بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
يتداول المجتمع المسرحى فى مسرح القطاع العام أخبارا عن قرب تنفيذ بروتوكول تعاون بين وزارة الثقافة و الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية ، من أجل تصوير المسرحيات التى تنتجها الوزارة ، و برغم أن هذه الاخبار يتم تداولها منذ فترة ، إلا أن بنود هذا البروتوكول و طريقة تنفيذه لم تعلن حتى الآن من كلا الطرفين ، فليست هناك معلومات مؤكدة عن التزامات كل طرف ، و لكن الشائعات تقول أن تصوير المسرحيات سيتم فى مقابل الدعاية لتلك المسرحيات على القنوات التى تملكها المتحدة.
و الحقيقة أن التعاون بين الوزارة و المتحدة فى مجال المسرح أصبح حتميا و مطلوبا و ضرورة فنية و سياسية . فمنذ أن اكتوى العالم بنيران جائحة الكورونا اضطرت الحكومة إلى تخفيض ميزانيات جهات الإنتاج المسرحى – ضمن جهات عديدة – تطبيقا لقرارات التقشف و تقليص المصروفات حتى وصلت – فى فترة سابقة – إلى حد إلغاء بند الدعاية تماما ، فأصبح ما يقدمه المسرح أمرا سريا يتم التحايل عليه بجهود فردية على وسائل التواصل الاجتماعى ، و عندما انتهت الجائحة أو كادت ، داهمتنا نيران الحرب الروسية الأوكرانية ، فاستمرت قرارات التقليص سارية ، و هكذا تركت الحكومة الناس فريسة لما تبثه بعض القنوات الفضائية و المنصات و وسائل التواصل الاجتماعى من رسائل مشوهة للأجيال . و هنا يصبح كل حديث عن مكافحة الارهاب و تعزيز القيم الايجابية و تحقيق أهداف الدولة فى تنمية الصناعات الثقافية مجرد حبر على ورق !!
لم ينتبه أحدا إلى أن النهضة الكبرى للمسرح المصرى و مصدر زهوه صنعتها فترة الستينات بما قدمه التليفزيون للمسرح من دعم من خلال 4 فرق مسرحية أنشأها التليفزيون – زادت إلى 10 فيما بعد – تنوع إنتاجها ما بين الكوميدى و العالمى والحديث تحت قيادة الفنان العبقرى السيد بدير . و قدمت لنا تلك الفرق مئات الممثلين و المؤلفين و المخرجين الذين أصبحوا نجوما رصعوا حياتنا الفنية ، منهم على سبيل المثال (عادل امام و عزت العلايلى و سعيد صالح و فؤاد المهندس و محمد عوض و سمير خفاجى و بهجت قمر و المخرج محمد فاضل و حسين كمال) و غيرهم مما يصعب حصرهم بكل تأكيد . و برغم أن النشأة الأولى لمسرح التليفزيون كان الهدف منها ملأ ساعات الإرسال التليفزيونى آنذاك ، و برغم أن تحقيق كم مناسب من تلك الساعات أثّر على جودة بعض الأعمال ، إلا أن النتيجة الإجمالية كانت فى مصلحة المسرح و المشاهد و حقق بعضا من أهداف الدولة فى نشر الثقافة و زيادة الوعى، و لم تغفل جانب الترفيه و التسلية، و لكن ظروف الدولة بعد النكسة فرضت عليها تقليص عدد الفرق و العودة إلى الاهتمام بالكيف ، بعد أن تراوحت الدولة ما بين فلسفتين متصارعتين ( الكيف و الكم ) طوال سنوات الستينات.
و فى الثمانينات عاد (مسرح التليفزيون) مرة أخرى على يد القطاع الخاص ، و لكن سرعان ما صار ( مسمى سيئ السمعة ) ، فالتجربة عادت لمجرد ملأ شرائط الفيديو لتزدحم فوق أرفف محلات تخصصت فى تأجير تلك الشرائط استجابة للاختراع الجديد وقتها ( جهاز الفيديو )، و لكن تحت إلحاح زيادة الطلب على تأجير الشرائط و أيضا لرخص تكاليف إنتاج المسرحيات عن المسلسلات و الأفلام انتشرت تلك المسرحيات انتشارا واسعا ، و انحدر مستواها الفنى إلى أدنى الدرجات حتى صارت بضاعة أتلفها التسرع و عدم الاتقان.
