زاهي وهبي .. انطباعات متفرج كاد يقفز من الصالة إلى خشبة المسرح في (3 دقات)
كتب : أحمد السماحي
زاهي وهبي واحد من أنجح الإعلاميين العرب، الموجودين حاليا على الساحة العربية، مسيرته الإعلامية تقترب من الثلاثين عاما، قدم خلالها كل ما هو جميل وراق، رأس (زاهي) مليئة بالأفكار المختلفة، وأعماقه تمتلء بالرغبة في صنع خطاب إعلامي متميز يحمل اسمه، خطاب يخاطب العقل أكثر مما يدغدغ المشاعر، ويستفز التفكير أكثر مما يدعو للتسلية، ويعبر عن الواقع أكثر مما يهرب منه، أجمل ما في تجربته الإعلامية من خلال البرامج التى قدمها خاصة (خليك بالبيت)، و(بيت القصيد) أنه استضاف وجوهاً وأسماء غير مستهلكة أو مكررة، أو ضيوفاً ربما غير موجودين دائماً في دائرة الضوء والاستهلاك الإعلامي، وذلك حتى يرى المشاهد تجارب مختلفة يُسلط الضوء عليها للمرة الأولى أو لمرات نادرة.
أهم ما يميز مدرسته الإعلامية احترام الضيف وعدم إشعاره بأنه في جلسة استجواب أو أنه يتعرض لعميلة استفزاز مجانية بالأسئلة، وهذه الطريقة في إدارة الحوار جعلت الضيوف يبوحون بأشياء أكثر لم يفشوا بها في برامج أخرى أو حوارات أخرى.
لا تقتصر رحلة (زاهي وهبي) ومشواره على عمله التليفزيوني فقط، ولكنه مارس الصحافة وكتب في أكثر من جريدة ومجلة، كما له العديد من الكتب والدواوين الشعرية التى طرحها مثل (خطاب الحيرة، صادقوا قمرا، في مهب النساء، لمن يهمه الحب، ماذا تفعلين بي، هوى فلسطين، تعريف القبلة، انتظار الغريبة، حبر وملح 1 – مرئي ومكتوب، حبر وملح 2 – جهة الصواب، رغبات منتصف الحب، كيف نجوت، راقصيني قليلاً، يعرفك مايكل أنجلو، تتبرج لأجلي، بيروت – المدينة المستمرة، قهوة سادة في أحوال المقهى البيروتي) وغيرها.
ورغم كثرة هذه الكتب والدواوين إلا أنه اعترف في أحد حوارته إنه ليس كائناً مكتبياً وليس لديه مكتب أساساً، وأنه يستخدم المقهى كمكان ومتنفّس للخروج والجلوس مع الأصدقاء وأيضاً كمكان للعمل بمعنى أنه يحمل معه أوراقه وكتبه، ودفاتره، ويحضر لبرامجه في المقهى، كما يكتب قصيدة أو مقالاً في المقهى، وبالتالي جزء كبير من وقته نهاراً يكون في المقهى، والجزء الثاني الليلي يكون في المنزل، فهو إلى حد ما بيتوتي.
هذا الأسبوع في باب (نجوم لكن أدباء) نتوقف عند كتابه الجميل (3 دقات) الذي صدر عن (الدار العربية للعلوم) والذي رصد فيه مجموعة من التجارب المسرحية التى قدمت على خشبة مسارح بيروت لمجموعة من أشهر نجوم المسرح العربي، وأهداه إلى أستاذه (شوقي أبي شقرا) أبيض القلب والقلم واللسان، وقال: (ما كان هذا الكتاب ليكون لولا شوقي أبي شقرا الذي علمني الصبر وطول الأناة والرحابة والخفر، واحترام الرأي الآخر فعلا لا قولا)، ويقع الكتاب في 430 صفحة من الحجم المتوسط.
