بقلم الكاتب الصحفي الكبير : سمير الشحات
تقديم أول: بادئ ذى بَدء، فإن كلمة (سوسيولوچى) ليست لفظا خارجا جارحا، ولا هى باللفظ الغامض غموضا يستغلق فهمه على الجمهور العريض. إنها مصطلح يعنى (علم الاجتماع).
تقديم ثانٍ: لم يقدم لنا التاريخ، ولا مؤرخوه، ولا دارسوه، تأكيدًا أو برهانا، على أن حَميدة (بفتح الحاء) كانت مدركة أو متعمدة أو حتى واعية أصلا للمضامين، والمقاصد، والدواخل الحقيقية لشكواها للعمدة من تجرؤ ابنه حِميدة (بكسر الحاء) عليها، وحدفها بال (سفندية). لقد كان ما صدر عنها هو مجرد رد فعل طبيعى وعفوى وتلقائى حين بوغتت بسقوط السفندياية على الصدر مباشرةً.. وهذه شهادة للتاريخ.. والآن إلى المقال:
واقعة الجسر
تبدأ الأغنية، التى شدت بها المطربة إلهام بديع قبل خمسين سنة، بسرد واقعة قد تبدو للقارئ المتعجل بسيطة، وما هى بالبسيطة، تقول: يا حضرة العمدة/ ابنك حِميدة حدفنى بالسفندية / وقعت على صدرى / ضحكوا علىَّ زُملاته الأفندية.
إنك لو كنت من أبناء الريف، فإنه سيكون من العادى جدا أن ترى فى أمسيات الصيف، ونسائمه الخلابة، مجموعة من الفتية، طلاب المدارس، يتسكعون جيئة وذهابا فوق جسر القرية، يتسامرون ويتضاحكون وربما يمصمصون القصب، أو يقزقزون (اللِّب).. و (أين سيذهبون وقد أغلق مركز الشباب بابه فى وجوههم لأسباب لا يعلمها سوى الخالق سبحانه؟).
ثم إنه من العادى جدا أن تتمشّى فوق الجسر – وفى التوقيت ذاته وياللغرابة! – مجموعة من العذارى الحلوات الخجولات (كِده وكِده). ولو أمعنت النظر لفهمت أن خرّاط البنات قد انتهى قبل لحظات من خرط الثنايا والمنحنيات والدوائر والمكعبات خرطا فيه من الروعة ما يخطف الأبصار، ويشتت الألباب. ستعرف على الفور من الغمزات واللمزات والزغدات المتبادلة، أنهن بنصف فتحة العين، إنما يسعيْنَ إلى لفت نظر هؤلاء الواقفين تتأجج فى أوصالهم نار تكاد تحرق القرية كلها.. وكيف لا وأنهار الإغراء والدلال والدلع الموروثة عن الأم الأولى (حواء) تسكب رذاذها عليهم؟
وعادى جدا كذلك أنه فى نفس ذات عين اللحظة سوف يسرى تيار، هو والكهرباء سواء، يصل بين الأعطاف المتمايلة فى غنج والأوصال والمفاصل المرتعشة شوقًا ورغبة. تيار تختلط فيه الهمسات المبحوحة بالضحكات المكتومة عن عمد، باللعاب المنسال بحورا من الأشداق فوق الأذقان.
هنالك يشتعل الحطب (حطب الرغبة المشبوبة) فى ركبتى حِميدة، ابن العمدة، المختال كالطاووس بجلابيته التى أهداه إياها (أبويا العمدة) بمناسبة نجاحه فى الثانوية. هُبْ.. يمد الولد الشجاع يده، فيقذف أجمل الحوريات المتهاديات أمامه بالـ (سفندية”.. وتقوم القيامة. (للتذكير، الحلوة الغندورة، وبالصدفة البحتة، اسمها – حَميدة – والواد اسمه حِميدة.. و ياللمصادفة!!!).
