها لا تشكل تحديات لثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا فحسب بل تشكل خطرا يمس سلوكيات تلك الفئة العمرية من الشباب الطامح نحو حياة عصرية محفوفة بالعديد من المخاطر.
إنها تأثيرات تعمل على تثبيت ملامح عامة لنماذج مضمون ومحتوى الدراما المعروضة على الشاشة، حيث أن غالبيتها ترويج للعنف والتمرد والوحشية وتمجيد للمغامرات الفردية المؤذية للشخص نفسه أو للغير، ولهذا جاء مسلسل (أعمل ايه؟) مخالفا لواقع دراما الإثارة هذه الأيام في تفرده بالعزف خارج السرب، وذلك بضرب أروع الأمثلة في التمسك بالقيم الإنسانية في جل رقيها وإعلاء شأن العائلة التي تستند لجدار الأب والأم المهمومين بالحياة اليومية، وظني أن المؤلف محمد الحناوي استطاع بحسه الاجتماعي أن يلملم أطراف خيوط دراما (أعمل ايه؟) من نبض الحياة المصرية الحقيقية وقدمها في ثوب جميل يخلو من نتوءات البغض والكراهية والتنفير، ربما ذلك بحكم أنه شاعر غنائي يملك حسا رفيعا كما ترجمه من قبل في مسلسلات (خاتم سليمان، الصعلوك، تفاحة آدم).
ولاشك أن الحناوي يدرك جيدا أن الدراما التلفزيونية تنعكس على سلوكيات المجتمع ولها تأثير كبير وواضح على الأسرة والمجتمعات العربية، من خلال ما تناقشه من قضايا، حيث أن السلبيات التي تتضمنها بعض الأعمال لا تعبر عن المجتمع ولا يجب أن نقول عنها واقع يجب تناوله، لذا فقد عمد إلى تجنب صناعة دراما تلفزيونية تؤثر على سلوكيات أفراد المجتمع من بلطجة وعنف وشغب وانتشار المخدرات وتحرش، علاوة على إنهيار وتفكك الأسرة من إرتفاع نسب الطلاق وانتشار أفكار الخيانة الزوجية، كل هذا وذاك إضافة إلى ما تروج له من قيم وسلوكيات دخيلة على المجتمع، فلم يقترب (الحناوي) ناحية تلك الضفة الأخرى من نهر الدراما التي جعلت الأزواج ساخطين على حياتهم وناقمين من زوجاتهم؛ بل ذهب إلى رصد روح المحبة والتعاطف والتراحم بين أفراد العائلة: الأب (عبد الله الفولاني/ خالد الصاوي) والأم (إيناس جابر/ صابرين) وبناتهم الأربعة (شادية وفايزة ونجاة وثومة) في إشارة غير مباشرة إلى تأثير تلك المطربات في حياتنا على مستوى الروح ودفء الحياة الصافية.
وظني أن صناع مسلسل (أعمل ايه؟) جميعا (مؤلف، ممثل، مخرج، موسيقى، تصوير، ديكور، إضاءة، وحتى الملابس) عمدوا إلى أن يقوم مسلسلهم على الحقيقة التي تقول: (إننا لا نستطيع أن نقول إن الدراما تقوم بتغيير السلوك أو تغيير الأخلاق بشكل مباشر على النحو المطلق، ولكن خطورتها أنها تعطي صورة قابلة للمحاكاة في الواقع، حيث يتأثر بها الأطفال الذين يميلون إلى التقليد، خاصة عندما يكون البطل محبوبا، فيقلدون سلوكه، وطريقة كلامه، ويرددون ألفاظه)، فجاءت كل الشخصيات متسقة تماما مع النماذج الأصلية التي ينبغي أن تكون موجودة في حياتنا المحاطة بكثير من التحديات والمخاوف التي بإمكانها أن تصدع جدارن العائلة، فابتعدوا تماما عن ذلك العنف الذي له تأثير سلبي خطر على المراهقين – الأكثر تأثرا بتلك النماذج السلبية – خاصة عندما لا يجدون قيما إيجابية مناهضة لمنظومة القيم السلبية التي تفرضها عليهم الدراما العنيفة، التي تهدم ما تبنيه الأسرة والمدرسة .
