بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
ستة مواسم مسرحية قاد فيها عزيز عيد (فرقة فاطمة رشدي) نحو المجد – برغم طلاقهما بعد الموسم الثانى – قدم خلال تلك المواسم أكثر من مائة مسرحية من المسرحيات العالمية الهامة لكبار كتاب المسرح الأجانب ، لكنه لم يتخل عن حلمه بمسرح مصرى خالص ، فقدم أيضا كثير من المؤلفين المصريين الجدد ، فشاهدنا من خلال تلك الفرقة أول مسرحية شعرية مصرية ، و أول مسرحية مكتوبة بكاملها بالزجل . و استمر فى مجهوداته نحو تحقيق حلمه بتمصير المسرح فى مصر حتى أنه فى الموسم السادس لم يقدم إلا مسرحيتين عالميتين فى مقابل سبع مسرحيات مصرية.
أما على المستوى الجماهيرى فقد حققت الفرقة نجاحات لم تصل إليها فرقة أخرى ، حتى أن الزحام على المسرح كان يغلق شارع عماد الدين فى ليالى كثيرة و يضطر البوليس للتدخل لتنظيم هذا الزحام ، أما رحلاته إلى الدول العربية المختلفة فى المشرق و المغرب العربى فحدث و لا حرج عن النجاح و الازدحام . و على المستوى الفنى فقد تفوق على كل الفرق المنافسة ، فقد اعتبر النقاد أن أفضل مسرحية قدمت على المسرح المصرى على الإطلاق هى مجنون ليلى التى أخرجها عزيز عن نص أمير الشعراء أحمد شوقى .
كل هذا لم يكن شيئا فى ميزان (مسيو إيلى) ممول الفرقة ، فالأرباح التى كانت بالألوف ما تلبث أن تعود من جديد الى المسرح لتنتج مزيدا من المسرحيات الراقية الضخمة إلى جانب الحفلات المجانية للطلاب و التبرع بإيراد حفلات لأعمال خيرية ، و كثيرا ما طالب (مسيو إيلى) بتقديم المسرحيات الخفيفة المضحكة – و فى نفس الوقت المربحة – و لكنه قوبل بآذان صماء ، و لذا قطع (مسيو إيلى) صلته بالفرقة فجأة وسافر إلى الخارج و ترك فاطمة رشدى خالية الوفاض – كما يقولون – لا تملك جنيها واحدا !!
و عندما كان عزيز يستعد لموسم جديد و يبشر (فاطمة) بمزيد من النجاحات ، صارحته بأنها لا تريد أدبا عالميا و لا فنا رفيعا بسبب الأزمة التى تعانيها ، و لكنه قال لها أن الازمة عالمية و ليست فى الفن وحده ، فقد كان العالم كله يمر بظروف اقتصادية قاسية بدأت فى نهاية العشرينات بانهيار البورصة الأمريكية الذى أثر بالطبع على حركة التجارة العالمية فيما يعرف باسم (الكساد الكبير)، و كان له تأثير مدمر على كل الدول تقريبًا الفقيرة منها والغنية ، حيث انخفض مستوى دخل الفرد فى معظم دول العالم و ارتفعت البطالة و تضررت بريطانيا من تلك الأزمة بشدة – و هى الدولة التى تحتل مصر – حيث سعى معظم المستثمرين إلى سحب ذهبهم من بنوك لندن إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة هناك.