٣ تساؤلات
إن المقطع الأول للأغنية، ويسميه أهل الحرفة المذهب، يبعث فى الرأس بثلاثة تساؤلات تهم علم الاجتماع (السوسيولوچى). أولها: لماذا الذى ألقى بالسفندياية المقدسة تلك هو ابن العمدة وليس فتى من الفتيان آخر؟.. هل هى الثقة التى أضفاها على الولد كون أبيه هو حضرة العمدة، ممثل السُلطة ونائبها فى القرية؟. والتساؤل الثانى هو: لماذا تعبر (السفندياية) كل تلك الآفاق والمسافات فتسقط على الصدر، هل الصدر امتياز يختص به أبناء المحظوظين الكبار فقط؟.. ثم الثالث، لماذا لم تسكت البنت، وتضع لسانها فى (حلقها) وتخرس؟.. هل تألمت فعلا.. أم أنها كانت تتباهى على قريناتها بأن الباشا، ابن الباشا، اختارها هى من دونهن؟.. هل نحن أمام مثال على الظاهرة السوسيولوچية بأن (القط يحب خَنّاقَه)، وأن ممارسة فعل السلطة يقتضى وجود علاقة سرية من الرضا، والاستمتاع، بل والتلذذ، بين القط والخنّاق؟
استغاثة وتحذير
تمضى بنا الأغنية فنسمع حَميدة تستغيث بالعمدة (أبى حِميدة): يرضيك يا عمدة / عشان ابن عمدة / يعمل كِده كده فِيّا / يا ابو حميدة / ما تحوش حميدة/ فى عيون حَميدة وسحرها ها يروح ضحية!!!
نحن هنا، سوسيولوچيًّا، أمام حوار فى ظاهره الشكوى والاستغاثة، وفى باطنه مصيدة يلجأ إليها المُستضعفون لجذب الفريسة التى تظن أنها الأقوى، استقواءً بالسلطة، وما هى بالقوية. ولقد صرحت حَميدة بالأمر دون مواربة: ها يروح ضحية. ولاحظ هنا أن جذب الفريسة لن يكون بقوة البطش، فهذا لا يجدى نفعا مع العمدة / السلطة، بل لجأت حميدة لأدوات جمال العيون، وسحر الأرواح والأجساد، والحلاوة.. وتلك أسلحة حواء منذ خُلقت حواء.
عزف أوتار الشرف
ثم تقول البنت: حَميدة حلوة / غنيوة حلوة / سيرتها حلوة فى البلد / ما هيش رضية / إحنا غلابة / وما احناش غلابة / كنز الغلابة وسعدهم شرف البِنيِّة.
ها ذى قد اكتملت إذن حلقات المصيدة. (الشرف)، وما أدراك ما خطورة الشرف عند الفلاحين إذا تم التلويح به. إن البنت حلوة ما فى ذلك شك، لكنها – يا ولداه – فقيرة (إحنا غلابة)، لكن منذ متى والفقر عيب؟ هنالك تستدرك البنت: (وما احناش غلابة). صحيح فقراء، لكن العقل الجمعى للمصريين يستقر على أن الكنز الحقيقى للبنت هو شرفها، وليس أموالها، ولا أموال أبيها. شرف البنت يا سيد حِميدة، مثل عود الكبريت، منطقة نارية هو، فممنوع الاقتراب. ها هى بنت الإيه تضرب على وتر لا يمكن صده، أو مقاومته.
طيب يا حلوة إذا كنتِ تلعبين مع العمدة (السلطة) لعبة الشرف، لماذ اخترتِ الصدر تحديدا؟ آآآآه.. هذا مكر البنات يا كابتن. إن الصدر هو البوابة السحرية نحو الفراديس الشهية التى لا يمكن الولوج إليها إلا بالزواج يا بنت العفريتة.. فهل ينخدع حضرة العمدة بالمصيدة؟، مستحيل.. فهو السلطة!
الخروج من المصيدة
انظر إلى ردود العمدة على البنت.. قال: لا/ لا /لا /لأ.. ثم: إيه هيه.. ثم: إزاى كِدِه. وأيضا: عمل إيه حِميدة؟. السلطة ما كان لها أن تثرثر، بل كلماتها قاطعة، وقليلة، ومتشككة دائما (إيه هيه)، ومراوغة أحيانا: وهو حميدة عمل إيه يعنى؟.. حتة (سفندياية) وحدفك بيها.. خربت الدنيا؟. روحى يا بنت شوفى لك أهبل تانى غيرى.. آل (سفندياية) آل.. امشِ يا بنت امشِ.. مشش فى ركبك. ويستمر الكر والفر بين حَميدة والسلطة!