بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كان تلاميذ (عزيز عيد) يجلسون على المقهى فى انتظار عودته من لقائه مع (جورج أبيض) وهم يمنون أنفسهم بفرقة جديدة ستضمهم بقيادة أستاذهم ، ليحققوا أحلامهم بمسرح مختلف يحترم العقول و يرقى الأذواق . و لكن الأستاذ عاد مكتئبا ، و كان من عادته إذا أصابه الاكتئاب أن يبقى صامتا ، عازفا تماما عن الكلام ، و مهما بذل أصدقاؤه و تلاميذه من جهود فإنه يبقى على صمته حتى يتجاوز أسباب الاكتئاب ، ولم تكن تلك الفترة تطول لأكثر من أسبوع ، بعدها يعود لسابق عهده. و ذات يوم ضحك فجأة و مضى يحكى لهم بسخرية عن مقابلته مع (جورج) و كيف صارحه بأنه لن يدفع له نصيبه من رحلة فرقته إلى الوجه البحرى ، و مضى يقلد (جورج) الذى كان معروفا عنه البخل الشديد و الحرص على المال ، و تحول الموقف إلى فكاهة و نكتة على لسان (عزيز) ، فتناقلها الجميع .
و بعد أن تخلص من اكتئابه قرر (عزيز) الانتقام من (جورج) الذى كون فرقة جديدة و طلب منه أن يكون مخرجها فاقترح (عزيز) أن تكون الفرقة الجديدة أضخم الفرق جميعا ، و أن تتخصص فى تقديم المسرحيات الغنائية الاستعراضية الحافلة بالملابس و المناظر ، و لا يليق بهذه الفرقة و أعمالها إلا مسرحا فخما . و قد أعجب (جورج) بالفكرة و أسرع فى تنفيذها فأجّر أفخم المسارح و أجملها و هو مسرح (الرينيسانس – مكان سينما ريفولى حاليا ) بمبلغ خرافى بمقاييس ذلك الزمن . و اشترى مسرحية استعراضية اختارها (عزيز) ، تحتوى على غناء و رقص و مونولوجات كتبها مصارع شهير فى ذلك الوقت اسمه (عبد الحليم المصرى) ، و تعاقد مع الملحن الشاب (السيد درويش) – الذى لم يكن مشهورا فى ذلك الحين – لتلحين أغانى المسرحية .
و مضت الفرقة فى العمل ، و فى كل يوم يدفعه عزيز لمزيد من المصروفات و يسبب الأسباب كى ترتفع التكلفة ، مقنعا (جورج) بأنهم سيقدمون مسرحية العمر ، حتى أن (جورج) أنفق على الدعاية مبلغا كبيرا . و يروى لنا (يوسف وهبى) فى مذكراته كيف بلغ (عزيز) قمة الشيطنة – كما يقول – حين أقنع (جورج) بتمثيل البطولة الغنائية ، فتحمس (جورج) للفكرة و عكف على العمل فى بروفات الأغانى . و فى يوم العرض وقف (جورج أبيض) بقامته الضخمة و صوته العريض يغنى بصوت نحيف ممزق و قد نسى اللحن و ضوابط النغم فبعث الاضطراب فى الفرقة الموسيقية . و أسدل الستار نهائيا على هذه المسرحية الكارثة بعد أسبوع واحد بسبب فشلها الذريع و خسارتها الفادحة التى أسعدت (عزيز) و جعلته يحس بالتشفى . و بعدها عاد (جورج) إلى رواياته القديمة محتفظا بهدوء أعصابه المشهور عنه و ظل (عزيز) مخرجا للفرقة و إن ظلت خلافاتهما لا تنقطع و حوادثهما المضحكة تتوالى.