مقدمة الكتاب عبارة عن قصيدة شعر في بيروت، فالكتاب تغزل في هذه المدينة الساحرة كما تغزل (نزار قباني) في مدينته دمشق، فيقول زاهي : هذا الكتاب (كتاب حب، حب لبيروت وللمسرح في بيروت، المدينة الأليفة الضارية، الوديعة الشرسة، الحنونة القاسية، الفاتنة والمفتونة، العاشقة والمعشوقة، العصية على الترويض، المتمردة على التدجين، التي تستحوذ على مريديها فيصيرون (بيارتة)، أي تحل فيهم مثلما يحلون فيها، بكل ما يعنيه هذا (الحلول) من تماه وتوحد واندماج كلي بين العاشق ومعشوقه، وما يضمره هذا التماهي المطلق من تجانس الثنائيات وتنافرها، تماماً كما تتجانس الحياة والموت، ويتنافران ويترافقان في مشوار يبدأ ولا ينتهي).
كتاب (3 دقات) حب للمدينة ولمسرحها وما بينهما، فكسر (الجدار الرابع) كما يحلو القول لأبناء الكار المسرحي، يفتح الخشبة، لا على الصالة فحسب، بل على المدينة برمتها، فـ (اللعبة) التي تحرض الصالة وتحركها وتثير فيها الدهشة والانتباه، لها المقدرة على الفعل نفسه في المدينة وناسها، هنا لا يعود سحر الخشبة مستحوذاً على المتفرجين داخل الصالة، إنه يتجاوزهم إلى أبعد منها بكثير في حركة تبادل جدلية بين المدينة ومسرحها.
في هذا الكتاب يشهر (زاهي وهبي) حبه للمدينة، ويقول: (بيروت مسقط قلبي، هذه نصوص مكتوبة بالحبر، صح، وحبر بيروت شهي كرغيف سخن لأن محبرته الحرية لكنها مكتوبة بالعرق كذلك، عرق الكدح اليومي المتواصل في مهنة، تكاد تكون محنة حين لا تعطي أهلها وناسها، كما الوجود نفسه، فرصة الكف عن طرح الأسئلة، ربما تبدو بعض هذه النصوص، في بعض لحظاتها ومفرداتها وخلاصاتها على شيء من الشدة أو القسوة، يشفع لها في شدتها وقسوتها أنها سمة البدايات وقسوة المحب الذي لا يرضيه من محبوبة خفوت أو فتور أو نقصان أو بهتان.
لا تزعم هذه النصوص لنفسها أكثر مما هى مجرد جزء من ذاكرة، وصفحة من كتاب المدينة، لن يشطبها أحد بعد الآن، فها هي صارت طي دفتي كتاب مداده عرق الجبين وحبر الروح، وريشته العصب المتوتر المشدود المتأهب لكل جديد حفاوة ومساجلة في آن، ليست تأريخاً ولا أرشيفاً ولا نقداً، إنها انطباعات متفرج كاد يقفز من الصالة إلى الخشبة.
في كتاب (3 دقات) يتحدث زاهي وهبي عن تجارب مسرحية غاية في الأهمية لعدد كبير من نجوم المسرح العربي منهم (بول شاؤول، رفيق علي أحمد، روجيه عساف، نضال الأشقر، سعد الله ونوس، جواد الأسدي، يعقوب الشداروي، فاضل الجعايبي، منصور الرحباني، زياد الرحباني، جيرار أفاديسيان، سهام ناصر، شكيب خوري، جلال خوري، عبيدو باشا، ميشال جبر، يحيي جابر، ربيع مروة، جهاد سعد).
أحلى ما قيل في هذا الكتاب ما قالته الإعلامية (رابعة الزيات) زوجة (زاهي وهبي) إذ قالت وهى تطوي صفحة الكتاب الأخيرة لحظة إتمامها قراءته: (شعرت أنني متفرجة لا قارئه فقط)، وهذا وكما ذكر (زاهي) أمتع ما يمكن أن يسمعه كاتب عن مسرح ومدينة، وهنا روعة الحبر إذ يقول ما لا تستطيعه كاميرا أو شريط تسجيل، لأنه متفوق عليهما بمقدرته على ملامسة الأعمق في النفس البشرية والذهاب إلى الأبعد في الذات الإنسانية.
(3 دقات) كتاب ضد النسيان، إنها دقات ثلاث ستظل تُقرع عساها تُسمع من ينبغي لهم أن يصموا قلوبهم عن نبض المدينة، نبض الحياة.