أما محاولات تليفزيون الدولة لاعادة (مسرح التليفزيون) ، فقد استفادت من أخطائها الأولى و اهتمت بالكيف، فقدمت خلال التسعينات على يد الاستاذ يوسف عثمان – الذى تولى مسئولية قطاع الانتاج بالتليفزيون – مسرحيات لكبار الكتاب ( نجيب محفوظ – الفريد فرج – ميخائيل رومان )، و لكنها للأسف لم يتم إذاعتها فى توقيت مناسب فماتت التجربة ، و يقال أن سبب تأخير إذاعة بعض العروض هو أن رقابة التليفزيون تعنتت معها فلم تذع سوى مرة واحدة فقط و بعد إنتاجها بسنوات، ثم حاولت شركة صوت القاهرة تكرار تجربة إنتاج مسرح مخصص للإرسال التليفزيونى ، ولكنها لم تنتج أعمالا كثيرة أو مؤثرة يذكرها تاريخ المسرح و اكتفت الشركة فيما بعد بتصوير بعض أعمال وزارة الثقافة و القطاع الخاص و تسويقها لحسابها ، و لكن سرعان ما توقفت تحت ضغوط خساراتها المتتالية فى مناحى أنشطتها المختلفة.
و فى اوائل القرن الجديد تم إنشاء (مسرح التليفزيون) برعاية الاستاذ حسن حامد رئيس الاتحاد آنذاك و تحت قيادة الاستاذ فرج أبو الفرج رئيس قطاع الإنتاج فى تلك الفترة ، مستفيدة من كل أخطاء التجارب السابقة ، و خلال 10 شهور قدم المسرح 8 مسرحيات تنوعت ما بين مسرح الطفل و مسرح الكبار و مسرحة المناهج ، عرضت كلها على المسرح لفترات طويلة نسبيا قبل أن يتم تصويرها و لم تكن فى عجلة من أمرها ، بل إن بعض المسرحيات مثل (يا غولة عينك حمرا) بطولة النجم نور الشريف و تأليف الكاتب الكبير كرم النجار و من إخراج شيخ المخرجين حسن عبد السلام ) عرضت على المسرح لعدة شهور، و لكن التجربة بأخطائها و نجاحاتها وئدت بمجرد تغيير قيادات قطاع الإنتاج .
و بعد عشر سنوات عاد لنا (مسرح التليفزيون) عن طريق بعض القنوات التليفزيونية مثل (الحياة و المحور و mbc و مؤخرا dmc و كلها اعتمدت على تقديم مسرحية جديدة كل أسبوع و أحيانا كل اسبوعين ، و لكن ثبت من خلال تلك التجارب جميعها صعوبة الحفاظ على المستوى الفنى فى مقابل هذا الكم الضخم من الإنتاج، و لم تلجأ تلك القنوات إلى تقديم الأعمال المميزة و الفريدة مثل الأعمال الاستعراضية الضخمة المليئة بالابهار، باستثناء عرض (كوكو شانيل) الذى قدمه المنتج جمال العدل للنجمة شيرهان، و الذى لم يعرض على مسرح إطلاقا و انما تم تصويره بالكامل، كما أن كل هذه القنوات لجأت لفن التسلية و الكوميديا الخفيفة فقط و التى لا تصنع وحدها نهضة مسرحية من خلال التنوع ما بين الألوان المسرحية و الاشكال الفنية كما حدث فى الستينات.
و اليوم يفتح البروتوكول الجديد باب التساؤل : لماذا لا تدخل الشركة المتحدة شراكة حقيقية مع وزارة الثقافة من أجل إنتاج أعمال مميزة ، تتكفل فيها الشركة بأجور النجوم الهاربين من مسرح الدولة بسبب ضعف ميزانياته ، إلى جانب الدعاية ، فى مقابل حق إذاعة العمل و تسويقه للقنوات الأخرى ، على أن تتكفل وزارة الثقافة بتوفير المسارح و الأطقم الفنية و متابعة عملية الإنتاج مقابل إيراد الشباك ؟
أعتقد أن شراكة بهذه الطريقة ستنقذ مسرح الدولة من عثرته المادية و ستنقذ الشركة المتحدة من عثراتها الفنية ، و توفر لها ساعات إرسال طويلة و ممتدة بتكاليف أقل من المسلسلات، إلى جانب تحقيق ما هو أهم بكثير: ما تطمح له الدولة من زيادة الوعى و محاربة الأفكار الظلامية و تقديم فكر مستنير من خلال فن جيد ، أم أنها مجرد شعارات لا يتم تنفيذها ؟!