هذا المسلسل (صحب الـ 45 حلقة) أكد أن الدراما التلفزيونية على الفضائيات لاينبغي لها الخروج في كثير من الأحيان عن التقاليد والقيم والسلوكيات المتعارف عليها دينيا وأخلاقيا، ويتم ذلك تحت مسمى التقدم والتطور والحداثة والعولمة، وباطنها هو الخروج عن الالتزام والدين، وأثبتت الدراسات أن هذه المتغيرات تمثل إنقلابا حادا داخل أفكار ومشاعر الجماهير، كما أنها بالضروة تؤدي إلى حدوث تشتت فكري، وتساعد على الخلط بين الحلال والحرام، ومن هنا عشنا (45 ليلة) من الدفء الأسري الذي رواح مكانه في كثير من دراماتنا المصرية والعربية، وجعل الجمهور يتأرجح بين التضارب الفكري والأخلاقي والسلوكي، وما تثيره الدراما التلفزيونية من تناقضات وإرساء قيم ومفاهيم متناقضة .
من أفضل القيم والأخلاقيات التي جاءت في ثنايا مسلسل (أعمل ايه؟) إن الدراما التلفزيونية قوة ناعمة يجب أن تحث على القيم والسلوكيات الحميدة كون ذلك جزء أساسي من نهضة المجتمعات، فيجب إبراز الجوانب الجيدة لها، خاصة أن الدراما المصرية صناعة عتيدة لديها أرث كبير وضخم من الأعمال الثقافية والاجتماعية والسياسية والفنية، فقد التف حولها الشعب المصري، وهو الأمر الذي انعكس على سلوكيات المجتمع، تماما كما التف الجمهور المصري والعربي حول (أعمل ايه؟) في لوحاته اليومية التي غاصت في حياة (عائلة الفولاني) باعتبارها تمثل شرائح المجتمع في روعة ترابطها ودفء مشاعرها وصدق أحاسيسها الراقية في التكاتف والتراحم والتماسك الذي جماها من تيارات وعواصف الحياة العصرية بكل تحدياتها المرعبة.
ومع أن هذه اللوحات الفنية الملونة بألوان قوس قزح، من حيث المشاعر الراقية وإظهار صفات التراحم والحنو من جانب كل أفراد العائلة قد شابها بعض السلبيات من خلال طرح قضايا كثيرة دون وضع نهايات منطقية لها مما أوقع السيناريو أحيانا في براثن المط والتطويل، إلا أن الحوار كان مثيرا في روعته للغاية، وهو ما ترادف معه أداء عذب من جانب كل فريق العمل صغير وكبيرا وفوق كل هذا وذاك كان الإنسجام أهم سمات الأداء ولقد أبدع المخرج (أحمد عبد الحميد) في خلق نوع من الهارموني بين فريق تمثيل محترف بحيث جعل كل ممثل أو ممثلة نجما في دوره.
خالد الصاوي، قدم في هذا المسلسل أروع أدواره على الإطلاق رغم سمنته التي أثرت على مخارج ألفاظة وصوته المجهد، إلا أن لغة الجسد كانت بمثابة تعويض عن ذلك، فجسد روح الأب بروح المقاتل في رحلة الحياة المتخمة بالهموم والمشكلات المعقدة، لكنه بحركاته وسكناته بدا (غولا) في التمثيل الناعم الذي يقدم المشاعر والأحاسيس في انعكاس فائق الجودة على الفعل التراجيدي، وقد بدت عيناه في جحوظها ودموعها بمثابة لغة خاصة تسمو بالأداء وتحلق عاليا في سماوات الإبداع الحقيقي لممثل امتلك الخبرة والمعرفة بأصول التمثيل الحي فظهرت تجلياته في أروع صورها.
وتبدو لي صابرين جوهرة نادرة في فضاء التمثيل المصري والعربي رغم تشنجها وارتفاع صوتها في بعض المواقف، إلا أنها عكست بجدارة الأداء روح شخصية الأم القلقة على مستقبل بناتها، ولعلها في الحلقات الخمس الأخيرة أبدت تفوقا كبيرا على الأربعين حلقة السابقة على مستوى التكنيك في الأداء الاحترافي لتعيدنا إلى سيرتها الأولى منذ جسدت شخصية (أم كلثوم) التي تعتبر (ماستر سين) رحلتها الفنية المرصعة بروائع الأعمال، فقد أكدت صابرين أنها ممثلة من طراز رفيع لو توفر لها ورق جيد، فلديها قماشة عريضة تؤهلها للولوج إلى روح النص لتتشرب الشخصية وتحيلها إلى بناء معماري شاهق يكسوه بريق آخاذ في ذهابها إلى منطق غير مؤهولة في التمثيل العربي النادر في زمن التردي الفني الذي نعيشه.