و قد ساعد على استمرار العلاقة بينهما أسباب كثيرة ، ربما أقواها أن هذه لم تكن المرة الأولى التى لا يتقاضى فيها عزيز أجره المتفق عليه ، فهناك مرات أقسى و أمر تركت علامات و ندوب فى نفسيته . فكما تروى لنا الفنانة القديرة (صفاء الطوخى) فى كتابها ( عزيز عيد .. طائر الفن المحترق ) أن عزيز فى أحد المرات النادرة التى تنازل فيها عن حلمه و اضطرته الظروف إلى الرضوخ و القبول بالعمل وفق مقتضيات السوق فى ذلك الوقت ، لم يتقاض أيضا أجره . فكما تروى الطوخى أنه بعد فشل مسرحيته المصرية (القرية الحمراء) ، و صعود نجم (كشكش بيه) و انتشار الروايات (الفرانكو آراب) ، ظل عزيز بلا عمل حتى أقنعه صديقه (أمين صدقى) بالعمل فى (كازينو دى بارى) الذى تملكه مدام مارسيل فى مقابل مبلغ 500 جنيه شهريا . و كانت وسيلة الاقناع التى اتبعها (صدقى) مع (عزيز) سهلة : سوف تتعاقد معها لمدة 6 شهور فقط ، و سوف تستطيع توفير مبلغ 300 جنيه شهريا على الأقل ، فيجتمع لديك بعد تلك الشهور 1800 جنيه يمكنك أن تقدم بها الرواية المصرية المحترمة التى تحلم بها .
و بالفعل اقتنع (عزيز) و لكن الطبع يغلب التطبع ، فمضى يعمل على نص فرنسى مع (أمين صدقى) فيه موضوع و يتميز بحبكة درامية و مليئ بالمفاجآت ، فقاما بتمصيره تحت اسم ( حنجل بوبو ) و ضم للفرقة ممثلين جدد ، منهم الشابة دولت القصبجى ( دولت ابيض فيما بعد ) و شاب هاوى يلقى بعض المنولوجات فى الحفلات المدرسية و الخيرية اسمه يوسف وهبة ( يوسف وهبى )، و بدأت عروض المسرحية أثناء الحرب العالمية الأولى أمام جمهور من عساكر الامبراطورية البريطانية السكارى الذين وجدوا يوم الافتتاح شخصا واحدا وسطهم يرتدى الطربوش فطردوه!!، و لم يفهم هؤلاء الجنود شيئا من المسرحية بسبب لغتها العربية ، فاستمروا فى الضجيج و العربدة و بعد أربعة ليالى فقط من العرض قام الجنود بإلقاء قنابل من البيض الفاسد و الطماطم على الممثلين و هم يؤدون أدوارهم . و باظت الليلة.
و فى الصباح ذهب (عزيز) إلى الكازينو فإذا بالبواب يمنعه من الدخول و يلقى بملابس الممثلين على الرصيف ، فذهب إلى (مدام مارسيل) التى أبلغته بانتهاء العمل ، و لما طالبها ببقية أجره قالت له : أرنى العقد لأعرف كم المبلغ الباقى لك . و عندما سلمها العقد مزقته و ألقت به فى وجهه و قالت له بالفرنسية اخرج بره .
وقف (عزيز) مذهولا و كأن نفسه تحدثه ( رضينا بالهم و الهم مش راضى بينا )، لقد تنازل و قبل أن يعمل بشروط السوق و هاهو السوق يلفظه . و عندما استجمع نفسه قال لمدام (مارسيل) فى غضب : حقا انك امرأة رخيصة . فقالت له ساخرة : لم تقل شيئا جديدا.
كانت تلك الواقعة قبل التحاقه بفرقة (جورج أبيض) ، و لذا لم تكن صدمته فى (جورج) كبيرة ، و بعد قليل من الوقت سيعود إلى صديقه (الريحانى) ليقدما العشرة الطيبة ، و لكن سنوات المجد ستأتى عندما يلتقى بتلميذه الذى كان يهوى إلقاء المنولوجات بقامته الطويلة و صوته الأجش و أنفه المقوس!
و لهذا حديث آخر..