انعكست تلك الأزمة الاقتصادية على كل مناحى الاقتصاد المصرى ، خاصة و أن هذا الاقتصاد كان يرتكز على بيع محصول القطن المصرى للخارج – بعد أن حولت بريطانيا مصر إلى مجرد مزرعة للقطن تورده لمصانعها – فلما قل الطلب على القطن نتاجا للأزمة و انخفضت أسعاره انخفضت أيضا عائدات العائلات الأرستقراطية المالكة لمعظم الأراضى ، ثم سرعان ما تجمع محصول عدة سنوات دون بيع فانهار أيضا الاقتصاد المصرى أو كاد فأفلست شركات و أغلقت محلات ، حتى اضطرت الحكومة لخفض المرتبات العالية . و مع اشتداد الأزمة زادت معدلات الجريمة وأيضا معدلات الانتحار ، فهل يزدهر مسرح فى ظل تلك الظروف ؟
و لكن كل هذا لم يكن فى ذهن فاطمة – غالبا – و هى تصرخ فى عزيز : كفى ، بل كانت صرختها نابعة من إحساسها بإسرافه دون حساب للمكسب أو الخسارة مادام يحقق أحلامه الفنية و ينفذ خيالاته التى يراها . و كما تقول فى مذكراتها دخل عليهم (نجيب الريحانى) فى تلك اللحظة ليدور بينهم الحوار التالى، (والذى نقلته حرفيا فى عرض (يا عزيز عينى) الذى قدمته فى افتتاح المهرجان القومى للمسرح هذا العام و لكن بصيغة عامية سهلة) :
نجيب : فيه ايه ؟ مالكم ؟ صوتكم جايب آخر عماد الدين
عزيز : مفيش .. الحالة مش و لا بد.
نجيب : مش معقول ! كل المواسم الناجحة دى و كل الإقبال الفظيع ده كله و تقولى الحالة مش ولابد ؟، ده انتو الفرقة الوحيدة اللى لما بتشتغل بتقفل شارع عماد الدين ويجيبوا البوليس عشان ينظم طوابير الناس اللى عاوزة تتفرج ، و بعد ده كله تقولى الحالة مش و لابد؟!
فاطمة : فعلا مش ولابد ، تصور ؟
نجيب : يبقى انت السبب يا عزيز ، انت مخك ايه حتة خشب ؟ حجر ؟ معاك جوهرة تجيب ملايين و تقول الحالة مش ولا بد ، يا أخى سيبك من الفصحى و الروايات العالمية ، اقتبس يا أخى و مصّر ، قلل من المصاريف ووفر.
عزيز : احنا بنعمل فن رفيع ، لأن المسرح مدرسة.
نجيب : أيوه مدرسة ماقولناش حاجة ، بس المدرسة دى لازم تقدم حاجة يفهمها التلاميذ.
عزيز : اللى الناس مش هتفهمه النهارده هتفهمه بكره.
نجيب : شى لله يا بكره ، احنا عايشين النهارده ، طب ياسيدى بدل الألوفات اللى صرفتها على المناظر الضخمة و الملابس الفخمة ، و بدل الحفلات المجانية للطلبة ، و بدل ما كنت تتبرع بدخل الحفلات فى العراق لمنكوبى الفيضان بدل ده كله كنت شيلت حاجة لبكره يا بتاع بكره . كنت فكرت فى غدر الزمن . ذنبها ايه الست المسكينة دى تستحمل جنانك ؟
عزيز : مجنون بس عاجبني جناني (يخرج).
نجيب (لفاطمة) : معلش أنا دايما أقول عليه مجنون لكنه فى الحقيقة عبقرى.
و تضيف فاطمة فى مذكراتها : تعددت مناقشاتنا أنا و عزيز و كثر الجدل العنيف ، فلم نر بدا من أن يترك أحدنا الآخر، و تعقب الفنانة القديرة (صفاء الطوخى) على ذلك الموقف فى كتابها عن عزيز عيد قائلة : (هاقد تم الطلاق الثانى بين عزيز وفاطمة، و لكنه كان طلاقا مسرحيا هذه المرة ، فأسدل الستار إلى الأبد على فرقة فاطمة رشدى، و لم يحطم (بيجماليون) تمثاله و إنما تركه فى سلام ، ذهب بعيدا و قد عاد وحيدا من جديد . يحاول عبثا إنشاء فرقة مسرحية جديدة يستطيع من خلالها أن يعطى المزيد مما يحويه فى جعبته الواسعة من تفانين هذه اللعبة السحرية المسماة بالمسرح).
و لكن هذا الطلاق الفنى مابينه و ما بين فاطمة كان طلاقا بين الحظ و بين عزيز
و لهذا حديث آخر …