ولابد لي أن أشيد بأداء (طارق عبد العزيز) في دور المحامي (شوقي) النهاز للفرص، ولأنه أصقل موهبته بفولاز براق ومتين فامتلك القدرة على خلط الكوميدي بالتراجيدي بالرومانسي الفاتر – أحيانا – في تلازم مرعب في الأداء الذي غلب عليه إظهار مشاعر متناقضة في احترفية عالية، من خلال علاقته بـ (ليزا) وابنته من ذوي الاحتيجات الخاصة، وهو ما يؤكد خبرته الطويل في التمثيل وقدرته على اقتناص اللحظات المناسبة لتنفجر طاقة إبداعة في سياق أحداث تتسم بالإثارة والتشويق، وأعتقد أنه ممثل لم تتح له الفرصة بعد لإظهار كافة مواهبة الدفينة التي تترجح بين الكوميدي الرشيق والتراجيدي الغارق في المأسوية المبهرة بلغة عيون معبرة وجسد ذو ثقل كبير في حمل المشاعر، وعلى درب ذات الأداء يأتي (مفيد عاشور) بطاقة ملهمة وسهلة للغاية في دور مؤلف الدراما الصعيدي، وقد أجاد في إبراز مشاعره الصادقة عبر مواقفه المتشنجة بلهجة صعدية تميل للسخرية بحيث تشير إلى مخزون هائل من التجسيد الاحترافي المثير للدهشة على قلة مساحة دوره.
أما الممثلة (نور إيهاب) فتلك قصة أخرى في الأداء الناعم بعذوبة ورقي لم نعهده في كثير من ممثلاتنا الشابات، فتلك ممثلة تسكنها البراءة والقدرة على التعبير ببساطة أظنها كتبت تاريخا جديدا على طريق ترسيخ خطواتها نحو النجومية وبجدارة، وللأمانة فإن (محمد مهران) صنع معها ثنائيا رائعا، وهو ممثل يملك قدرة على التحكم في أدائه بطريقة مغايرة، خاصة في ارتباكه وعصبيته المحسوبة بدقة شديدة، ولعل أداءه لدور المذيع جاء على نحو يؤكد موهبته في تجسيد كل الأدوار، ويوازيه (أحمد جمال سعيد) في تجسيد دور وكيل النيابة بحس رومانسي هادئ ورزين يختلف عن أدواره السابقة، ومن ثم يضعه في مصاف النجوم الوعدين.
إشادة خاصة بالعملاق الكبير (صبري عبد المنعم) في دور الشيخ الكفيف (زكريا) والذي شكل رمانة الميزان في المسلسل وأكسبه رونقا وبريق مستمد من روح نجوم الزمن الجميل، ومعه (هناء الشوربجي) في بساطة أداء دور الأم بعذوبة، وكذلك (هدى الإدريسي) بلكنتها الفارقة في أداء رشيق، وكذلك حال كل من (حسن العدل، حمدي هيكل، أيمن عزب، أحمد إمام، شمم الحسن، سامية طرابلسي، دنيا المصري، ريهام الشنواني، أمجد حجار) والفتيات الشابات (إيمي الجندي/ فايزة، ورد شان/ نجاة، بيلار أحمد/ ثومة) اللاتي قدمن أدوارا تشهد لهن بالكفاءة، ويبقى الأسوأ في الأداء ينحصر فقط في (ندى بسيوني ونهال عنبر) اللتين كانتا (أوفر) بشكل ملفت للنظر ما كتب لهما الفشل في الانسجام مع فريق العمل.
وفي النهاية لابد لي من القول بأن التحفة الدرامية (أعمل ايه؟) تعد من أهم المضامين أو القوالب الفنية عالية الجودة التي قدمت مؤخرا من خلال التليفزيون، لذا حظيت بشعبية لدى الجمهور بمختلف فئاته، الأمر الذي يجعل من الضروري الاهتمام بدراسة دور المسلسلات التليفزيونية في تناول القضايا الاجتماعية لدى الجمهور، خاصة المسلسلات التليفزيونية تحظى بدرجة متقدمة بين أفضليات المضمون التليفزيوني لدى المشاهد، وذلك في محاولاتها مواكبة التغيرات الاجتماعية التي حدثت بالمجتمع المصري، والتي نتجت معها مجموعة من القضايا الاجتماعية التي صارت محل اهتمام أغلب وسائل الإعلام؛ لتقوم المسلسلات التليفزيونية بدورها في ممارسة عملية النقد الاجتماعي، وطرح القضايا بأساليب مختلفة من المعالجات الابداعية.